على عكس التّلاحم الصارم الذي نظَّر له فرويد بين إيروس وثناتوس، كما في المقالة السابقة، نجد أنّ الميثولوجيا الشرقيّة غير الإبراهيميّة لم تكترث لثناتوس، لأنّ الموت ليس إلا بدايةً لمرحلة أخرى، فالدنيا أساسًا مرحلة عابرة. بمعنى من المعاني، ما من حياة أو موت إلا ضمن معايير نسبيّة. نجد أقوى حضور للإيروس في الميثولوجيا الهنديّة التي كانت على الأرجح المنبع الأساسيّ لطرح الإيروس أو الرغبة الجنسيّة بوصفها ولادةً أو تكوينًا لكلّ ما سيأتي بعدها. نجد حضورًا للإيروس في الميثولوجيا الرافديّة بطبيعة الحال، على الأخص في أناشيد إنانا السومريّة، وفي «إنومَ إِلِش» (ملحمة الخلق البابليّة)، إلا أنّ حضور الإيروس هناك ليس مطلقًا، وليس مستقلًا عمّا سواه، وما بعده، إذ هو – كنظائره الميثولوجيّة المختلفة في الحضارات اللاحقة – كان خاصًا بإله أو إلاهة، وليس بدايةً لشيء أو نهايةً له، بل محض عنصر مُكوِّن كغيره من العناصر الأخرى. الفارق في حالة الميثولوجيا الهنديّة أنّ حضور الإيروس كان منفردًا بذاته في ترنيمة دينيّة بحتة لا تحتمل تأويلات «دنيويّة» كما هي حال الترانيم القديمة في الحضارات الأخرى. يحضر الإيروس («الرغبة» بالأحرى) في أشهر وأهم ترنيمة من ترانيم الرگويدا، وهي المصدر الدينيّ الأساسيّ للتشريعات الدينيّة اللاحقة، إما اتّباعًا كما في الهندوسيّة، أو خروجًا كما في البوذيّة والجينيّة وغيرها من المدارس الدينيّة-الفلسفيّة الأخرى. عُرفت الترنيمة باسم «ترنيمة الخلق» وهي الترنيمة رقم 129 من المَنْدَلا (السِّفْر أو الدائرة) العاشرة، ونجد فيها أنّ «الأَحَد» هو أول ما ظهر في الكون بعد مرحلة الظّلمة والماء اللذين يغمران الكون بأكمله؛ لا نعلم يقينًا ما إذا كان الكون والآلهة قد ولدوا من هذا الأحد أم لا، لأنّ الترنيمة تحتفي بهذا الغموض اللذيذ، وتكتفي بطرح الأسئلة، إلا أنّنا نعلم يقينًا أنّ أوّل ما أنتجَ هذا «الأَحَد» هو الرغبة:
في البدءِ كانت الرَّغبةُ في الأحد:
كانت البذرةَ الأولى، نتاجَ الفكر.
الرغبة هنا إيروس صرف غامض لا يكون مع شيء آخر، ولا يشوبه عنصر آخر حتّى الآلهة أنفسهم. الرغبة أقدم من الآلهة، ولعلّها هي التي ولدتهم. الإيروس هنا عنصر تكوين، وليس محض مُكوِّنٍ من بين مُكوِّنات أخرى. هو التّكوين بألف ولام التعريف. ولا نجد مثل هذا الحضور الحاسم إلا في الميثولوجيا الإغريقيّة، أو بالأحرى في رافدٍ من روافد الميثولوجيا الإغريقيّة: ثيوگونيا هسيوذوس. على أنّ لدينا مؤشّرات عديدة بأنّ قصيدة هسيوذوس حافلةٌ بإحالات صريحة وضمنيّة على ميثولوجيات أقدم: الرافديّة، والمصريّة، والهنديّة بطبيعة الحال. ولعلّ فكرة تفرُّد الإيروس لديه مستمدّة من الميثولوجيا الهنديّة، إذا لا نجد نظيرًا آخر لها.
في البدء كان الصَّدعُ، ومن ثمَّ الأرض شاسعة الصَّدر، مأوىً آمنًا إلى الأبد لكلّ الخالدين الذين يسكنون قمّة الأولمپ المُثلج؛ [ومن ثمّ] ترتارا [مكان العذاب] السديميّة في ثلمٍ بعيدٍ من الأرض فسيحة الطُّرق؛ و[من ثمّ] إيروس، الأجمل من بين الآلهة الخالدين، مَنْ يُذيبُ اللحم، ويقهر العقل والعزيمة في صدور جميع الآلهة والناس.
من الإيروس ولد كلُّ شيء لاحق، باستثناء السماء التي ولدت من الأرض. وبذا فإنّ إيروس هنا، على تميّزه وتفرّده، ليس المُكوِّن الوحيد كما في الميثولوجيا الهنديّة. ولعلّ هذا التّعارض ناجمٌ من تخبُّط هسيوذوس نفسه بين المراجع الشرقيّة التي استقى منها عناصر قصيدته وبين الأعراف الإغريقيّة الراسخة في تكوُّن الكون والآلهة. إلا أنّ ما يهمّنا هنا هو إفراده حيّزًا كبيرًا لإيروس لا يفوقه فيه إلا الأرض وترتاروس، بوصفهما أول وأكبر منبعين يتقلّب بينهما الكون وما فيه.
بعد الإغريق، ونشوء الديانات الإبراهيميّة (اليهوديّة فقط بالأحرى لأنّ المسيحيّة والإسلام لم يكترثا لتصوير بداية الخلق، أو عمدا إلى تبنّي الرواية اليهوديّة تبنّيًا شبه تام)، تلاشى دور إيروس من النّصوص الدينيّة المعتمدة، باستثناء وحيد هو «نشيد الأنشاد» الذي يبدو ناتئًا عن سياق العهد القديم، وقد حيَّر الباحثين والشرّاح إلى اليوم. بمعنى من المعاني، تلاشى إيروس من النصوص الدينيّة وتسلَّل إلى النّصوص الأدبيّة، إلى الشّعر الدنيويّ الذي أوجد مكانًا، ولو غريبًا، ضمن المُعتمَد الإبراهيميّ. تلفتنا قصائد نشيد الأنشاد بأنّها متفرّدة لا تشبه أسفار العهد القديم، لا لغةً ولا سياقًا. وكأنّها نبتت في تربة غريبة، أو ربّما كانت هي ذاتها نبتةً غريبةً هاجرت من سياقات أخرى واستقرّت في نصوص العهد القديم. نلمح تشابهات لها في أناشيد الحب المصريّة المتناثرة بين نصوص الممالك الفرعونيّة الثلاث، وفي بعض النّصوص الأوگاريتيّة. على أنّ إيروس هنا ليس عنصر خلق، بل عنصر حياة دنيويّة بالمطلق، وكأنّ الشِّعر قد بدأ أولى انفصالاته عن الدِّين ليؤسِّس دنيا جديدة تولد من الأرض وتنتهي فيها من دون أدنى دور للسماء وآلهتها. غير أنّ غياب الحب لم يكن غيابًا تامًا من المسيحيّة والإسلام، إذ استأنس بالنّصوص الإيروسيّة السابقة في العهد القديم، وأسَّس فسحةً جديدةً له، لا ضمن النّصوص المُعتمَدة بل ضمن هوامشها التي انطلقت من النّصوص الدينيّة، وتمثّلت روحها لتُشيِّد عمارةً أدبيّة تضاهي العمارة الدينيّة من دون أن تنافسها بالضّرورة. عاود الحب ظهوره في رافدَيْن مهمّين للمسيحيّة وللإسلام على الترتيب: كوميديا دانتي؛ والمدرسة الصوفيّة. تنطلق كلتا هاتين المدرستين من «الحب» وإنْ حافظتا على تعريفٍ غامض له. الأكيد أنّه لا يشبه إيروس، ولكنّه ليس حبًّا غائمًا أيضًا، بل هو مزيجٌ مدهشٌ من جنسين من أجناس الحب الإغريقيّ: إيروس وأگاپي؛ مزيجٌ من عالمين متتاليين: عالم الميثولوجيا القديمة حيث إيروس هو كلُّ شيء، وعالم الدِّين الجديد حيث «المحبّة» لا الحب، هي العنصر الجوهريّ المُكوِّن لعلاقة الإنسان بالله، وعلاقة الإنسان بالإنسان، أو باختصار علاقة الإنسان بـ «المحبوب» الذي يكون مجازًا للسماء وللأرض. يلفتنا تشابه صاعق بين تعبيرين يرتبطان بموضوعنا هنا، أحدهما مسيحيّ وثانيهما إسلاميّ:
1- ولكنّ رغبتي وإرادتي كانتا قد سارتا معًا،
كعجلةٍ تدور بحركةٍ واحدةٍ في كل أجزائها،
بالمحبّة التي تحرّك الشّمس وسائر النّجوم.
2- يتّفق الجميع على أنّ حركة السماوات تحدث بفعل الحبّ – إنّها تواصل التحرّك في دوائر ولا تصل إلى محبوبها أبدًا.
الاقتباس الأول هو الأسطر الختاميّة لـ «الفردوس»، ولكوميديا دانتي؛ ويرد الاقتباس الثاني في سيرة الشاعر الأرديّ مير تقي مير على لسان أبيه المتصوّف. استخدم دانتي كلمة amore، ولا تتيح لنا الترجمة الإنگليزيّة معرفة الكلمة الأرديّة التي استخدمها مير وأبوه، ولكنّها «محبت» على الأرجح. وبذا نجد أنّ التطابق لم يقتصر على الصورة الشّعرية التي استخدمها شاعر غربيّ ومتصوّف شرقيّ، بل ينسحب أيضًا على تجنُّب استخدام كلمة «إيروس» أو مرادفاتها، حيث قدّما تجسّدًا آخر لتجسّدات الحب: العشق الصوفيّ أو المحبّة المسيحيّة التي مثّلت آخر تطوّرات قصائد نشيد الأنشاد في العهد القديم، مُفسحين المجال للأدب كي يواصل ثورته ضدّ نفي «إيروس» من جنّة الدين، بحيث يتكرّس في فردوس الأدب من جديد. وإنْ كان نجيب محفوظ قد اكتفى في قصته «الحب فوق هضبة الهرم» بالإيماء إلى العلاقة الجدليّة التي تربط إيروس وثناتوس، نجد أنّها قد توضّحت أكثر في عمل سوريّ هو قصة «المقبرة» لإبراهيم صموئيل الذي واصل – بلاوعي ربما – تدوين سيرورة عودة إيروس إلى الأدب، ودوّن بوعيّ لافت مصير الحب في بلاد ضيّقة.
على خلاف «قصص السجن» المتناثرة في مجموعتَيْ رائحة الخطو الثّقيل والنّحنحات، لا تبدأ قصة «المقبرة» من السجن؛ أو ربما، لا تبدأ مباشرةً من السجن، بل تنطلق من الموت الخارجيّ. تبدأ القصة بالموت الذي يصبح – للمفارقة – عنصر حياة لأنّه يأتي من الخارج إلى داخل الزنزانة. وكلُّ ما يتسلّل من الخارج عنصر حياة حتّى لو كان زعيق منادي الموت. يميّز إبراهيم صموئيل في قصته بين موتين كلاهما خارجيّان: موت المقبرة الآتي من الماضي، وموت السّكون القاتل المخيّم على المدينة؛ وما يلبث هذان الموتان أن يتّحدا في نهاية القصة ليصبحا موتًا واحدًا يقتل كلّ شيء، الماضي والحاضر، الذكريات والأحلام. وبالرغم من أنّ حضور ثناتوس أوضح في قصة صموئيل بالمقارنة مع قصة محفوظ، إذ نتحدث في قصة «المقبرة» عن موت فعليّ، وعن قوافل متلاحقة من الناس التي تعيش لتموت وتُدفَن، لا أن تكون محض مقبرة للملوك كما هي حال الأهرام، إلا أنّ صموئيل ينتقي بذكاء قاسٍ لحظاتٍ بعينها من الماضي كي يمسي فيه الموت حياةً، وتمسي فيه المقبرة نبع ذكريات مبهجة، حيث كانت المقبرة «مأوى لشقاوتنا، وأحلامنا، وأسرارنا». وستصبح هذه المقبرة نفسها مكانًا للقاء حبيبين. الفارق بين الحبيبين أنّ الرجل يعرف هذه المقبرة شبرًا شبرًا، ويراها كما يشتهي أن يراها: فسحة من الماضي البعيد الذي رحل وبقيت ذكرياته المنعشة؛ أما المرأة فتراها كما هي حقًا: مقبرة ليس فيها إلا أطياف الموت وسكون القبور. ولكنّ إيروس ينسف صورة المقبرة فيجعل المرأة ترى بعيني حبيبها، بحيث تصبح المقبرة مكانًا للحب، كما لو كانت حديقة شاسعة تضجّ بصخب الطيور. يرسم صموئيل ببراعته المعهودة المفارقات التي تميّز بطله وبطلته: سكون المقبرة أمين بالنّسبة إلى سعد، ولكنّه سكون مرعب بالنّسبة إلى عناد؛ المقبرة غرفة استعادة الطفولة البعيدة وسرير لحب الحاضر بالنّسبة إلى سعد، فيما هي مثوى للموت ماضيًا وحاضرًا، وربما مستقبلًا بالنّسبة إلى عناد.
تحكي القصة حكاية سعد المعتقل الحاليّ القابع في زنزانته، حيث لم يبق له إلا الذكريات، إلا الماضي، لأنّ الحاضر كالح، والمستقبل مجهول. وحين ينداح زعيق منادي الموت، تندلق الذكريات المبهجة كلّها كعادة أبطال صموئيل، حين يستعيدون الذكريات ليحوّلوها إلى أحلام، وليوسّعوا ضيق الزّنزانة ولو سنتمترات قليلة، ولو سنتمترات مُتخيَّلة، كي يواصلوا «العيش» داخل الموت. لا يكمن اختلاف قصة «المقبرة» عن غيرها من قصص السجن عند صموئيل في افتتاحيّتها وحسب، بل أيضًا في إيقاع زمن السرد، وزمن الحكاية. هذه القصة متاهة مصغّرة لا تشبه الرسم الخطيّ المباشر الذي يسم القصص الأخرى التي تبدأ عادةً من الحاضر لتستعيد الماضي بهدف فهم الحاضر، أو نسفه. تجري القصة كلّها في مخيّلة سعد، إلا أنّ الأزمنة متداخلة ببراعة بحيث لا ندرك أين الماضي، وأين الحاضر؛ لا ندرك الواقعيّ أو المُتخيَّل؛ إذ نبدو وكأنّنا داخل دائرة الأجرام السماويّة تلك التي يتغنّى بها دانتي ومير، مع فارق أنّ الحب لا مكان له في حاضر أبطال صموئيل، بالرغم من مواصلتهم الدوران الدائم بحثًا عن محبوب، أو لحظة حرية، أو فسحة تنفّس. يحكي صموئيل بدأبه المدهش قصة السجن الصغير (الزنزانة) داخل السجن الكبير (البلاد)، واللافت أنّ دأبه ذاك أُسيء فهمه حتّى ممّن يُفترَض أن يكونوا أول الناس الذين يلتقطون إشاراته، ويعمّقون تأثيرها. سنُفاجأ حدّ الذهول حين نقرأ تعقيبًا على قصة «ساعة الظهيرة» لصموئيل، ويمكن لنا فهمه بكونه تعقيبًا على قصص صموئيل كلّها: «أما إبراهيم صموئيل فهذه قصة أخرى عن السجن، قرأتُ المجموعة فأُعجبت بها، ولكنّ هذه القصة على صغرها وأهمية اللقطة الإنسانيّة فيها تعيبها المبالغة، ثم أتمنى على إبراهيم أن يوسع من رصيد مواضيعه، فالدنيا والحمد لله أرحب من قاووش السجن». يتضاعف الذهول حين نعرف أنّ صاحب هذا التّعقيب هو الراحل سعيد حورانيّة الذي يُفترَض أن يكون أفضل من يلتقط قصص صموئيل لا أن يتعامل معها بوصفها تكرارات. لو لم تكن الجملة الأخيرة «فالدنيا والحمد لله أرحب من قاووش السجن» مرتبطةً بما قبلها لظننّا أنّ حورانيّة يسدّد سهام سخريته اللاذعة العظيمة، ولكنّه – بكل أسف – تسرّع في قراءته لنشهد كبوة نادرة للمعلّم الكبير، لم تسبقها إلا كبوة مماثلة حين انتقد «ضيق» عالم زكريا تامر. الكبوتان متماثلتان لأنهما صادرتان عن الشيوعيّ المتفائل لا عن الفنّان الواقعيّ. هل الدنيا أرحب من قاووش السجن حقًا؟ أليست سجنًا أكبر قليلًا فقط؟ ما كان لصاحب قصص «المهجع الرابع»، و«سنتان وتحترق الغابة»، و«وأنقذنا هيبة الحكومة» وغيرها من القصص-المباضع أن يكبو هذه الكبوة.
لا يُصنَّف صموئيل عادةً بين القاصين ذوي اللغة الشعريّة، كزكريا تامر أو حيدر حيدر، إلا أنّ ختام قصة «المقبرة» يبدو أقرب إلى قصيدة نثر أو مرثاة تختزل ضيق سماء البلاد التي تضيق بالحب وبالناس وبأبنائها، حين يقارن بقسوةٍ جارحة بين المقبرة التي استعادت صورتها الحقيقيّة بعد تلاشي الذكريات والأحلام وباتت مقبرة كغيرها من المقابر، وبين المدينة التي باتت هي الأخرى (أو كشفت عن وجهها الحقيقيّ بحيث ندرك أنّها ليست إلا) مقبرة تضمّ ملايين الموتى الأحياء الذين ما عادت حياتهم إلا موتًا آخر، حيث لا حب ولا أحلام ولا ذكريات، وحيث السماء ليست إلا سقفًا واطئًا مثل سقف زنزانة أزليّة:
كانت المقبرة كئيبة إلى حدّ رهيب. سكونها موحش ومفزع، مجللة بالظلام الأبكم، وموشّاة بالقبور الكلسيّة، البيضاء، المتنافرة، الممدّدة بفوضى، بعضها قرب بعض، تفصها بينها ممرات سوداء، ضيّقة، تتّسع لأقدام أشباح الموت التي تظهر وتختفي، بين لحظة وأخرى.
كانت المدينة خارج المقبرة، في تلك اللحظة، كئيبة إلى حدّ رهيب، سكونها موحش ومفزع، مجللة بالظلام الأبكم، وموشّاة بالبيوت الإسمنتيّة، الكالحة، المتنافرة الشاخصة، بغموض، بعضها قرب بعض، تفصل بينها ممرات، سوداء ضيقة، تتّسع لأقدام الأشباح التي تجوب المدينة، بحثًا عن المطاردين المتخفّين، فتظهر تارةً وتغيب أخرى.
لم يدرك سعد هذا التماهي المرعب بين المقبرة وبين المدينة إلا قبيل انتهاء لقائه مع عناد، وكأنّ إيروس كان الحجاب الذي غطّى ذلك التماهي، فلما انتهى أو أوشك انكشفت المدينة. بات سعد الآن يرى بعيني عناد، إذ تلاشت الذكريات وبقيت المقبرة كما رأتها عناد منذ البداية، وانتبه الآن إلى مدى الجنون الذي يسم رحلة اللقاء العاصف ذاك. وحين انتهى اللقاء تمامًا، اتّسعت المقبرة لتشمل المدينة والبلاد كلّها. قصص إبراهيم صموئيل شحيحة بالتوصيفات الحسّيّة المباشرة، إذ تحدث اللقاءات أو الذكريات الجنسيّة فيها إيماءً، باستثناء وحيد هي قصة «شتاء طويل» التي يمسي فيها الجسدان المرتعشان بوصلتين للخراب القادم الذي سيهدم كلّ شيء. إلا أنّ الجنس في قصة «المقبرة» أقسى حتّى مع غياب توصيفاته. نبدو بادئ الأمر وكأنّنا كلّنا مثل عناد، تُجفلنا فكرة الجنس (أو حتّى اللقاء) في المقبرة، إلا أنّنا مع اقتراب اللقاء والقصة من نهايتيهما سندرك أنّ ما أجفلنا منه حقيقةً ليس المقبرة في ذاتها بل مقبرة البلاد بأسرها. تُجفلنا جملة ضاحكة عابرة ينطق بها سعد حين يستعيد تحذيرات رفاقه من أيّ لقاء في فترة التخفّي، إذ قد يكون مصير اللقاء هو الموت، فيقول لنفسه: «رأيتها ولم أمت!». يصمت سعد فننطق نحن بيننا وبين أنفسنا حين نتأمل زنزانته، وتمسي العبارة الضاحكة مؤلمةً نازفة. لا تجفلنا المقابر، بل تُجفلنا (أو تُجفلني أنا شخصيًا) صورة المدن التي تستطيل عماراتها لتصبح مثل شواهد قبور عملاقة، تعجّ بدرجات الموت المتفاوتة. قصة أخرى عن السجن؟ ربما. ولكنّ صموئيل رأى ما لم نره، وأدرك ما لم ندركه إلا متأخرين: سقف هذه البلاد واطئ كسقف زنزانة حتّى لو حاولنا تناسيه، إذ سيُذكّرنا ذلك السقف بوجوده كلّما حاولنا رفع رؤوسنا ليلطمنا فتبقى الكدمات حتّى حين نغيّر البيوت والبلاد، كما حاول بطل قصة «البيت ذو المدخل الواطئ». ليست هذه البلاد مخلوقة للحب ولا للجنس، حتّى لو أغلقنا أعيننا عن القبور التي نسكنها، وعن أشباح الموت التي تعجّ بها الشوارع، وحتّى لو ظننّا أنّنا قد «وصلنا المقبرة بسلام». تلك كانت سنوات الثمانينيّات التي ما تزال تحتفظ بسطوتها المرعبة حتّى لمن لم يعشها، أما التسعينيّات فستجد عينًا ثاقبةً تواصل تدوين سيرورة الخراب حيث البلاد، كلّ البلاد، «بلاد أضيق من الحب» كما أدرك سعد الله ونّوس في مسرحيّته القصيرة التي ستكون محور المقالة القادمة.
الإحالات:
الاقتباسات من «ترنيمة الخلق» الهندوسيّة بترجمة آرثر مكدونِل Arthur A. Macdonell، وهي موجودة كاملة في مدوّنتي. مقطع الثيوگونيا بترجمة مارتن وِست M. L. West؛ مقطع الكوميديا بترجمة حسن عثمان؛ مقطع سيرة مير تقي مير بترجمة تشاودهري محمد نعيم C. M. Naim. أما قصة «المقبرة» فمن مجموعة رائحة الخطو الثقيل.