كارلي أ. كراكاو
على أثر واحد من أكثر المشاهد المؤلمة في فيلم "الهدية" (2019)، تلتفت ياسمين (مريم كنج)، وهي فتاة في سن تلميذة مدرسة ابتدائية، تنتقل مع أبيها من منزلهما في الضفة الغربية الفلسطينية عبر حاجز (معبر) إسرائيلي، وتقول له "لا باس يا أبي، لم يكن هناك ما بوسعك أن تفعله".
ويمكن لهذه الجملة المشبعة بالحزن أن تلخص، وحدها، جوهر هذا الفيلم القصير المتميّز – وهو يروي قصة والد يسعى جهده لكي يمضي يوما عاديا، فيما إنجاز المهام التي تبدو سهلة لا ينفكّ يتعرقل باستمرار، وبمضي الفيلم، ورحلة الوالد وابنته، تتصاعد درجات المعاملة اللاإنسانية.
ومصدر هذه العراقيل هو الاحتلال الإسرائيلي، وفي الفيلم القصير المؤلف من 24 دقيقة، تقدم المخرجة فرح نابلسي بشكل مضمر وبحساسية، لمحة عن عالم أسرة واحدة، عاكسة من خلالها ما يواجه الفلسطينيون يوميا من خطر وإذلال.
نتعرّف على يوسف أولّا، والد ياسمين (الذّي يؤدي دوره ببراعة الممثل الفلسطيني صالح بكري، وقد ظهر من قبل في فيلم إيليا سليمان الشهير "الزمن الباقي")، في الساعات الأولى من الصباح متمددا على قطعة من الكرتون في انتظار عبور حاجز إسرائيلي، ويظهر في الخلفية جدار العزل المزّين برسوم الغرافيتي. وتضمّن التصوير الحاجز الرقم 300 سيء الصيت في بيت لحم.
ومشاهد الحواجز المكتظّة – حيث نرى رجالا يتسلّقون الأعمدة الحديديّة المرتفعة الّتي تحيط بالمعبر الضيّق والمقيّد في محاولات لاختصار رحلاتهم- تلتقط بدقّة تجربة منهكة، شاقّة، إلا أنّها روتينية بالنسبة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين يوميا.
ويفيد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (يونشا)، منذ العام 2018، وجود أكثر من سبعمئة عائق مروري تسيطر على حركة الفلسطينيين داخل الضفة الغربية. مائة وأربعون منّها حواجز بجنود. والكثير منها هي حواجز داخلية، لا ترمي إلى رصد دخول الفلسطينيين إلى إسرائيل، على عكس الفكرة السائدة حول المعابر، بل هي في الواقع تقسّم مناطق فلسطينية عن بعضها البعض. ("بيتي هنا" يردّد يوسف للجنود، في مشهد يدّل على قسوة قرب تلك المنشأة التابعة لنظام الحواجز المرعب من منزله . وفي مقابل صراع يوسف، نرى المستوطنين يعبرون بيسر أحد الحواجز بسياراتهم، مبتسمين ومدردشين مع أحد الجنود خلال عبورهم.)
يشير يوسف إلى رحلة تبضّع في بيتونيا. في الفيلم، لا ترد أسماء أي من المعابر، أو اسم موقع محدّد في الضفة الغربية لبيت الأسرة. وهذا الخيار يدّل على اعتماد الفيلم لأسلوب سهل وقوي في آن، حيث نقشت أدنى تفاصيل الشخصيات الرئيسية كما الحبكة والإطار والسياق، بمنتهى الدّقة، إلّا أنّه يتم تذكيرنا دوما أنّ يوسف ممكن أن يكون أيّ رجل، وأنّ أسرته ممكن أن تكون أي عائلة فلسطينيّة، في أي مكان في الضفّة الغربية. وتبدو نابلسي وكأنّها تخبرنا على الدوام أنّ هذا سياق ينتشر فيه الظلم ويدوم بإصرار.
وبفضل نص يتّسم بحلاوة البساطة والعمق، كتبته نابلسي وهند شوفاني، وتصوير سينمائي ثاقب لبونوا شمايار، وآداء رائع ومتبصّر للمثلين، فإن الفيلم مهيأ تماما كي يتلقفه كل من المدركين بعمق للصراع الفلسطيني، بالإضافة إلى الذين يبحثون عن مدخل للاطلاع على الوضع الحالي.
بعد المشهد الرمادي، بإضاءة باهتة، عند الحاجز حيث يوسف محاط بمزيج يسبب الدوار يتكون من يأس ومن دخان سجائر ينفخها في وجهه زملاؤه المسافرين، يقفز الفيلم إلى منزل يوسف حيث نلتقي زوجته نور (مريم كامل باشا) ، للمرّة الأولى. وقد طليت جدران غرفة يوسف ونور بلون أخضر دافئ، فيما تتسلل أشعة شمس خفيفة إلى الداخل عبر الشبابيك المغطاة جزئيا بستائر من الدانتيل الناعم. يتحوّل يوسف فجأة، تحلّ ابتسامة جذّابة محل تعابير الألم فيما تقفز ياسمين بفرح على سرير والديها، ثم أيضا، حين يناقش يوسف ونور الاحتفال بعيد زواجهما.
يعود تعبير الألم إلى وجهه في مرات لا تحصى طوال الفيلم، بما فيها حين تسأله نور عن حال ظهره. فهو يعاني من ألم ظهر مزمن، يزداد تفاقما بسبب الساعات التي يمضيها بلا نوم وهو ممدد بالقرب من الحاجز.
هنا، يبدا نمط جديد بالظهور، حيث نرى تعابير وجه يوسف متأرجحة بين الفرح تارة، والغضب طورا. ويظهر الفرح في حالات الأحداث الأليفة، مثلاً خلال الأوقات التي تربطه بابنته، وتغاضيه عن مطالبتها بالمزيد من السكاكر في محل البقالة. أمّا الغضب، فيبرز خلال الأوقات التي من المفترض أن تكون انتقالية، تافهة، عند المعبر الإسرائيلي، مرة حين يغامر بالخروج خلال النهار في مسعى لشراء هدية عيد زواج لنور، ثم خلال عودته عبر المعبر نفسه مع ياسمين في مساء اليوم نفسه.
ومن خلال مراقبة تلك العواطف المتغيرة والمتأرجحة، تذكّرت رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس: المتشائل" وهو عمل روائي ساخر يعكس مشاعر الأمل واليأس المتعايشة حكما والتي تمثّل الظلم اللاحق بالوضع الفلسطيني. وعلى الرغم من أن فيلم "الحاضر" يتضمن أوقاتا ممتعة من الفكاهة والخفّة، إلا أنّه ليس هناك ما هو ساخر في هذا الفيلم-فهو محبوك بواقعيّة تتضمن أيضا "مشاهد" رمزية تلتقط الصراع ذاته لـ "المتشائل"، صراع بين الأمل وبين اليأس.
في بدايات الفيلم، تغلق نور الثلاجة في مطبخها بشكل خاطئ وتحاول الابتعاد، مرتاحة لأنه بدا وكأنّ الباب أقفل، إلا أنه يعود للتأرجح مفتوحا بعد دقائق. (سنعلم لاحقا أن تأمين ثلاجة بديلة عن تلك المعطوبة كهديّة لنور هو ما حفّز يوسف على الخروج مع ياسمين في ذلك اليوم بالتحديد).
في واحدة من أعمق اللحظات رمزيّة، ترى ياسمين عصفورين رائعين في قفص داخل محل تزوره مع والدها. ويتناقض جمال العصفورين والفرحة التي يجلبانها بداية إلى وجه الطفلة، مع حبسهما، وفي ذلك معنى مجازي ومثير للقلق. تستقر آلة التصوير على وجه ياسمين عندما يظهر من خلف قضبان قفص العصافير، مبديا تعبيرا مذهلا في شبهه لوجه أبيها عندما نراه خلف قضبان غرفة زنزانة التوقيف عند المعبر.
يهددك الجنود باعتقالك، ثم يدعونك تمرّ. خيبة أمل، ارتياح. يأس، أمل. هكذا تمر تجربة يوسف وياسمين. تماما كما تمر الحياة تحت الاحتلال.
إن الإفصاح عن المزيد من تفاصيل الحبكة سيعني كشف الكثير من أحداث هذا الفيلم الذكي والمشغول بدقة. إنّما ما يمكن الكشف عنه فهي الطريقة التي يعتمدها الفيلم لإبراز، بطريقة فنية، كيف يمكن لما يُفترض أن يكون أوقاتا انتقالية أن يصبح، تحت الاحتلال، الحدث الرئيسي لليوم. ما يفترض أن يكون مجرد نقطة انتقال هو في الواقع موقع يجرّدك من القوة، يستضعفك، ويعرّضك للمخاطر. وما يفترض أن يكون مشوارا بسيطا وممتعا لشراء هدية لزوجتك هو فعليا رحلة تكون خلالها الحيوات تحت تهديد مباشر.
تؤدي الممثلة الشابة مريم كنج دور ياسمين بطريقة مذهلة، وهي شخصية كتبت بدقة وانتباه لكي تجسد القوة والقدرة على التحمّل والشجاعة الأنثوية إنما بطريقة هادئة، ومباشرة ومفاجئة. وتتجنب ياسمين اتباع الأنماط المحدودة والمنتشرة بكثرة التي ترسم للطفل البطل، أو ذلك البريء الذي يعاني بصمت.
حتى الآن، فاز "الحاضر" بجوائز من مهرجانات من بينها "مهرجان كليرمون فيران للفيلم القصير"، مهرجان بروكلين للأفلام، المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في بالم سبرينغ، ومهرجان كليفلاند للأفلام الدولية. ونابلسي، وهي مخرجة فلسطينية – بريطانية، قد عرضت الظلم الذي يختبره الفلسطينيون في ثلاثة أفلام قصيرة أخرى هي "كابوس في غزة"، "اليوم أخذوا ابني"، و"محيطات من الظلم".
كما في "الحاضر"، يكشف فيلم "اليوم أخذوا ابني" (حيث ساهمت نابلسي بكتابة النص كما أنّها كانت المنتجة المنفذة)، الظلم اللاحق بالحياة الفلسطينية تحت الاحتلال عبر علاقة والدة وابنها. في ذلك الفيلم، تصاب الوالدة بالإحباط، بسبب أنواع العنف التي سيعاني منها ابنها الذي أخذه جنود إسرائيليون واعتقلوه. (تتخلّل الفيلم صور حقيقية لأطفال موقوفين، معتقلين، ومعنّفين على أيدي الجنود الإسرائيليين). الوالدة في الفيلم ليست موجودة لتشهد اعتقال ابنها، إلا أن ابنتها وجيرانها يخبرونها أن ابنها كان ينادي طالبا أمّه – "ربما كان يظن أن بإمكاني إيقاف الأمر... أنا؟ مواطنة من بين العاجزين". تتعذب لأن معاملتهم اللاإنسانية ستجعل ابنها "عجوزا". تندب قائلة "سيجعلونه يهرم".
في ندوة (افتراضية) أخيرة لصنّاع الأفلام ضمن "مهرجان أفلام "إسرائيل الأخرى"، تكلمت خلالها نابلسي عن الفيلم، سألتُها عن تجربة التصوير في الضفة الغربية المحتلة، ولاسيما عملية التصوير المُغامرة للمشهد عند الحاجز 300 في بيت لحم، والذي تصفه بأنه "على الأرجح أكثر مشهد مجزي" في الفيلم.
وتشرح أن "الشيء المتخيّل الوحيد في ذلك المشهد كان بطل الفيلم، يوسف". "أمّا كل مئات الفلسطينيين الآخرين الذين تراهم هناك فهم بالفعل فلسطينيون يذهبون إلى العمل مع انبلاج الفجر"... وتطحنهم عجلة الحياة اليوميّة.
صوّرت نابلسي المشهد مع طاقم صغير للحد من إمكانية لفت نظر الجنود. "
"لدي نقاش فلسفي متكامل كان من الممكن أن نجريه حول ممن كان يتعين أن نطلب الإذن لتصوير وحشية كهذه.. ثم قرّرت أننا لن نغامر بالأمر."
في أحد مشاهد الفيلم الرئيسية اللاحقة، ينتقل التركيز من يوسف وياسمين إلى الجنود الإسرائيليين، الذين يمكننا سماعهم يتصارعون بين بعضهم البعض حول ما يراه من يبدو أنه جندي أعلى رتبة من معاملة غير متشددة بما يكفي، وربما لاإنسانية بما يكفي من قبل جندي أدنى رتبة (إزاء الفلسطينيين).
وتقدم نابلسي لنا هنا لحظة محددة كي نفكر بها مليا، فيما نشهد جنديين يخدمان على أرض محتلة يتصارعان أخلاقيا بين بعضهما البعض حول ما يعنيه العيش في عالم يحكمه "القواعد هي القواعد" و"لدينا نظام". عند أي حد تتمكن حقيقة الظلم التي باتت شائعة بشكل مروع من التغلب على الانتماء إلى نظام مصمم لكي يضلل الناس، ويحرمهم ويؤخرهم ويجردهم من كراماتهم؟
في مقالة تعرض المجموعة القصصية "أطفال فلسطين" لغسان كنفاني (وتعد تأملات كنفاني حول معاناة الأطفال الفلسطينيين كركيزة لبعض من أهم أعماله)، تروي المترجمة كارن إي. رايلي طرفة. ففي العام 1970، قام أحد أصدقاء كنفاني بسؤاله إذا كان متفائلا حول الوضع الحالي للشؤون الفلسطينية، فأخبره قصة عن ملاحظة لجورج برنارد شو يقول خلالها أنّه "يشعر أنه سعيد جدا" خلال عيد ميلاده التسعين، "مقارنة بالبدائل".
ضحك كنفاني إلا أنه عاد وأجاب بجدّية "اليوم ليس عيد ميلادي، ولكن إن سألتني عن شعوري لن أتردد بالقول أنني أشعر بأنني سعيد جدا، ليس لأني أفكر بالبديل، بل لأنني أعرف بأننا نمشي في طريق ليس له بديل."
يمكن أن نتخيّل يوسف وياسمين على ذات الطريق ، مرغمين على عبور الحاجز كوسيلة وحيدة للوصول إلى منزلهما، ومنجزين انتصارات تبدو صغيرة، إلا أنها في الواقع انتصارات هائلة في إطار نظام معقد وقمعي.
فيما كان يوسف يحاول نقل الثلاجة التي اشتراها عبر المعبر، يمنع من العبور. "إنها الوسيلة الوحيدة" للمرور بالسيارة، يقول، ويبدأ بسرعة بالتخطيط لخطوته المقبلة. بطرق عدة، بنواح عديدة، فإن فيلم "الحاضر" هو عن بقاء المرء في سبيله، ولكن أيضا استغلال الفرص والصمود في وجه الظلم على امتداد الطريق، حيثما يمكن للمء أن يجدها أو يخلقها. لقد روت فرح نابلسي قصة مهمة بوضوح مذهل، تستحق المشاهدة على نطاق واسع.
[نشرت المقالة بالإنكليزية على جدلية. وترجمتها هنادي سلمان]