تونس. الحركات الاجتماعية تمهد لثورة جديدة

[متظاهرون بمحطة الضخ في الكامور، 16 يوليو/تموز 2020. فتحي نصري، وكالة وكالة فرانس برس.] [متظاهرون بمحطة الضخ في الكامور، 16 يوليو/تموز 2020. فتحي نصري، وكالة وكالة فرانس برس.]

تونس. الحركات الاجتماعية تمهد لثورة جديدة

By : Arabic Editors

منير السعيداني

فتحت أحداث الثورة التونسية في 2010-2011 التاريخ الاجتماعي والسياسي التونسي على أفق تحول عميق. وقد اشتدت الحركات الاجتماعية منذ عقد من الزمن وشهدت تطورا يجعلها تساهم بشكل مهم في تغيير العلاقة بين الفاعلين الاجتماعيين والدولة المركزية.

من الأحداث التاريخية الفارقة في افتتاح الحركات الاجتماعية في تونس طورًا من حياتها مغايرًا لما كان خلال كامل الحُكْمَين البورقيبي والبنعلي، تعدُّ انتفاضةُ الحوض المنجمي لسنة 2008 مثالا أُنْمُوذَجِيًّا. كانت المدن المنجمية الواقعة في جنوب تونس الغربي هي مسرح الانتفاضة التي انطلقت بمجرد الإعلان عن مناظرة تشغيل بشركة فسفاط قفصة تم التشكيك في نزاهة نتائجها.

من الاحتجاج على النتائج التي فُصِّلَتْ كما المعتاد بتوافق بين إدارة الشركة الحكومية الأكثر تشغيلا في المنطقة والنقابة العمالية والسلطة الجهوية الإدارية والأمنية وهياكل التجمّع الدستوري الديمقراطي (الحزب الحاكم)، تمّ الانتقال بسرعة من استهداف إدارة الشركة وسياساتها التشغيلية إلى استهداف السلطات العمومية الجهوية فالمركزية. وكان من السمات الجديدة في هذه الانتفاضة آنذاك استهدافها للسياسات العمومية في نقطة مفصليّة (التشغيل)، وتمكّنها من الاستمرار رغم بشاعة القمع والمحاصرة، وتعبئتها حَشْدًا مُسَانِدًا مُوَاطِنيًّا وشعبيا واسعا. ولكن، وعلى الرغم من مظاهر جدتها هذه، احتفظت الحركة ببعض سمات الحركات الاجتماعية القديمة من حيث اشتراك مناضلين نقابيين فيها بل وقيادتها أحيانا، وتكوين لجان المساندة من ضمن المجال السياسي الرّسميّ والتقليديّ، وانحصارها في مَوْقِع مَنْشَئِهَا الأَصْليِّ.

تنظيم على المستوى الوطني

على غير هذا المثال، وفي سياق ما تولّد عن 17 ديسمبر/كانون الأول 2010-14 يناير/كانون الثاني 2011، تعدّدت الأشكال النضالية الجديدة (اعتصامات في العاصمة يأتي المشاركون فيها من ’الدّواخل’، مسيرات حاشدة على امتداد عشرات الكيلومترات، ...) وظهرت الأطر النضالية غير المسبوقة (انتظامٌ ذاتيٌّ قاعدي، تنسيقيات، لجان اعتصام، مجالس حماية الثورة، لجان حماية الثورة...) وطُرحت القضايا المستجدة (عَطَشُ الأهالي والدّواب والأراضي الفلاحية، مطالب بيئية، الاقتصاد الاجتماعي غير الربحي،...) بحيث أسهمت الدورة الاحتجاجية في تحوّل الانتفاضة إلى ثورة.

وفي هذا السياق، مثّلت الجامعة الصيفية الأولى للحركات الاجتماعية (قُرْبَة، 23-25 سبتمبر/أيلول 2016) إطلاقا لأشكال مختلفة من التقارب بين الحركات القائمة انتهى إلى تأسيس “التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية” التي جمعت عددا من المناضلين يمثّلون حركات ناشطة في القصرين وقفصة وسيدي بوزيد وقرقنة وجندوبة والقيروان ومدنين وقبلي وتطاوين وفرنانة وتوزر... إلخ. ثمّ امتدَّ ذلك التنسيق وتعزّز إلى حدّ انعقاد المؤتمر الوطني الأوّل للحركات الاجتماعية (نابل 24-26 مارس/آذار 2017) الذي أكد (من ورقته التوجيهية) بلورة “الفاعلين الاجتماعيين الجدد صِيَغَ تعبئة وتنظّم واحتجاج من خارج الأطر التقليدية المعروفة من أحزاب ونقابات ومنظمات”، “... مع تمسّك الحركات الاجتماعية بخصوصيتها المطلبية والمجالية ورفضها الانصهار في صيغ معمّمة”، على أساس الوعي بـفعل “آليات الوصم والتشويه التي تستهدف الفاعلين الاجتماعيين” ومثول أخطار على طريق “تثبيت الخيار الديمقراطي الاجتماعي لروح الثورة التونسية” (نفس المصدر).

وقد بيّنت أشغال المؤتمر التنوّع الذي وسم الحركات الاجتماعية على امتداد الفترة 2011 -2017، على مستويات الفئات العمُرية-الاجتماعية، مع غلبة الشّباب والنّساء، والمناطق، والأشكال النضالية المعتمدة في مختلف التجارب الكفاحية (التظلّم، الاحتجاج، إقامة اقتصاد بديل،...). وبمساعدة حاسمة من منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وهياكل نقابية تابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، أتمّ مناضلو الحركات الاجتماعية خلال المؤتمر تأسيس “التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية” بحيث تؤمّن استمرارية الجامعة الصيفية للحركات الاجتماعية ومؤتمرها الوطني. وقد حسم ابتداع الأدوات التنظيمية الثلاث (التنسيقية والجامعة الصيفية والمؤتمر الوطني) اتّجاه الحركات الاجتماعية في تونس نحو الجدّة الكاملة ببناء إطارٍ للفعل الجماعي يُخرجها من العُزْلة الإقليمية إلى التشبيك النضالي، ويكسبها هوية نضالية مشتركة، ويوحّدُ استهدافها المسؤولين عن أوضاع الحرمان واللاعدالة والإنكار التي يكابدها الضحايا (خريجو جامعات عاطلون، نساء، فئات مقصيّة من العمليات الإنتاجية، مجموعات مُبْعدة من العمليات السياسية،...) ويحدّد لها موقعًا إزاء الحركات الاجتماعية التقليدية من نقابية ومدنية وجمعياتية. أما سياق المؤتمر الثاني للحركات الاجتماعية (سوسة، مارس/آذار-أبريل/نيسان 2018) الذي انعقد تحت شعار ’’تنوع-صمود-تضامن’’ فكان متَّسِمًا بتزايد عدد الاحتجاجات الاجتماعية حيث مرّت من 4416 سنة 2015 إلى 8713 سنة 2016، فإلى 10452 سنة 20171.

ولئن كانت المظاهر السابق عرضها تندرج في مزيد اتضاح-رسوخ جدّة الحركات الاجتماعية في تونس ما بعد الثورة مقارنة بما كان قبلها، فقد انبنت حركاتٌ اجتماعية على غير هذا المنوال، ومنها حملة “مانيش مسامح” غير المسبوقة.

أُنْمُوذَجٌ مُنْشَقٌّ... ولكنّه محدود الانغراس اجتماعيًّا

ركّزت الحملة على التصدّي لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي قدمته الحكومة إلى البرلمان تطبيقا لما أعلن عنه الرئيس(آنذاك) باجي قائد السّبسيّ بعيد عملية باردو الإرهابية (مارس/آذار 2015)، ويهدف النص إلى العفو على الموظفين الذين أسهموا في الفساد خلال فترة حكم الرئيس السابق بن علي. وانطلقت الحملة منذ الإعلان عن مقترح القانون (أغسطس/آب 2015) واستمرت حتى المصادقة على نصه في مجلس نواب الشعب (13 سبتمبر/أيلول2017). وكانت (من إعلان إطلاق الحملة )“مبادرة مواطنية مستقلة مفتوحة أمام كل من يريد الانضمام (...) تسعى إلى تجميع كل المواطنين وكلّ المكونات السياسية والحقوقية والفكرية حول مَهَمَّة سحب قانون المصالحة”.

كانت نتيجة تلك النضالات ابتداعُ أنموذَج مميَّز من الحركات الاجتماعية، أولى خصائصه هي تسمية ’الحملة’، مع تعدّد المشارب السياسيّة والأيديولوجيّة، والمرور بتجارب سياسية ونضالية متنوعة. في شعارات الحملة، حضرت الأفكار اليسارية والعروبية والوسطية الاجتماعية الراديكالية وتعايشت، على أساس التساوي المتعدد والاعتراف بالحق في الوجود والتعبير. ومن سمات هذه الحركة سوسيولوجيا، غلبة الشباب، من الجنسين، على قيادتها، من بالغي التعلّم الجامعي (علوم تقنية وصحيحة وإنسانية واجتماعية ولُغات)، وغلبة أصيلي المدن الداخلية والأحياء الشعبية والمتوسطة في المدن الكبرى على خزانها البشري الرئيس، وانتماؤهم بالبُنُوَّةِ إلى الطّبقات الوسطى الحضرية وموظفي القطاع العمومي على الأخصِّ.

ومع أن الحملة ظلَّت مدينية-حضرية، وبالأساس عاصمية، وشبابية، ومتعلّمة ونخبوية إلى حدّ بالغ فإنَّها تمكّنت من أن تكسب رهان التجديد ضمن الحركات الاجتماعية في تونس ما بعد الثورة. وعلى ذلك بَدَتْ على خطٍّ مُوازٍ لتأكيد مندوبي المؤتمر الثّاني للحركات الاجتماعية (من الإعلان الختامي للمؤتمر) عزمهم على “إعادة بناء الحزام الحقوقي والمدني الدّاعم للحركات الاجتماعية من خلال شبكة المحامين ودور اللجنة الوطنية للدفاع عن الحركات الاجتماعية” بوضع خطة نضالية وإعلامية مناسبة لذلك و(من نفس المصدر)“ربط نضال الحركات الاجتماعية والفئات الهشة بنضال القوى الاجتماعية والوطنية الأخرى النقابية والمدنية في مجال المقاومة الفعلية” في معناها الاجتماعي العام.

أنموذج مبتدعٌ جديد: الكامور

اعتادت التحاليل السوسيولوجية أن تقول إن المفترق التي تجد الحركات الاجتماعية نَفْسَها إِزَاءَهُ هو بالضبط ذات المفترق الذي يَمْثُلُ أمام كلّ الحَرَكَات الاجتماعية التي تبني إطارا للفعل الجَمَاعِيِّ: إما التطوّر نحو جبهة سياسية تعبّر عن كتلة تاريخية فاعلة في مستقبل التغيير الاجتماعي في البلاد أو التذرّر في حركات جزئية غير فاعلة. وبدا من مثال اعتصام الكامور الأول (مارس/آذار-يويليو/تموز 2017) أن الاحتمال الثاني هو الذي تحقّق.

انطلقت احتجاجات الكامور على صيغة مظاهرات عمّت منطقة قصر أولاد دبّاب في أقصى الجنوب الشرقي للبلاد (500 كيلومتر جنوب العاصمة) ورفعت مطالب التشغيل والتنمية في هذه المنطقة التي تعد شركات نفطية، لتنتشر في كل أرجاء ولاية تطاوين وتصل بعد أيام إلى وسط عاصمتها التي انتصب فيها الاعتصام. ثم كان التحرّك الأقوى منع الشاحنات والسيّارات الوظيفية التابعة للشركات الاستخراجية البترولية المشرفة على الآبار المنتجة المنتشرة في الجوار من المرور إلى موقع ضخ البترول المستخرج. تم وضع الخيام على الطريق، ولكن، ولأن الاعتصام كان في وسط مدينة تطاوين فإنه لم يتمكن من منع الشاحنات من الوصول إلى محطة الضخ والتزوّد بالبترول عبر طريق دائرية. ردًّا على ذلك، تمّ الرفع من درجة الاحتجاج بالاعتصام قرب الصمام الرئيس والتهديد بإيقاف الضخ.

خلال هذه الفترة، كان المعتصمون قد دأبوا على عقد اجتماعات عامّة بشكل منتظم بهدف مناقشة المستجدات. وكانت الكلمة الفصل تعود إلى ’القاعدة’ حيث اختار المعتصمون أن يكون منهاج أخذ القرار أفقيا في إطار نظام ديمقراطي تشاركي. كانت مواضيع النقاش تطرح داخل التنسيقية التي تقرّر الاجتماع وتعلم رؤساء النقاط ويتم بناء الموقف من خلال التشاور الذي يسهم فيه الجميع ويحسم بنتائج التصويت. وفي الأثناء كان الشبان المعتصمون يقضّون كثيرا من الوقت على هواتفهم الجوالة مستفيدين من تغطية جيّدة للشبكة في قلب الصحراء، يتبادلون الأخبار مع الأقارب حتى خارج حدود البلاد، وكانوا يتناوبون على المكوث في خيام الاعتصام المنتصبة حوالي “الفانه” (أي أنبوب الضخ، بتعريب الكلمة الفرنسية). ومنذ أشْهُرِ اعتصام الكامور الأوّل الخَمْسِ كانت ملامح الأنموذج الجديد بصدد الاتضاح، متّجهة أكثر فأكثر نحو اكساب مقومات الرّسوخ مَجَالِيًّا واجتماعيًّا.

نجح المحتجون في منع فك الاعتصام بالقوة الأمنية رغم سقوط ضحية، وتم توقيع اتفاق نهائي في يوليو/تموز 2017 لم تلتزم به الحكومة آنذاك. وفي عودتهم إلى التحرك خريف 2020، استحضر شباب الكامور مخزون التربية النضالية الذاتية التي مروا بها خلال الاعتصام في بناء أنموذج جديد من الحركات الاجتماعية. وتبدو خصائص هذا الأنموذج في البنية الهيكلية وفي استراتيجيا بناء المطالب وفي كيفية خوض المعركة وفي المناورة في أثنائها.

أوّل ما ظهر من الحركة هو سيطرة الشباب المتمّرسين على عدّاد الضخ وإيقاف تدفق المادة البترولية. كانت الحركة مبنية بنفس تركيبة اعتصام 2017، من الشباب متزايدي النُّضج النضالي، مُوزّعين على نقاط الاعتصام ’المعهودة’. ولكن ذلك لم يكن إلاّ ما يظهر من عُمْق مدني كثيف ممتدّ الصِّلاَت مع الاتّحاد العام التونسي للشغل في المستوى المحلي، والجمعيات التنموية والمنظّمات الأهلية المختلفة. وتحت هذا المستوى، وفي عمق الحاضنة الشعبية، كان نسيجٌ من الانتماءات العائلية-العشائرية-القبلية سحيقٌ. ما يجمع بين مكوّنات النسيج تَوَاشُجٌ نفسيّ اجتماعيٌّ غائِرٌ يَسِيرٌ عليه تشغيلُ الذّاكرة القريبة الحافظة لمُجْرَيَات اعتصام الكامور الأول وتجاربه ودروسه، كما الذاكرة البعيدة بجراحها الحقيقية والمتخيّلة. طبقات الذاكرة هذه ومواقعها وعلاماتها كانت تقابل طبقات النسيج الاجتماعي المبني حول الاعتصام ومطالبه. في هذا المنظور يمكن أن نفهم الامتداد التاريخي للمعنى الذي اكتسبه الاعتصام، ورسوخه مجاليًّا واجتماعيًّا.

مكنت تركيبة النسيج الاجتماعي الحاضن للاعتصام، برأسها المفاوض وعمقها الشعبيّ، من مسّ أطياف المجتمع المحلي بكامل مكوّناته الاقتصادية والاجتماعية بحيث بدا المطلب الواحد المركز في ’التنمية والتشغيل’ تلخيصًا أمينا للحاجة المجتمعية المحلية الشاملة، إذ اختزل بنية تظلمية-مطلبية مترسّخة في الذهنية العامة ومستدامة في الذاكرة، ممتدة أفقيا ومترامية الجذور في أعماق فئات وشرائح اجتماعية مختلفة.

أُنمُوذَجٌ مُلْهِمٌ

خلال خوض المعركة، كانت الحركة تستمد قوتها مما توصلت إليه من التعبير الأمين عن الحاجة الاجتماعية المحلية، ومن تجذرها في بنية اجتماعية حاضنة مساندة، ومن قدرة المعتصمين على الضغط من خلال إيقاف ضخ البترول بما يضر بمصالح أصحاب الشركات الاستخراجية. ودامت المفاوضات أكثر من شهر مع وفد رسمي غير حكومي ولكنّه مفوّضٌ، حلّ من العَاصمة وأقام على عين المكان حتى انتهاء المَهَمَّة.

وأخيرا، في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تم إبرام اتفاقية مع الحكومة تقضي بتقديم منح متعددة للمنطقة والتوظيف في شركات النفط والبستنة، فرُفع الاعتصام واستأنف الإنتاج.

أظهرت الوقائع اللاحقة لنجاح حركة الكامور أنها أنموذج حركة اجتماعية جديدة مُلهمٌ وأن ما تلاها من أيَّامٍ مقبل على محاولات عدّة للنسج على منواله في غير ما جهة في البلاد. كان الدرس الظاهر من حركة الكامور يقول: “إذا ما توفقت في ضغط مُوجِعٍ على الحكومة فهي سترضح لك لا محالة”. عديدة هي صفحات فايسبوك التي عبّرت عن ذلك، مستعيدة بعض عناوين الجرائد اليومية أحيانا، عن طريق الغمز من خلال ’رفع شعار’ تم التعبير عنه على الغالب على صيغة “إِلِّي عَنْدُو فَانَا يْسَكِّرْهَا” (من كانت على مَقْرُبَةٍ مِنْهُ مَحَطَّةُ ضَخٍّ فَلْيُغْلِقْهَا). وفي الأسابيع القليلة اللاّحقة لحركة الكامور، جرت محاولات استنساخها بطريقتين: اتّباع أسلوب إيقاف الإنتاج في موقع ما، واتباع أسلوب التعبئة القصوى في مجال-مجتمع محليٍّ ما. ولكن محطات الضخ ليست متناثرة على قوارع الطرقات، وليست كل مواقع الإنتاج، كما يقال في الرَّطَانة السياسية والإعلامية الرسمية، متماثلة فيما تنتج وفي كيفيات إنتاجه.

ما كانت نتيجة محاولات الاستنساخ بالطريقة الأولى؟ كان التصرف الحكومي تجاه إيقاف شحن عبوات الغاز المستعمل في المنازل من محطة المركب الصناعي الكيمياوي بقابس التجاهل التام تقريبا. تركت السلطات المحلية والمركزية حبل التذمّر المواطني من افتقاد مادة حيوية يومية على غاربه. وكان امتداد الحركة زمنيا واستمرار ضغطها عن طريق إيقاف مثل هذا الإنتاج قاطعا لأواصر ممكنة الربط مع حاضنة شعبية لم يتم الاشتغال على تكوينها أصلا. في مثل هذه الحالات ما من تحصين شعبي ممكن للتحركات. على خلاف ذلك، كانت نقطة قوة حركة الكامور هي التوصّل إلى إحداث أقسى وَجَعٍ ممكن في بَدَنِ هيكل الإنتاج والرّبح الاستخراجييْن وما يتصل به من بَدَن هَيْكَل حماية الصناعة الاستخراجية الحكومي الإداري والسياسي من دون الإضرار المحسوس مباشرة بمجريات حياة الناس ومستلزماتها اليومية الدنيا.

ما كانت نتيجة محاولات الاستنساخ بالطريقة الثانية؟ لم تكن التحركات التي قامت بعد الكامور في القصرين وفي القيروان وفي باجة (وسط وشمال البلاد) مبنية بنفس الطريقة التي تيسّر رسوخها في المجال وفي الاجتماع المحليّيْن، ولا بنفس الكيفية التي تحقّق لها القُدُرات التفاوضيّة النّافذة. فعلى الرغم من القدرة التعبوية الحاشدة في باجة والقيروان مثلا، بدا الاقتصار على التجمّع ورفع المطالب والتذكير بتاريخيتها غير كاف، ولا كانت دعوة منظمات المجتمع المدني وحضور نواب البرلمان من الجهة وتجييش الاتحاد العام التونسي للشغل ضمانات للنجاح.

نحو تعاقد وطني جديد

ومن منظور أطوار الاحتجاجات الاجتماعية لأكثر الفئات تهميشا، كان أهم رهانات ما كان في الكامور أنه تجاوز مجرد إنجاح حركة اجتماعية إلى طرح أسئلة اجتماعية عميقة حول الثروة الوطنية. هاهنا، كان خصوم الحركة يرون خاصرة رخوة، اعتمدوها ليتحدثوا عن ظهور روح جهوية، بل وعن ذهنية قبلية-عشائرية. إن الرهان الذي طرحته حركة الكامور ذو أساس تاريخي-اجتماعي سحيق ومتين هو مشروعية المطالبة بإعادة ترتيب أولوية الأحقية بالتمتع بثمار الثروة الوطنية ما بين المستفيدين الشرعيين من أفراد المجتمعات المحلية والمستفيدين من أفراد المجتمع الكلي. إن عمق ما راهنت عليه حركة الكامور هو إنهاء الإدارة المركزية للثروة الوطنية بمنطق ’التوازنات الوطنية الشاملة’ ضمن ’المخططات التنموية الكبرى’ و’معادلات ميزانية الدولة العامة’ بما يحتمل حتى حرمان المجتمعات المحلية الكلّي من عائداتها. وكان الرهان هو التوفق في ترجمة مخصوصة لمبدأ المسؤولية الاجتماعية لا للمؤسّسة الاستخراجية فحسب بل وللدولة برمتها. وعلى ذلك، يمكن القول إنّ عمق المطلب الكاموري هو إعادة صياغة التعاقد الوطني العام حول كيفيات استغلال الثروات الوطنية في سياق سياسات عمومية تنموية تحقق الاستدامة والعمق التنموي الإنساني.

ينبني الطور الجديد الذي بلغته الحركات الاجتماعية في تونس ما بعد الثورة خلال حركة الكامور على أن منطق جريان الحركة الاجتماعية وترسخها التاريخي لا يستوجب أن يكون القائمون عليها في موقع السلطة حتى يقرروا السياسات. يمكن لهذه أن تستتب بدفع من خارج الهيكلة المعتادة لصنع القرار: من الأسفل وليس من قمة هرم القرار، بدفع من الحركة الاجتماعية وليس برسم من الحكومة، على قاعدة المطلب الاجتماعي وليس على قاعدة مقتضيات المخطط التنموي المُدَوْلَن، وبمفاعيل نقطة الضغط المحلية وليس بمفاعيل توجهات مركز القرار السياسي المركزي-العاصميّ، إلخ.

على اعتبار تمكن حركة الكامور من إخضاع السياسات العمومية الرسمية إلى القبول بسياسات بديلة، يمكن القول إن عمق المجادلة التاريخية التي طرحتها يمسّ بأسس التعاقد الوطني الذي بنته الدولة ما بعد الاستعمارية في تونس وأسست عليه نظام الشرعيات السياسية الحكومية والبرلمانية والحزبية على امتداد تاريخها، وهو نظام لا يزال يقاوم مَوَاتَهَ ونهايته التّاريخية المعلنة منذ 2010-2011. ولقد بينت سنوات العقد الماضي أن تلك النهاية قد لا تحدث في جرة قلم تاريخية مشهودة بل على وقع الانتصارات الجزئية التي تسجّلها الحركات الاجتماعية هنا وهناك، في سياق مرورها بمختلف أطوارها.

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬