(عثرتُ على هذه المذكرات في نافذة واحدة من الغرف المتبقية من منزلي في شنگال. لا أعرف لمن هي، لكن يبدو أنها ليتيمة الأب سافرتْ إلى الخارج)
ف.ح
الأربعاء:
-في أولِ زيارةٍ لك، لم نستطع استقبالك بطريقةٍ تناسب مقامك
لم ندرِ ماذا يناسب مقام الأشباح
حتى لو عرفنا، لا يمكن تقديم شيءٍ في خيمةٍ طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترين
الخميس:
تقولُ أمي إنَّكَ سافرتَ لتدبر لنا مأوىً لا نتجمَّدُ فيه شتاءً ولا تأكل معنا الحشرات صيفًا، هل فشلتَ في العثور وأصبحتَ شبحًا بابا؟
الجمعة:
-بكاء
السبت:
-اليوم، شَغَّلتُ أغنية لفرانك سناترا، ومددت ذراعي اليمنى لِتُعانِقَ الهواء، واليسرى لفّفتها حول اللاشيء. أغمضتُ عينيّ ورحتُ أرقصُ. كان المطر يطرق على سقف الخيمة، وأنا أرقص. مطر، رقص، مطر، رقص، مطر. الهاتف ينطفئ، وَبّختني أمي وشتمتني لإنَّني تأخرتُ في الذهاب إلى طابور استلام النفط الأبيض.
الأحد:
-تقولُ أمّي إنّي ذكيةٌ ومستوى ذكائي يفوقُ مستوى ذكاء الإنسان الطبيعي. توافقها صديقتها (جميلة) وتؤكد أمنيتها بأن تكون ابنتها مثلي. كذلك يقول عمو درويش الذي يسكن في خيمةٍ وحده في آخرِ خيمةٍ من قاطعنا. لا يعبرُ حدود خيمته، يعتاشُ على راتبٍ تقاعديٍ ويبعثُ الأطفال إلى الدكاكين لشراء السجائر والقهوة. ينتظرُ عائلته لتتحرر من أيدي داعش، ينتظرُ وينتظرُ ...
تقول ذلك معلّمة مادة العلوم، أنَّني ذكية، ويتمنون أن يكونوا مثلي. لكن يا بابا، هم يعرفون ما يحبّون معرفته، ويرون ما يريدون رؤيته. هل يُمكن أن أكون بنتًا طبيعية كسائر بنات المخيم تمسك يد أبيها؟
الإثنين:
-صدَّقتُ أمي ونفذت كلامك، حين قالت لي إنَّك مسافر، لكن حين قرأ موظف الخدمة في المدرسة اسمي، ومدَّ لي حقيبةً مُقدَّمة من وزارة التربية العراقية كان ذلك مُحرجًا. لماذا أنا دون كل الفتيات الجالسات في الصف؟ وحين سألته عمّا يشغل بالي قال وسيجارته تختنق بين شفتيه: هذه للإيتام فقط.
الثلاثاء:
-ليس لدي أصدقاء ولا أتحدث مع أحد. حين عُدنا إلى شنگال دخلنا بيتًا كبيرًا لم يبقَ منه سوى غرفتين وحديقة بخريفها الدائم. عثرث بين الركام على كتابين،،واحدٌ لإجاثا كريستي، وواحدٌ لنجيب محفوظ. قرأت الكتابين خمس وعشرين مرة خلال ثلاثة أشهر. حدَّثتُ الشخصيات عنكَ، والآن أجلسُ في مدينةٍ يحرسُ ملاكُ الموتِ أطرافها ويصطادُ مَن يدخل. أجلسُ على ركامٍ كان في الماضي بيتًا وله أولاد. أجلسُ مع الكتابين، وأنتظرك. أعرفُ أنك لن تجيء يا بابا، وتعرفُ أنَّني سوف أنتظركَ.
الأربعاء:
-بكاء.
الخميس:
-أمي تعمل خياطة، تُخيط الفساتين والسراويل، توصل ما بين طرفي القماش وتخيطهما لتصبح قطعة واحدة. سألتها ذات مرة إذا كان بإمكانها أن تخيط المسافة بيني وبينك فانفجرت ضحكًا. لماذا ضحكت؟ لماذا ضحكت يا بابا؟
في البداية نكون غير موجودين، ثم نولد. وعند الموت نعود إلى اللاوجود. كيف يمكن العودة إلى اللاوجود ولا يمكن العودة للوجود؟ لماذا تضحك أمي يا بابا؟
الجمعة:
-صادفتُ اليوم في طريقي إلى المدرسة صرخات نساءٍ وبُكاء رِجالٍ وتجمهر ناسٍ حولَ بيتٍ طينيٍ يوشك على السقوط. كان الميّتُ ملفوفاً ببطانيةٍ ويلمسه لمسة الوداعِ كُلُ مَنْ مَرَّ بقربه. حين كُنّا في المُخيّمِ، رأيتُ على التلفاز ميتًا ملفوفًا بعلم العراق. هل البطانية اصبحتْ علم العراق، أم أن العراق لا يكفي لنا كُلَّنا يا بابا؟.
السبت:
-بكاء.
الأحد:
-الليّلُ في شنگال جميل. ننام على سطح الغرفتين، السكون يغمر المديّنة ورائحةُ أشجارِ التين والرمان والكافور تملأ الهواء. النجوم تحتشد في السماء والظلام يسيطر على كل شيء بمدى الرؤية. كم سيكون جميلًا لو أنَّكَ كُنت هنا. المدينةُ يا بابا أشبَه بالمقبرة في النهار. كُلُ ساكني هذه المدينة زوّار أمواتهم، وينتظرون يوم اللقاء المعهود، الذي وعد به ملاك الموت الذي يحرس المدينة من الحياة.
لا نفعل شيئًا في هذه المدينة.
ولا يهمُّنا الموت، لم نعد نخافه، لم نعد نبالي، ولا تدهِشُنا رؤية جثة في وسط الطريق. كل الطرق تؤدي إلى المقابر وسنسلكها برضانا، اليوم أو غدًاً.
الإثنين:
-البارحة تمشيّتُ أنا وماما إلى بيت صديقتها. في الطريّقِ، أشارتْ لمنزلٍ لم يبقَ منه سوى شجرة يابسة في وسط الحوش، وبئرٍ حتمًا جَفَّتْ مياهه. لعبة سبونج بوب احتلَ البهتانُ لونها الأصفر، لم يكُ سبونج بوب يبتسم، لإنّه كان بلا رأس، وقالت: هذا بيتنا.
الثلاثاء:
-بكاء.
الأربعاء:
-نحن غادرنا المخيم نحو شنگال، لسببٍ واحدٍ كما قالت ماما؛ أن يكون لنا بيت. هل يُسمّى الخراب الذي نسكنه بيتًا؟ أخشى إخبارك يا بابا أن هذه الأرض أضحت عاقر، ولا يُمكِنها إنجاب الأشجار، أو البيوت
في آخرِ هذا الخراب المُسمى بيت، كوخ صغير، لبعض الحيوانات،،فتشته البارحة بدافع الفضول. الحُفر الكثيرة تُرَشِحُ أنها للأرانب، لكن لا أثر لوجودها. حتى الحيوانات الأليفة قُتلت، أو هربت من القتل. أُفَكِرُ كثيرًا يا بابا. تقولُ أمي إن عزرائيل هو ملك الموت، ويُمكنه إنهاء حياة البشر حين يأتِي أجَلَهُم. ترى ماذا يعمل الآن مادام نصف البشر يلعبون دوره؟
الخميس:
-أدركُ حجم خيبة الأملِ التي ارتسمت على روحك حين صرختُ فور رؤيتي لك هنا أيضًا. كُنتُ أقرأ كتاب نجيب محفوظ فوق سطح إحدى الغرف، وحين رفعتُ رأسي رأيتك. صرختُ بِكُلِّ قِواي وازدردتُ ريقي. كان طعم الهواء خانقًا وطبولٌ تدقُ في رأسي الذي صار يشبه موكبًا غجريًا. لماذا لا تظهر أمام ماما؟ هل تخافُ مِنّها؟ أم أنَّكَ لا تحتمل خيبة أملٍ أخرى عندما تخاف منك؟
لماذا عدتَ إلى شنگال؟ كان بإمكانك البقاء في المخيم، ماذا ظننتَ أنكَ ستجد، غير فراغٍ يملأ كل زقاقٍ من المدينة، (التنور) الطيني يشعر بالبرد لأن نارًا لم تضرم فيه، ولم تخبز عليه إحدى النساء. الشوارعُ نائمة وأنا سوف أسافر.