مقاربة لا سلطوية للوضع الفلسطيني وإعادة بناء المجتمع من خلال تنظيم المجتمعات المحلية

[لوحة للفنان اسماعيل شموط] [لوحة للفنان اسماعيل شموط]

مقاربة لا سلطوية للوضع الفلسطيني وإعادة بناء المجتمع من خلال تنظيم المجتمعات المحلية

By : Nisreen Mazzawi نسرين مزاوي

(1)

طالما تساءلت حول نجاعة التحرر من خلال مشروع قومي يتمثل بإقامة دولة قومية، خاصة في زمن بات فيه من الواضح فشل نموذج الدولة القومية بالإجابة على العديد من القضايا الكونية والوجودية. إضافة إلى أن غالبية الدول القومية في العالم باستثناء بعض الدول الإسكندنافية، هي دول قامعة توجه عنفها نحو الداخل لإخضاع مواطنيها لنمط سياسي واقتصادي معين. وكثيرا ما قيل لي، في حينه كناشطة ناشئة في مطلع العشرينات من عمرها، أي قبل عقدين تقريبًا، إنه لا بد للتحرر القومي أن يسبق اشكال التحرر الأخرى. ولطالما جادلت هذه الفرضية حيث ادعيت بأنه لا تراتبية بين أنواع التحرر فحريتي الشخصية تنبثق من حرية شعبي وحرية شعبي لا تنفصل عن حريتي.

وربما قد يكون من حسن حظنا فشل مشروع أوسلو وفشل مشروع الدولة الفلسطينية التي كان من المفروض أن تقوم على أساسه، حيث أن النظام العالمي الحالي يفرغ الدول القومية من جوهرها ويحولها إلى ماكينة عنف وبيروقراطية. ولا يوجد أي سبب يجعلنا نعتقد أن الدولة الفلسطينية سوف تكون مختلفة في نهجها عن باقي الدول الأخرى. بالإضافة، إذا تأملنا بالتحديد الدول القومية التي قامت بعد استعمار، نجدها بغالبيتها أنظمة مستبدة وفاسدة، وبما أن هذه ظاهرة عالمية عامة فلا بد أن نسأل ما هي هذه المنظومة العالمية التي تثمر استبدادا وفسادا في دول العالم الجنوبي ونزاهة وأخلاقا في دول العالم الشمالي؟ وهل هناك أي فرصة لدولة فلسطينية أن تكون داخل هذا النظام العالمي وأن تخالف قواعده؟ وبما أن مشروع الدولة بشكل أو بآخر بات مستعصيًا، وحتى وإن نجح فإنه لن يكون تحرريًا، فعلى المشروع الفلسطيني الوطني أن يتحول لمشروع بناء مجتمع بعيدًا عن وبدون أي علاقة بمشروع الدولة القومية. وليس هذا الطرح نفيًا لمشروع الدولة أي كان، إلا أنه لا يعول عليه. 

(2)

في تلك السنوات – السنوات الأولى التي لحقت الانتفاضة الثانية - كنتُ قد انخرطتُ في صفوف مجموعات نسوية وأخرى سياسية لا سلطوية مارست العمل المباشر ضد الاحتلال وضد بناء جدار الفصل العنصري. وكان ما قد جذبني إلى هذه المجموعات هو مبدأ رفض ديمقراطية الأغلبية[1] واتباع مبدأ الديمقراطية المباشرة واتخاذ القرارات بالتوافق والإجماع. ففي المركز النسوي في حيفا، على سبيل المثال، يجتمع ال"كولكتيف" شهريًا، وفي هذه الاجتماعات تتم مناقشة الأفكار المبدئية والمبادرات والاقتراحات الجديدة. لفترة طويلة لم أشارك في اجتماعات "الكولكتيف" فقد بدت لي جافة ومملة واقتصر نشاطي على المشاركة في النشاطات العملية للمركز إن كانت مؤتمرات، ورشات عمل، احتفالات، مظاهرات وغيرها. لاحقًا أدركتُ أن "الكولكتيف" هو المكان الذي تُتخذ فيه القرارات ويتم هذا بالتوافق والإجماع، مما يعني أن النقاش قد يستمر ويطول لعدة ساعات أو حتى لعدة لقاءات.

كذلك الأمر في المجموعة السياسية "تعايش" وقد التحقت بها في حينه بسبب النشاط المباشر ضد الجدار. وفي الاجتماع الأول الذي شاركت فيه، بعد أكثر من ثلاث ساعات على النقاش، سأل أحدهم إن كان الجميع موافقين على الاقتراح، وكانت قد جلست إلى جانبي ناشطة تعرفتُ عليها في بداية الاجتماع وقد حثتني على المشاركة والإعلان عن موقفي: موافقة، معارضة أو ممتنعة. صراحة لقد خجلت من إبداء أي موقف خاصة وإنه أول حضور لي في المجموعة فامتنعت. واتضح لي فيما بعد أنه في حال ابديت أنا أو أي مشارك آخر اعتراضاً على القرار فإن النقاش كان سوف يستمر في تلك الليلة الى أن يُعدل الاقتراح إلى شكل وصيغة يوافق عليهما الجميع. وقد يستمر النقاش في قضايا معينة ساعات وأحيانا أياما تعمل من خلالها المجموعة على تطوير اقتراح ينال الإجماع. أما الحالات المستعصية فإنها تؤدي إلى أزمة داخل المجموعة وأحيانا إلى انشقاق، وبما أن المجموعة تحاول تفادي الانشقاق وتسعى للحفاظ على أعضائها يتم التعامل مع الاعتراضات بقدر من المسؤولية ويتم بذل جهد كبير للتوصل إلى توافق واجماع. فيما بعد علمت بأن هذا ما يسمى بالديمقراطية المباشرة، لكل عضو فيها حق الفيتو، يستطيع من خلاله تطوير عمل المجموعة أو تعطيله، ولا توجد هرمية بين المشاركين ولا أفضلية للمشاركين الدائمين على المشاركين الجدد أو للخبراء على الأقل خبرة. ويتبع هذا النهج في المجموعات النسوية الراديكالية - أي الجذرية، وليس "المتطرفة" كما تترجم بشكل خاطئ ومسيئ للفكرة – وأيضًا في المجموعات اللاسلطوية، أي الأناركية، وتترجم هذه أحيانا الى العربية بشكل خاطئ كـ"فوضوية" وهذه أيضًا ترجمة مسيئة للفكرة حيث أنه لا يوجد أي فوضى في اللاهرمية. 

مضت السنوات وتفرقت مجموعة تعايش الشمال، تلك التي نشطتُ في صفوفها. أما المجموعة النسوية في حيفا والتي بدأت نشاطها في سنوات السبعينيات المتأخرة وأسست لاحقًا في العام 1983 المركز النسوي في حيفا وانبثقت عنها العديد من النشاطات والمبادرات الاجتماعية فما زالت تعمل إلى اليوم. والمثير في هذه المجموعة حقًا هو قدرتها على بناء مجتمع محلي (community) والمحافظة عليه بشكل نشط وفعال ومثمر لفترة طويلة نسبيًا، تعدت حاليًا الأربعة عقود. وتهتم الناشطات في هذه المجموعة "بألا تكون مشاريعها أكبر منها"، وهذا هو عمليًا السبب بأن العديد من المؤسسات النسوية الرائدة في مجالها بدأت كمبادرة صغيرة في المركز النسوي الذي يعمل بمثابة حاضنة فكرية وإيديولوجية. لكن عندما تنمو هذه المشاريع وتكبر تستقل عن المجموعة وعن المركز بحيث لا تشل نشاطه ولا تعيق تطور أفكار ومبادرات إضافية. ويعمل المركز النسوي بالاعتماد التام على النشاط التطوعي، وعادة ما يقتصر الطاقم على ثلاث أشخاص بوظائف جزئية: مركزة عامة، ومجندة موارد، ومحاسبة. ويرفض المركز ميزانيات التمويل الكبيرة. وفي حين تعاني العديد من الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية من التبعية الاقتصادية ومن ضيق وصعوبة في تجاوز الأزمات الاقتصادية، إلا أن المركز النسوي في حيفا يزداد نشاطه خلال الأزمات الاقتصادية، فكمية الأعضاء والمتطوعات المعنيات بوجود الـcommunity   لذاتها وليس كمكان عمل أو كمصدر دخل هي فائقة، والدور الذي تلعبه هذه الـcommunity   بحياة كل المشاركات فيها كما وفي حياة مدينة حيفا والنساء عامة كبيرٌ جدا.

بالإضافة إلى هاتين التجربتين شاركت خلال العشرين سنة الماضية بثلاث مبادرات اجتماعية إضافية كان من المفروض أن تتطور كمجتمع محلي، وكنتُ أود لو تعمل هذه بشكل لا هرمي ولا سلطوي وأن تتبع مبدأ العمل التوافقي والديمقراطية المباشرة، لكن للأسف ثلاثتها فشلت في ذلك. فالمبادرة الأولى عملت لبضع سنوات ثم تحولت إلى جمعية بدون أعضاء تعيش على أموال المانحين. الثانية تبعثرت صفوفها بعد أن طغت الأجندات والصراعات الحزبية على أجندتها الداخلية. والثالثة ضربت بعرض الحائط فكرة التوافق والإجماع في مرحلة مبكرة جدًا من بداية عملها ويتنافس أعضائها اليوم على مناصب في المؤسسة من خلال حشد جمهور افتراضي وجمع أصوات افتراضية في عملية انتخابات نصف افتراضية لأعضاء نصفهم افتراضيين.

جاءت هذه المقدمة كي أقول من خلالها إنه من الممكن إنشاء مجتمعات محلية حقيقية ومن الممكن تنظيم المجتمع والعمل بشكل عادل لا يعتمد على القوة أو على قمع الأقليات، لكن يتطلب هذا الأمر جهدًا كبيرًا واختيارًا واعيًا لمبدأ التوافق والإجماع والالتزام به كمصلحة عامة إضافة إلى الترفع عن المطامع في المكاسب الشخصية المادية أو المهنية وتفضيل الصالح العام على التطلعات الفردية والمصلحة الخاصة. وباعتقادي أن سر نجاح حركات نسوية تحديدًا مقارنة مع مجموعات أخرى، بإنشاء مجموعات محلية مستدامة كامن بالتضامن الجوهري الموجد بين النساء في هذه المجموعات النابع من تجربة جندرية مشتركة بمواجهة القمع والاضطهاد على كافة مستوياته.

(3)

لا تقتصر الديمقراطية المباشرة ومبدأ التوافق والإجماع على المجموعات النسوية ولا على مجتمعات ذات ثقافة غربية كما قد يفترض البعض. فلو نظرنا حولنا سنجد أن العديد من القرارات اليومية التي نتخذها في نطاق العائلة الصغيرة أو الموسعة كما وفي مجموعات الأصدقاء هي قرارات تعتمد على التوافق والإجماع. ويصعب عليّ أن أتذكر ولو حالة واحدة قام بها أفراد من عائلتي الموسعة بالتصويت الديمقراطي على قرار معين، إن كان حول الاحتفال المشترك بالعيد أو حول تقسيم الميراث والأملاك المشتركة. كلها تتم بالإجماع والتوافق أو "بالزعل" ونتيجته طبعا الخلاف والانشقاق. كذلك بالنسبة للأصدقاء، فلا نقوم أبدًا بالتصويت حول المطعم الذي سنلتقي به مثلا، فإما أن نختار مكاناً ملائماً للجميع وإما أن ينسحب من لا يروق له خيار المجموعة. وعلى المجموعة أن تقرر ما هو الأهم لها. إرضاء الجميع من خلال بعض التنازلات أم الإصرار على خيار معين حتى وإن كان ثمنه انسحاب بعض الأعضاء أو الانشقاق؟ وقد يحدث هذا فعلا حول أمور جوهرية للمجموعة.

منذ أيام تجادلتُ مع إحدى الصديقات من المركز النسوي بأن تجربتي العائلية هي في الواقع أكثر ديمقراطية من تجربتي النسوية. فبينما أتماهى في المركز النسوي وأتفاعل بشكل جيد مع مجموعة من النساء اخترتها مسبقا وهم أقرب لي فكريًا، في العائلة البيولوجية التنوع الفكري والايديولوجي بين افرادها هو أكبر، والعمل على تقبل الآخر والمختلف داخل العائلة يحتاج إلى مجهود أكبر. والجهد المبذول من أجل التوصل إلى توافق وإجماع في العائلة هو أيضا أكبر ويحتاج إلى مثابرة أكثر. ولا أغفل عن واقع المجموعات العائلية التي عادة ما يقع فيها ثقل هذا الالتزام على النساء أكثر منه على الرجال، فتقدم النساء التنازلات أكثر من الرجال. لكن كأي مجموعة أخرى، قد يؤدي الثقل المتزايد على الأفراد الى انشقاق – أي إلى خلافات عائلية أو ربما طلاق - وإن افترضنا أن كافة أفراد العائلة أحرار ومستقلون يشاركون طوعياً في العائلة البيولوجية كما هنّ النساء المشاركات في المركز النسوي في حيفا أو في مجموعة الأصدقاء، فسوف تتمكن النساء في المجموعة العائلية من تحديد مدى التنازلات التي تستطيع التعايش معها ومتى تختار الانسحاب من المجموعة والاستقلال عنها. وإن لم تتمكن النساء من ذلك فليس هذا لفشل الطريقة أو لعدم نجاعتها إنما بسبب غياب الاستقلالية الاقتصادية والخيار الحر للأفراد. وطبعا أعلم أن حال 80% من النساء العربيات في العائلة بل وربما 90% منهن لسن مستقلات وليس لديهن الحريّة في الخيارات، لكن هذا لا يقوض فكرة الجوهر الإنساني للديمقراطية المباشرة، حيث أننا كبشر سنسعى عادة إلى التوافق والإجماع وهذه هي الحالة الإنسانية الطبيعية وليس التصويت وقمع الأقليات.

(4)

من هنا أود الانتقال إلى الحالة الفلسطينية اليوم، التي تسودها أجواء من التشتت وضبابية المستقبل الفلسطيني. ففي أجواء تشييع مشروع دولة فلسطينية في الضفة وغزة على أساس معاهدة أوسلو - وقد يكون نجاح هذا المشروع للبعض بمثابة استكمال وتتميم للنكبة - تعود للحياة أسئلة جوهرية حول فلسطين الجغرافية وفلسطين المجتمع وحول المشروع الجماعي الوطني العام وعلى هذا أن يشمل إضافة الى فلسطينيي الضفة وغزة والقدس، فلسطينيي ال48 وفلسطينيي المخيمات وفلسطينيي الشتات أيضًا. وفي ظل نظام عالمي يفرغ الدول القومية من جوهرها ويحولها إلى ماكينة عنف وبيروقراطية في خدمة هذا النظام، على المشروع الفلسطيني التحرري أن يكون مشروع بناء مجتمع شامل لكافة الفلسطينيين أينما كانوا وهذا أسمى وأفضل وأدق من مشروع دولة قومية. ولا يحتاج تنفيذه إلى معاهدات سلام أو إلى قرارات سياسية بل إلى إرادة شعب.

فالنظام العالمي الحالي يقوم على ثالوث الرأسمالية والدولة القومية (كجهاز قمع) وديمقراطية الأغلبية. واتفاقية اوسلو كانت قد صممت المشروع الفلسطيني على هيئة سلطة لدولة - لم يقصد لها أحدٌ فعلا أن تكون - بناء على هذا النموذج. ومن خلال هذه الاتفاقية أُدخِلَت السلطة الفلسطينية إلى النظام العالمي من أوسع ابوابه لتمارس بيروقراطيتها وعنفها ضد الفلسطينيين كما لو كانت دولة كباقي الدول، تؤدي دورها في خدمة الاقتصاد العالمي ورأس المال.  

ويوجد إجماع عام على أن الإنجاز الحقيقي والأهم لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها (1964) إلى اليوم هو إعادة إحياء الهوية الفلسطينية. لكن في ظل الظروف المحلية والعالمية الراهنة نبقى مع السؤال: الفلسطينيين إلى أين؟ وما هي السُبل التي سوف نسلكها الآن نحو التحرر؟ وما هو التحرر الذي نصبو إليه؟ وللخوض في هذا المضمار علينا أولا التحرر من فكرة الحرية الفردية المعتمدة على الاستهلاك، التي جاءتنا من خلال النظام الرأسمالي ذاته، وعلينا إعادة بناء مفهوم الحرية من جديد، حرية تمكننا من تحقيق الذات بعيدًا عن التسليع وثقافة الاستهلاك. بالإضافة علينا مواجهة الواقع: الأفراد غير قائمين بحد ذاتهم. البشر مخلوقات اجتماعية لا يمكنها العيش بشكل مستقل عن الآخرين، ونموذج الحرية الفرداني غير واقعي وهو مجرد حالة اغتراب عن المحيط البشري والاجتماعي والمادي المحيط بنا. وفي الواقع نحن لسنا أحراراً ولا يمكن لنا أن نكون، فحيواتنا جميعا متعلقة بالخباز وبالميكانيكي وبالطبيب وبالمهندس وبعامل النظافة وغيرهم، وكل ما نقوم به بوهم أن هذه هي الحرية وأن هذا هو التحرر ما هو إلا تحايل على مدى الاغتراب عن أعضاء المجموعة التي نعيش فيها وتلاعب بمدى التكاثف والتضامن الاجتماعي والتكافل الاقتصادي الذي يجمع، أو قد يجمع، بيننا. هذا الاغتراب غير الطبيعي والمفتعل لا يمكن تحقيقه بدون وجود دولة تنوب عن الأفراد بتنظيم وإدارة علاقاتهم الاجتماعية وتحولهم خلال هذه العملية إلى عمال، موظفين إداريين ومُستهلكين، وتقمعهم في سبيل تطوير السوق ورأس المال. بالإضافة علينا أيضًا التخلي عن فكرة أن مواطني الدول القومية الديمقراطية هم أحرار. فليحاول أحد هؤلاء المواطنين مثلًا عبور الحدود الدولية بدون جواز سفر كي يثبت حريته، أو ليتأخر عن دفع ضرائبه، أو ليرفض الخدمة العسكرية الإلزامية إن وجدت. هذا ولم نتحدث بعد عن الإحتجاج على النظام القائم والاعتراض عليه أو محاولة تغييره، من أجل هذا تقوم هذه الدول بإعداد قوات من الشرطة مدججة بالأسلحة كما لوٍ كانت جيوشًا. من هنا فأن الحرية الفردية هي حرية متخيلة وغير حقيقية، ففي الواقع كلنا منضبطين بشكل أو بآخر من خلال نظام اجتماعي يجمعنا مع أفراد آخرين بنظام حياة مشترك، والسؤال هو من يصوغ ويفرض هذا النظام ومن يقوم بضبطه؟    

بالإضافة، لا يمكن لنا أن نغفل عن أن نضال التحرر هو نضال كوني عالمي، فالتحرر من كافة أشكال القمع والاضطهاد الذي يسعى إليه الفلسطيني هو ذات التحرر الذي تسعى إليه النساء، ويسعى إليه الأميركيون الأفارقة، ويسعى إليه سكان الدول المستضعفة، هو ذات التحرر الذي تسعى إليه الأقليات الدينية والعرقية والثقافية والجنسية، وتسعى إليه جماعات السكان الأصليين في الأمازون وفي مدغشقر وفي كمبوديا وغيرها. ولا يقتصر هذا التحرر على التحرر من الاستعمار بل يشمل التحرر من وطأة الرأسمالية والدول القومية ومن حالة الاغتراب القسري التي تفرضها هذه علينا وتجعلنا نحيا حيواتنا كأننا مخلوقات فضائية للآخر.ٍ

وصراحة ليس هناك أي طريق للخروج من الرأسمالية، وأي محاولة لفعل ذلك ستكون محفوفة بالمخاطر العديدة التي قد تؤول بلمح البصر إلى كوارث وأزمات إنسانية. يكفينا أن ننظر إلى ما يحدث اليوم في المجتمعات التي تعطل نظامها الاقتصادي جزئيًا بسبب جائحة الكورونا. فحتى وإن رفضنا النظام القائم رفضًا قاطعًا إلا أن التغيير لا يمكن أن يتم بخطوة واحدة كبيرة وحادة نحو الأفضل إنما بشكل تدريجي وطويل الأمد. كذلك لا بد أيضا أن نكون واقعيين وأن نقرّ أن الكثير من الابتكارات الناجحة في العالم اليوم والتي تعود بالفائدة علينا جميعا تحققت بفضل السوق وبفضل النظام الرأسمالي وبفضل الدول القومية ولم تكن هذه لتحصل بدونها. في ذات الوقت لا يمكننا التغافل عن وحشية هذا النظام ولا-إنسانيته وعن غياب العدالة الاجتماعية عنه، ويجب علينا أن نسعى لتحسينه وتغييره لتسود فيه العدالة الاجتماعية الغائبة عنه اليوم كما ويجب علينا السعي التدريجي للتخفيف من وطأته. هذا كله يتم أولا من خلال تنظيم المجتمعات المحلية فهي خط المواجهة الأول في هذا المسار ومن خلالها نقوّض فعليًا وبشكل مباشر عمليات الاغتراب القسرية المفروضة علينا دون أن ننتظر أي معاهدة سلام أو أي قرار سياسي لأي سلطة أو حزب أو فصيل.

(5)

من هنا ومن خلال الواقع الذي فُرِض على الفلسطينيين، فإن المستقبل الفلسطيني يكمن في إعادة بناء المجتمع الفلسطيني من خلال تنظيم المجتمعات المحلية وبناء العلاقات بين كافة أجزاء المجتمع الفلسطيني بالاعتماد على التضامن الاجتماعي والتكافل الاقتصادي والديمقراطية المباشرة، إلى جانب حميمية اللقاء الداعم والحاوي والمساند، بعيدا عن النعرات الجهوية وعن التحزبات أو الشللية. ولا أدعو هنا إلى تبني اللا-سلطوية كأيديولوجيا، لكن كعدسة ننظر من خلالها إلى ما يفرضه علينا الحال الفلسطيني، آخذين بعين الاعتبار أيضا أن بعض المنظرين اللا-سلطويين، وهو التيار الثالث بين الرأسمالية والاشتراكية، يدّعي أن مستقبل العالم هو مستقبل بدون دول، وللواقع فإن العالم لا يقف على أبواب هذا المستقبل بل إنه بات يخطو خطواته الأولى فيه.

(6)

ما هي أشكال المجتمعات المحلية التي قد نتنظم من خلالها؟

أولا، من الطبيعي جدا أن المجتمعات المحلية الفلسطينية التي تحدت وانتفضت وواجهت الاحتلال الإسرائيلي على مدار عقود وما زالت، منظمة أكثر بكثير مما نعرف ومما قد يخطر لنا ببال. وليست هذه دعوة إلى تنظيم المجتمعات المحلية بقدر ما هي دعوة إلى التمعن في هذه العمليات وفي الإمكانيات الكامنة فيها وفي العمل من خلالها كخيار استراتيجي فلسطيني جامع. ويجب ألا يقتصر هذا الخيار على عمل البعض من خلال فصائل وأحزاب سياسية أو مؤسسات غير حكومية وغيرها بل أن يشمل كافة الفلسطينيين بكل أماكن تواجدهم انطلاقا من أن الإنسان كإنسان لا يمكن له أن يعيش إلا من خلال مجتمعات محلية. وعلينا أن نرى بهذه المجتمعات المبنية على التكافل والتضامن والتواصل فيما بينها هدفًا بحد ذاتها فهي المجتمع بذاته ومن خلالها يتم بناؤه والحفاظ عليه.

ثانيا، لا بد لنا من الإقرار بأن المشروع الفلسطيني هو أكبر من مشروع دولة، وبعيدا عن سؤال الدولة، ما يجمعنا كفلسطينيين هو اللغة والثقافة والتاريخ وانتماؤنا لبعضنا البعض وللمنطقة.

ومن المهم أن تقوم كل مجموعة محلية بتحديد نهج وأهداف عينية تجمعها كما ومن المهم أن تكون لها مناسبات وطقوس ورموز ونشاطات لها وقع ومعنى، تُبقي ذكريات جماعية راسخة في قلوب ونفوس المشاركين فيها. ومن الضروري لهذه المجموعات أن تنظم ذاتها بشكل تطوعي وتمول ذاتها بالاعتماد الأكبر على مواردها الذاتية بما فيها مواردها البشرية، والاعتماد الأقل على تمويل سلطوي كما هو حال ال NGOs، حيث أن هذا التمويل يحول العمل المجتمعي إلى مهنة ويضُر بروح الانتماء والعمل الجماعي، كما وينمي التزاما ماديا على شكل مشاريع ذات أهداف عينية مادية وملموسة (SMART) وتَستبدِل هذه الانتماء والالتزام الأخلاقي للمجموعة ولأعضائها. وقد تكون هذه المجموعات مجموعات فنية، ثقافية، نقابات مهنية، اتحادات، نواد، لجان طلاب، لجان أحياء لكنها أيضا عائلات، وطوائف، وعشائر. وقد تبدو هذه الأمور بديهية إلا أننا يجب أن نضعها صوب أعيننا وألا نغفل عنها كأهداف استراتيجية ووطنية.

وقد يبدو للبعض أن التنظيم بشكل عائلات وعشائر وطوائف قد يكون "رجعياً" و"محافظاً"، لكن علينا أن نتذكر أن مفهوم الحرية الفردية هو مفهومٌ مجردٌ وغير حقيقي، وأنه لا يمكننا رفض العشيرة لكونها عشيرة أو العائلة لكونها عائلة، فهذه هي الأُطُر الاجتماعية الأولية في بناء المجتمع ودورها في تحرر أفرادها أو قمعهم مشابه لدور المجموعات الأخرى في قمع وتحرر أفرادها. وكأي مجموعة أخرى قد تكون هذه "رجعية" أو "محافظة" أو "قامعة" كما قد تكون "تحررية" و"داعمة" و"متقبلة" و"متسامحة" ويعتمد هذا على خيار المجموعة ومدى تسامحها وتقبلها للأفراد المختلفين فيها. وواجب علينا أن نرفض الرجعية وأن نرفض الانغلاق وأن نرفض العنف والتعصب، وهذه ليست حصرية على العائلات والعشائر بل قد نجدها في أي مجموعة ويجب علينا أن نرفضها في كل مكان. لكن لا يمكننا رفض الأطُر الاجتماعية الأولية في المجتمع، فربما لو لم تنهار هذه البُنى الأساسية للمجتمع الفلسطيني في الداخل لما استبدت فيه الجريمة. وقد يكون هناك خلاف وانشقاق داخل هذه المجموعات الأولية وهذا طبيعي جدا، وعلى المجتمعات المحلية عامة أن تطور قدرة على دعم واحتواء الأفراد المنشقين عن مجموعاتهم الأولية التي لم تستطع احتواءهم واحترام اختلافهم، وفي الغالب سوف يكون هؤلاء من النساء ومن أقليات مقموعة أخرى.

هذا ما يجب أن نضعه صوب أعيننا حاليا ونحن نغلق الباب خلفنا على مشروع أوسلو وننطلق في طريق جديد غير واضح المعالم والأفق. ولا أطمح من خلال هذه الطرح إلى طرح سياسي بالمعنى العادي والمألوف للسياسي، وعادة ما يكون لهذا منظور جماعي وشامل منذ بدايته، بل إلى توجه سياسي مختلف يبدأ من الأفراد ومن المجتمعات المحلية وينمو منها الى أنساق اجتماعية ومؤسسات ثقافية تحررية. قد يقول البعض إن الدولة مهمة ولا يمكن بدونها، وقد يكون هذا صحيحاً. لكن حاليًا لا توجد دولة، فهل نقف مكتوفي الأيدي حتى الضياع؟ بالإضافة، في حال وجدت دولة لا يمكن الجزم بأنها سوف تتوافق مع كل ما يريد ه المجتمع. قد تعمل الدولة على إخضاع المجتمع للسوق ولسياسات إمبريالية، وهذا ما يحدث في معظم الدول حاليًا، لكن بوجود مجتمعات محلية منظمة وقوية قد نتمكن من الوصول إلى توازن معين. طبعًا كل هذا منوط بأن نضع جانبا فكرة الحرية الليبرالية الفردية ونموذج التحرر وتحقيق الذات من خلال الاستهلاك الفردي والمادي المنوط بالنفور من البيئة ومن المجتمع وأن نعيد النظر في مفاهيم الحرية والتحرر وأن نعود للبديهيات حول مفاهيم الفرح والسعادة والحياة والقيمة وسبل تحقيقها.

[1] في ديمقراطية الأغلبية تتخذ القرارات بالتصويت وبهذا تفرض الأغلبية قرارها على الأقلية وغالبا ما تكون هذه القرارات مجحفة وغير عادلة في حق الأقلية، ويمكن أن نرى بها عملية استبداد من قبل الأغلبية لا تخلو من العنف في فرض القرار من خلال قوة. 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • الناصرة المدينة الباقية

      الناصرة المدينة الباقية
      تغييرات ثقافيّة وعمرانيّة في الحيّز المدينيّ للناصرةقليلة هي الأبحاث التي كُتبت عن الناصرة في العقود الستّة الأخيرة. السؤال الأوّل الذي يُطرح في سياق الحديث عن االناصرة هو: هل الناصرة مدينة أم هي قري

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬