ليبيا. منطقة فزان في مقاومة التهميش

ليبيا. منطقة فزان في مقاومة التهميش

ليبيا. منطقة فزان في مقاومة التهميش

By : Arabic Editors

أسماء سعيد

تعد فزان منطقة استراتيجية للغاية في ليبيا بسبب مواردها النفطية. توحّد التُبو والطوارق الذين يعيشون هناك، رغم انقسامهم الشديد وتخلي حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس عنهم، ضد هجمات المشير حفتر في المنطقة. لكن تبقى الآفاق السياسية مسدودة بالنسبة لهم.

ينحصر الحديث عن الحرب في ليبيا على الاهتمام ببرقة شرقا، والخاضعة لحكومة طبرق، وعلى إقليم طرابلس غربا الذي تسيطر عليه حكومة الوحدة الوطنية. وتبقى منطقة فزان في جنوب البلاد منسية رغم كونها منطقة استراتيجية للغاية قد يكون انضمامها لأحد المتحاربين عاملا حاسماً في انتصار أحد المعسكرين.

تمثّل المكوّنات العرقية الرئيسية الثلاثة لمنطقة فزان (العرب والتُبو والطوارق) ما يقارب 10٪ من سكان ليبيا، أي حوالي 500 ألف نسمة. وهم يتمركزون بشكل أساسي حول مدن العاصمة الإدارية سبها (140 ألف نسمة)، وهي مركز قبيلة القذاذفة العربية التي انحدر منها العقيد معمر القذافي، ومدينة مرزوق (50 ألف نسمة) معقل التبو، وأوباري معقل الطوارق وهي أصغر مرتين من مرزوق.

التنافس من أجل غزو هذه المنطقة ليس بجديد. فبعد أن ركزت جهودها على الساحل، عملت القوى الاستعمارية بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين (حتى عام 1951، تاريخ حصول ليبيا على استقلالها) على بسط سيطرتها على هذه المنطقة نصف الصحراوية. فقد أولتها الإمبراطورية العثمانية وبعدها إيطاليا ثم المملكة المتحدة وفرنسا اهتمامًا خاصًا، حيث كانوا مدركين بأن بقية البلاد تعتمد جزئيًا على مواردها الجيوستراتيجية وعلى انفتاحها على الصحراء من أجل ازدهارها الاقتصادي.

عندما كانت ليبيا مقسمة إلى ثلاث محافظات (على غرار التقسيم الإقليمي الحالي)، لم يكن لفزان سوى القليل من الروابط السياسية والإدارية مع الكيانين الإقليميين الآخرين. وعلى الرغم من كون إدارة طرابلس وبرقة تعودان إلى سلطتين مختلفتين لها طموحات سياسية مختلفة، فقد حافظ هذان الإقليمان على روابط سياسية واقتصادية وثيقة.

أعربت طرابلس في وقت مبكر عن رغبتها في أن تصبح جمهورية ذات وجهة ديمقراطية، في حين كانت لبرقة تحت قيادة الأمير محمد إدريس المهدي السنوسي الذي زكّاه البريطانيون، رؤية أكثر محافظة للسلطة. أُعلن محمد إدريس ملكًا عند استقلال ليبيا عام 1951 ثم أطاح به القذافي في عام 1969. وبعد إعلانه استقلال إمارة برقة عام 1949، شجع الملك إدريس المحافظتين الأخريين على أن تحذوا حذوه. غير أن الخلافات بين المحافظات ذات التركيبة البشرية غير المتجانسة والتي لها أسواق اقتصادية متميزة والخاضعة لتأثيرات أجنبية مختلفة، دفعتهما إلى اختيار نظام فيدرالي تدير فيه كل واحدة منها شؤونها بشكل مستقل تحت سلطة الملك. تحصّل هذه النظام على موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة وهو مضمون في دستور 24 ديسمبر/كانون الأول 1951 الذي كرّس استقلال البلاد.

إدارة فرنسية في عام 1943

قبل ذلك، وابتداء من عام 1943، احتلت فرنسا منطقة فزان وأدارتها على نموذج الجزائر المجاورة. ففي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وحتى قبل إعلان استقلال المملكة، تم إبرام معاهدات عسكرية ومالية مؤقتة قابلة للتجديد كل ستة أشهر بين فرنسا وليبيا. في هذا السياق، نشرت باريس مستشارين في الهيئات الفيدرالية في البلاد قصد ضمان إعادة توزيع المساعدات المدفوعة للميزانية الليبية بالكامل في فزان. يتعلق الأمر بشكل ملموس بالحفاظ على سيطرة عسكرية في هذه المنطقة الاستراتيجية التي تسمح لها بربط الجزائر بالمستعمرات الفرنسية الأربع بأفريقيا الاستوائية: غابون وجمهورية الكونغو الحالية وتشاد وبانغي شاري السابقة التي أصبحت فيما بعد جمهورية إفريقيا الوسطى. كما تحصلت فرنسا على حق استغلال طرق ومطارات فزان مثل مطار سبها -مقر الإدارة الفرنسية- وكذلك مطاري غات وغدامس.

غير أن الدولة الفيدرالية عملت شيئا فشيئا على العودة عن هذه الاتفاقيات واستعادت السيطرة على هذه المنطقة حيث كان الوجود الفرنسي موضوع نزاع. في الأخير، اضطرت فرنسا في نوفمبر/تشرين الثاني 1954 إلى الانسحاب وتأجير القواعد الجوية التي كانت تستخدمها حتى ذلك الحين.

عندما اندلعت حرب تحرير الجزائر في نوفمبر/تشرين الثاني 1954، رفضت الحكومة الليبية تجديد الاتفاقات المؤقتة مع فرنسا وأمرتها بمغادرة فزان قبل 31 ديسمبر/كانون الأول. ومع احتدام الصراع في الجزائر، بدت هذه المنطقة التي كانت تشكل مجال عبور محتمل لتهريب الأسلحة أو انسحاب المتمردين في شرق الجزائر استراتيجية بالنسبة للسلطات الفرنسية. لكن وعلى الرغم من مفاوضات دبلوماسية مكثفة، اضطرت فرنسا المعزولة على المستوى الدولي والتي تخلى عنها البريطانيون والأمريكيون الذين كانوا لا يزالون موجودين في ليبيا، على التوقيع في 10 أغسطس/آب 1955 على معاهدة تكرس انسحابها النهائي من المنطقة. ولكنها تحصلت مع ذلك على فترة انتقالية والعديد من الضمانات، بما في ذلك الوصول إلى المطارات واستخدام طرق معينة بالتشاور مع الحكومة الفيدرالية، وضمان إمكانية الدفاع عن فزان إذا تعرضت هذه المنطقة لهجوم - أو بصفة أكثر تأكيدا إذا تحولت إلى ملجأ للمقاتلين الجزائريين.

منطقة عبور النفط الجزائري

بالإضافة إلى ذلك، مُنحت فرنسا امتيازات لحساب شركات النفط المتواجدة في ليبيا منذ عام 1954 وهي تستغل حقلي الجرف ومبروك في حوض سرت، وكذلك حقول الشرارة في حوض مرزوق. كما فازت في الأخير في قضية احترام مسار الحدود الجزائرية الليبية الذي يضمن لها الاحتفاظ بالحقول الجزائرية في العجيلة.

وقد كان اكتشاف حقول نفطية كبيرة بالقرب من العجيلة في عام 1956 هو السبب الذي دفع الفرنسيين إلى إعادة تقدير مصالحهم الاستراتيجية في فزان والموافقة على الانسحاب منها. حتى ذلك الحين، كانت السلطات الفرنسية تتشبث في المفاوضات بمسألة استمرار وجودها في المنطقة لأسباب سياسية - عسكرية. مع اكتشاف هذه الحقول، خفف الفرنسيون من موقفهم وتفاوضوا على انسحابهم مقابل تنازلات تسمح لهم بالاستفادة من الطرق وبعض البنى التحتية.

قبل ذلك، وابتداء من عام 1943، احتلت فرنسا منطقة فزان وأدارتها على نموذج الجزائر المجاورة. ففي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وحتى قبل إعلان استقلال المملكة، تم إبرام معاهدات عسكرية ومالية مؤقتة قابلة للتجديد كل ستة أشهر بين فرنسا وليبيا.

كانت منطقة فزان تُعتبر مجال عبور أساسي للنفط الجزائري نحو فرنسا، في وقت صار تأميم قناة السويس يهدد إمداداتها. وكانت السلطات الفرنسية تأمل أن تحصل، مقابل انسحابها، على إمكانية الوصول إلى المطارات الليبية وميناء زوارة على الساحل الشمالي لإرسال النفط الجزائري إلى فرنسا. وقد كان هذا أكثر طريق عملي والأقصر في ذلك الوقت.

يشكل النفط في ليبيا محفزا وموحدا في نفس الوقت. لكن دوره كمحفز لوحدة البلاد بالأمس صار اليوم يميل إلى أن يكون عاملا لتقسيمها. إذ أدى اكتشافه في برقة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي بالحكومة المركزية إلى العمل بنشاط أكبر من أجل التوحيد الاقتصادي والسياسي للبلاد، في حين كان الشعب الليبي يعبر آنذاك عن شعوره بالانتماء إلى العالم العربي.

وبالتالي أصبح التوحيد السياسي للبلاد مرتبطا بقضية توزيع الثروة، وصار من الضروري إعادة التفاوض على العقد الاجتماعي الذي يربط بين الكيانات الثلاث. وفي عام 1963، وبالمصادقة على اعتماد دستور جديد، أعلن الملك إدريس إلغاء النظام الفيدرالي وتوحيد الكيانات الثلاثة التي تتشكل منها البلاد.

رهان الذهب الأسود

تمتلك ليبيا أكبر الاحتياطيات الهيدروكربونية في القارة الأفريقية. وفي عام 2011، قبيل الثورة الليبية، كان 80٪ من إنتاج البلاد يُصدّر إلى أوروبا (نصفه موجه إلى إيطاليا وألمانيا وفرنسا). حتى لو كانت حقول النفط تقع في جزء كبير منها في برقة، فهي تشكل رهانا رئيسيا في الصراعات على النفوذ التي تجري في فزان حيث يقع أكبر حقل نفط في البلاد، غرب مدينة الشرارة في صحراء مرزوق. هذا الموقع المتواجد في حوض يحتضن أيضا حقل الفيل، ويمثل لوحده ما يقارب ثلث الإنتاج الليبي.

ألهبت مسألة النفط خلال الحرب الأهلية الليبية الثانية بين عامي 2014 و2015 العلاقات بين الأعراق في الجنوب، وخاصة بين التُبو والطوارق. في فزان، يتواجد الطوارق بصفة أكبر رسوخًا في الغرب، غير بعيد عن الحدود الجزائرية. أما التُبو، فهم متواجدون في الجزء الأوسط والشرقي، ويقومون بمراقبة المحاور التي تعبر الحدود التشادية الليبية. تتعايش المجموعتان في شريط يمتد من حدود النيجر إلى حدود إقليم طرابلس. ويشكل النفط أيضًا العنصر الذي ستتحد حوله هذه المجموعات العرقية للدفاع عن مصالحها المشتركة في مواجهة تقدم جيش المشير خليفة حفتر.

ولدت الفوضى الليبية صراعا على المداخيل الاقتصادية الناجمة عن النفط أو التهريب، وكذلك من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية. فضلا عن الأرباح الآتية من التجارة بالذهب الأسود، يشكل تأمين البنية التحتية النفطية موردا مهما للجماعات التي تضطلع به. يتم تأمين هذه المواقع في فزان من قبل التُبو والطوارق. ويتم استخدام هذه الوظيفة الاستراتيجية في المفاوضات بين السلطة المركزية والأقليات العرقية. وقامت هذه الأخيرة في عدة مناسبات، بأخذ البنى التحتية النفطية كرهينة للتأكيد على مطالبها الاجتماعية والسياسية ولكي يتم الاعتراف بحقوقها التي تم تجاهلها لفترة طويلة في عهد القذافي.

حصل خلال الحرب الأهلية الليبية الثانية قتال عنيف بين التُبو والطوارق في بلدة أوباري، معقل مجموعة الطوارق في ليبيا، على بعد 200 كيلومتر غرب سبها. يعود سبب نشوب هذه الصراعات الى سيطرة التُبو على المدينة والموارد النفطية الموجودة في محيطها. على الرغم من توقيع اتفاق سلام بين المجموعتين في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، اندلعت الاشتباكات مرة أخرى بعد بضعة أشهر، متسببة في دمار أوباري ومقتل عدة مئات من الأشخاص من الجانبين. ومع ذلك، في الوقت نفسه، شكل الطوارق والتُبو جبهة موحدة للتأكيد على مطالبهم بخصوص وضعيتهم كأقلية وحقوقهم التي يجب إدراجها في الدستور الليبي الجديد. ولكن بصرف النظر عن هذا التوافق الظرفي، فهم يواصلون التصادم من أجل السيطرة على موقعي النفط الرئيسيين في المنطقة. وقد سيطرا عليها على التوالي حتى الهجوم الكبير الذي شنه الجيش الوطني الليبي التابع للمشير حفتر في أوائل عام 2019.

أدى تقدم الجيش الوطني الليبي في فزان الليبية حول مرزوق وسبها وأوباري في آخر المطاف بالطوارق والتُبو إلى تشكيل ميليشيات مشتركة للدفاع عن موقعي حقل الفيل الذي كان تحت سيطرة التُبو والشرارة الذي كان بأيدي الطوارق. وهكذا تداول حديث في مايو/أيار 2016 عن إنشاء جيش وطني جنوبي. تعكس هذه المبادرة التي حملها علي كانا سليمان -وهو قائد عسكري طرقي- الشعور بالإهمال عند المجموعات العرقية الجنوبية تجاه حكومة الوحدة الوطنية بزعامة فايز السراج. وعلى الرغم من الاشتباكات التي مزقتهم خلال السنوات الأربع الماضية، سعت المجموعتان العرقيتان إلى الاتحاد تحت قيادة الجنرال علي كانا. ومع ذلك، وجب انتظار حتى أوائل عام 2019 واندلاع هجوم الجيش الوطني الليبي على فزان لكي تتحد الجماعتان العرقيتان للدفاع عن أراضيها، ولكي يتم تعيين اللواء علي كانا قائدا عسكريا للمنطقة من قبل طرابلس.

جبهة مشتركة ضد حفتر

على الرغم من مقاومتهم الشرسة لتقدم قوات حفتر، لا يمكن للطوارق والتُبو أن يصدوا بشكل دائم تقدم هذا الجيش المدعوم من روسيا والمرتزقة الأجانب. ستعود معارضتهم لاستغلال الموارد أو التموقع تجاه الكيانين السياسيين المتنافسين في الشمال للواجهة وهذا يضعفهم. وستجبرهم شراسة القتال وقوة خصمهم، فضلاً عن الدعم غير الكافي من الحكومة في طرابلس، على التراجع في الميدان أمام الجيش الوطني الليبي وتقبل وجوده في مواقع استراتيجية مختلفة، بما في ذلك المواقع النفطية.

يعود هذا الانقسام بشكل خاص إلى كون ميزان القوى بين السلطتين المتنافستين في البلاد ما انفك يتطور. وتعتبر إعادة توزيع البطاقات الناجمة عن ذلك فرصة، كثيرا ما كانت أمل المجموعتين العرقيتين لإيجاد مكان لهما في هذا المجتمع الليبي الذي طالما استغلهما وهمَّشهما، وللاستفادة من تقسيم أكثر إنصافًا للموارد النفطية. لذا من المهم بالنسبة لهم ألا يجدوا أنفسهم في الطرف الخاسر عندما ينتهي الصراع.

غير أن الأحداث تشير إلى أن التُبو والطوارق لن يستفيدوا بالاعتراف الذي قاتلوا من أجله. فإذا كانت الفوضى الاقتصادية التي تعيشها البلاد بسبب الأزمة غير المسبوقة التي نجمت عن انخفاض عائدات النفط الليبي، وإذا كانت الضغوط الممارسة من قبل القوى الأجنبية مثل تركيا (دعمها لحكومة الوفاق الوطني) وروسيا (دعمها للمشير حفتر) قد حملت السلطات المتنافسة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فإن غياب الأقليات العرقية لجنوب البلاد يجعل الخروج الدائم من الأزمة أمرًا مستبعدًا. وقصد الوصول إلى حل تفاوضي لنزاع طال أمده، عُقد منتدى الحوار السياسي الليبي في تونس من 9 إلى 15 نوفمبر/تشرين الثاني وانتهى بالإعلان عن تنظيم انتخابات في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021. وقد تم استبعاد الطوارق والتُبو من هذا اللقاء.

[ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬