أصدر الفنان الفلسطيني فرج سليمان ألبومًا غنائيّا بعنوان "أحلى من برلين" بالتعاون مع الروائي ومؤلّف الأغاني مجد كيّال. تم إطلاق الألبوم في البداية عبر بثّ مباشر من خلال فيسبوك ونُشِر فيما بعد على المنصات الموسيقية المختلفة، من بينها سبتفاي. يتعامل الألبوم، على مستوى الموسيقى والكلمات، مع المعضلات المحيّرة التي تُشكّل الواقع الفلسطيني المعاصر في حيفا، ويتطرق لمواضيع متنوعة تتراوح ما بين الحب، الهجرة، المدينة، الإحلال، الزواج، إلى موضوع "الوحش" الذي يُنتج ويعيد إنتاج المدينة باستمرار. ويحتوي الألبوم على إحدى عشرة أغنية، يغنّي سليمان معظمها بمفرده، عدا اثنتين: “خلصنا أغاني" و"بلا طعمة"، إذ يشاركه في غنائهما فنانون آخرون، من بينهم شادن قنبورة وسماء ووائل واكيم وهنري أنداروس.
لم تكن الظروف التي زامنت إنتاج الألبوم عاديّةً أبدًا، كما هو متوقع، فقد عمل عليه الفنّانان في خضمّ الوباء العالمي. قرّر كيّال وسليمان القيام بهذا العمل المشترك بعد أن أُلغيت مشاريعهما الأخرى بسببه. كانت عملية التسجيل بالأخص، كما وضّح سليمان في المقابلة، غير سهلة، فأعضاء الفرقة التي يعمل معها يقيمون في باريس. وأضاف سليمان: "عملت مع فرقتي عبر تطبيق زوم وكان ذلك بمثابة تحدٍّ." لقد تمّ التسجيل والتوليف وهندسة الصوت في باريس، وشارك سليمان الفرقة عن بعد، عبر زوم.
يُمكن أن يُعدّ هذا الألبوم عملًا تجريبيًّا لكلا الفنّانين. كيّال صحفيّ وروائي، ولم يبدأ في تأليف الأغاني إلا في 2017م. وكان أنْ تعاونَ مسبقًا هو وسليمان مع الفنّانة الفلسطينيّة رنين حنّا لإنتاج ألبومٍ غنائيّ للأطفال بعنوان "قلبي غابة". وكان أنْ كتب أيضًا أغنية لسليمان لألبومه السابق المُشاد به "البيت الثاني". لكنّ الفنّانين في تعاونهما الأخير، يحاولان أن يستخدما أساليب جديدة، أن يصلا إلى جمهور أوسع، وأن يجلبا إلى السّطح الاحتكاكات المتأصّلة بين الجماليّ والسياسيّ. في المقابلة التي أجريتها معه، يقول كيّال: إنّ "الرواية مختلفة عن الأغنية؛ فالأخيرة تركّز بشكلٍ خاصٍّ على قرب المعنى والإيجاز، بينما تمنحك الرواية حيزاً أكبر للتعقيد والدقّة". أما بالنسبة لسليمان، العازف المحترف مهنيًّا، فقد كان هذا الألبوم تجربته الثانية فقط في الغناء. وعلى الرغم من كونه تعامل مسبقاً مع نصوص ضمن عمله في المسرح إلا أن معظم مسيرته الفنية كانت متمحورة حول العزف الاحترافيّ. فلقد قدّم سليمان عروضاً موسيقية في مهرجان لندن للجاز ومهرجان جاز مونترو الشهير، وظل عمله مقتصرًا على العزف إلى أن قدّم أغنيته الأولى الشهيرة "اسّا جاي" التي شجعه جمهوره بعدها على إصدار ألبوم غنائيّ كامل.
الذكريات والتهكّم
يحكي الألبوم، في بعض أغانيه، ذكرياتِ وأشواقَ رجلٍ انتقل من حيفا مؤخراً للعيش في برلين. فمثلاً، في أغنيتي "شارع يافا" و"في أسئلة براسي" يحكي لنا سليمان بأن الشخصية الأساسية في هاتين الأغنيتين: "يتّصل بشريكته رغبةً في سماع بعض النمائم عن أشياء تتعلق بالحياة العادية، عن الحيّ الذي كان يسكن فيه، عن أم صبري، عن الجار المهووس برفع الأثقال، أو حتى عن الخلافات حول مواقف ركن السيارات". في أغنياتٍ أخرى، يصوّر الألبوم مدينة حيفا من وجهة نظر نقدية تكاد تكون ساخرة. فهو يحاول أن يعالج الواقع المتناقض الذي يعيشه الفلسطينيون هناك، في حيفا؛ المدينة التي برزت في العقدين الأخيرين كمركز ثقافي مدني للفلسطينيين المقيمين في داخل ما يُسمى ب "الخطّ الأخضر". وأقول "ما يسمى" بالخط الأخضر لأن هذا الخط ما هو إلا خطّ وهميّ، وجزء من وهميّته أنّه يمثّل استمرارية منطق الاستيطان داخله (المناطق التي احُتلت عام 1948) وخارجه (المناطق التي احتُلت عام 1967).
يتساءل سليمان في أغنية "شارع يافا":
بس أنا شو بقدر أعمل قدّام الوحش العظيم
عم بنهش بطن المدينة؟
مين قال إنه الشوارع راح تضلا نفس الإشي؟
مين قال إنه المدينة بعدها بتنقطع مشي؟
مين قال إنه الحارات بعدها لعبتنا البريئة؟
مين سرق منّا الطبيعة وقلّنا حافظوا ع البيئة؟
يقدّم لنا سليمان وكيّال في الأغنية السابقة نقداً لاذعاً لواقع الطبقة الفلسطينية الوسطى الناشئة في حيفا وعلاقتها بأجهزة الدولة الاستعمارية الاستيطانية. يصف الفنّانان، موسيقيًّا وغنائيًّا، ذلك "الوحش العـظيم" الذي يستمر بلا كلل في نهش وتقطيع أوصال المدينة؛ معيداً تعريف شوارعها وسمائها، ومقلّصاً لمساحات الحياة فيها. إننا نتحدث هنا، بالمعنى المادي، عن عملية الإحلال (gentrification)، التي يمكن أن نعّرفها بأنها عملية إعادة بناء مُمنهجة لحيٍ ما عن طريق الاستثمار العقاري (رأس المال) والتغيير في التركيبة السكانية على أُسس عنصرية وطبقية وجندرية (أي سياسات الدولة الإدارية في فرض السيطرة). هذا التغيير السكاني المُمنهج يعني طرد المقيمين الأصليّين في الأحياء القديمة ليحلّ محلهم سُكان جدد ذوو دخلٍ ماديّ أعلى وإمكانيات اقتصادية أكثر تنوعاً. هذه العملية دائمًا ما تكون قائمة في طبيعتها على مرتكزات ذات بعد جندري وعنصري ورأسمالي، فهي تهدف نحو محو طريقة حياة مُعينة واستبدالها بأخرى. إنّ عمليّة الإحلال قد تحدث في كل مكان في العالم ولكنها لا تتخذ الشكل والكيفية نفسها؛ فهي عملية تعتمد على الظروف التاريخية، تحالفات القوى القائمة في سياق أو مكان محدد، وعلى ردود فعل المجتمعات المتأثرة بها. فعلى سبيل المثال، التحالف ما بين الرأسمالي الإسرائيلي وبلدية حيفا الاستيطانية يشمل عدد من المشاريع من ضمنها مشروع "مساحة ٢١"[1] ومشروع شارع يافا ومشروع تحويل وادي صليب الى قرية فنانين. وهذه المشاريع كلها تهدف الى تغيير الوجه المدني لحيفا، لا لخدمة الاهداف التوسعية للرأسمال فقط؛ فهي تخدم ايضا المشروع الاستيطاني الاسرائيلي، الذي ما زال يحاول هدم ودفن المدينة الفلسطينية. ففي السياق الفلسطيني الخاص، يجتمع الرأسمال والاستيطان في منطق التوسع.[2]
[صورة١ وصورة ٢: بيوت في وادي صليب كانت تعود للاجئين الفلسطينيين٬ وهي مصنفة الآن كأملاك غائبين مهددة بالإحلال الطبقي الإسرائيلي. الصور بعدسة المؤلف٬ ٢٠١٩.]
لقد تعرّضت حيفا، كمدينة حضرية، لتغيّرات جوهرية في مطلع القرن العشرين. أي فلسطيني كان قد مشى في شوارع المدينة عام 1909 لاحظ بقلق مستوطنة هيرتسيليا؛ المستوطنة اليهودية الأولى التي برزت فجأة على سفح جبل، وكان يملكها يهود أوروبيون (الأشكناز) ويهود السفارديم.[3] تَبِع هذه المستوطنة نشوء أحياء يهودية أوروبية أخرى في عشرينات القرن العشرين، وذلك بعد فرض الانتداب البريطاني الاستعماري في فلسطين. كان من أوائل هذه الأحياء حي هادار هاكارمل، ثم حي بات غاليم، وبُني بعدها حي الكرمل الأعلى. ولم تُنتج هذه التطورات المدنيّة في عهد الانتداب أحياء منفصلة ماديًا عن بعضها البعض فحسب، بل أدّت أيـضًا إلى ظهور أنماط عمرانية ونُظم انتخابية مختلفة، كما أدّت إلى تنفيذ برنامج مُمنهج لإعادة تسمية الشوارع، وإلى محاولات مُتعنتة لخلق نظام اقتصادي مستقلّ للمستوطنين الأوروبيين اليهود.
كانت هذه التطورات، بشكلٍ أساسيّ، هي النتاج المادّي للعلاقة الحميميّة، الصدامية أحيانًا، بين الانتداب البريطاني الاستعماريّ والعصابات الاستيطانية الصهيونية. وأقول صدامية أحيانًا، لأن اهداف الاستعمار البريطاني كانت مختلفة عن أهداف الاستيطان الصهيوني: فالأول كان يطمح للسيطرة الإدارية على الفلسطينيين والسيطرة المادية على مواردهم، أما الثاني فكان وما زال يطمح الى الغاء ومحو الوجود الفلسطيني، إلا أن ذلك لم يمنع الإنجليز من احتضان المشروع الصهيوني ودعمه. تجلّت هذه العلاقة بشكلها الأكثر فجاجة في عملية هدم المدينة القديمة في حيفا على يد دولة الاحتلال حديثة النشأة آنذاك ما بين مايو ويوليو 1949، وكان ذلك بأمر من رئيس وزرائها الأول دافيد بن غوريون، والذي كان وزير الدفاع حينها أيضًا. لقد صَمّمت سلطات الانتداب البريطاني خطط الهدم تدريجيًا، إذ وضع مُخطط العمران البريطاني باتريك غيدز خطة الهدم الأولى عام1920، وتم بعدها إصدار مسح مُفصل لهدم مناطق من حيفا عام 1936، ومسح آخر عام 1938. أما في عام 1947، فقد تم التقدم بخطة طالبت بالهدم الكامل للمدينة من أجل "تنظيف العشوائيات والأحياء الفقيرة (ويقصدون بذلك المساحات الفلسطينية)، وإعادة بنائها بهدف السماح للمالكين بأن يقوموا بتطوير ملكياتهم وفق "طرازات حديثة".[4]
من الهامّ الانتباه هنا للغة الاستعمارية: المكان الفلسطيني هو مكان قذر يجب استئصاله واستبداله بتصاميم وتخطيطات "عصرية" (أي كولونيالية). لم يستطع المستعمرون الإنجليز تنفيذ مخططهم في هدم المدينة القديمة بعد اكتشفاهم أن عملية تعويض السكان المحليين الفلسطينيين ستكون مُكلفة. ولم يصبح هذا الهدم الكامل لمركز مدينة حيفا مُمكِنًا إلا بعد قيام الدولة الإسرائيلية الاستيطانية. في مناقصة لـ "تصميم وسط مدينة حيفا" عام 1951، قال آرييل شارون، وقد كان رئيس وحدة تطوير البلديات حين ذلك، إنّ "طرد العرب من حيفا بعد الاستيلاء عليها كان الشيء الوحيد القادر على جعل أيّ حلّ جذري مُمكنًا".[5] وبينما قامت السلطات الانتدابية البريطانية، التي كانت تهتم أكثر بالسياسات والإدارة، بعمليتيّ التصميم والتخطيط، اجتاح الجهاز الاستعماري الاستيطاني، ذو منطق الإبادة المُحدَّد، المدن والقرى الفلسطينية، طَرَد الوجود الفلسطيني منها وهَدَمَ نسيجها المدَني كليًا.
الفلسطيني، العربي والمدني
مين حط السوق في مول
مين طلّعنا من لبيوت؟
مين قسّمها ومين أجّرنا
ستوديو أصغر من تابوت؟
مين أجا من تل أبيب؟
قصدي، مين أجا من بولندا؟
مين عمّر ابراج قزاز
وإجا هدلنا البرندة؟
-من أغنية "شارع يافا"
منذ ذلك الوقت، أخذت حيفا بالتعرّض لعملية مستمّرة من التغييرات حدّدت وأعادت تحديد الواقع اليومي لسُكَّانِها وفقًا لهرميّة دولة الاستيطان العنصرية والطبقية والجندرية التي تُموضع الجسد والمكان الفلسطيني كـ "آخر" أساسي لها. خطة الإحلال التي يحيل إليها سليمان وكيّال في ألبومهما هي أحدث هذه المخططات الاستعمارية التي تسعى لتغيير المدينة. فقد أفضى هذا المخطّط الأخير إلى تحويل السوق القديم إلى مول تجاري، وأدى مجددًا إلى طرد الفلسطينيين وتقسيمهم وتحديد وجودهم من منطلق الملكية الخاصة - ستديو أصغر من تابوت.
[الصورة ٣: اعلان لشركة تطوير وبناء إسرائيلية عن مشروع "تطويري" في وادي صليب ضمن مخططات الإحلال الطبقي الاسرائيلية. بعدسة المؤلف: ٢٠١٩.]
ومع ذلك، لا يجب أن نفهم هذه المساحة الاستيطانية التي يتم فرضها باستمرار على أنقاض المساحة الفلسطينية على أنها متجانسة. فالعنصرية والهرمية الاستيطانية الصهيونية تطال كذلك اليهود العرب واليهود السود الذي يبقى وجودهم في داخل هيكلية الدولة الاستيطانية محل نزاع سياسيّ. دعونا ننظر مثلًا إلى وادي صليب، وهو، تاريخيًا، حيّ فلسطيني يقع في قلب مدينة حيفا على أسفل منحدر جبل الكرمل. يُجاور الحي مستوطنة حضر الكرمل (هادار هاكارمل) التي تُعتبر من أوائل المستوطنات اليهودية في حيفا، ودائمًا ما يتم مقارنة وادي صليب معها. كان حيّ وادي صليب أحد الأحياء الرئيسة في المدينة قبل التهجير القسري لسكانه الفلسطينيين عام 1948. بعد ذلك بفترةٍ وجيزة، قامت الدولة الاستيطانية بإعادة صياغة القوانين التي وضعها الانتداب البريطاني عام 1939 للتعامل مع ظروف الحرب، فأُصدِر مثلًا في عام 1949 قانون أملاك الغائبين، الذي تمخض عنه ما يُعرف بقانون "حارس أملاك الغائبين" المشابه لقانون "حارس أملاك العدو" البريطاني.[6] أتاحت هذه الهياكل القانونية عملية إعادة تحديد معالم ملكية الأراضي والممتلكات وفقًا للهرمية العنصرية الاستيطانية، وتم بموجب قوانين 1949 تعيين منازل اللاجئين الفلسطينيين في وادي صليب كـ “أملاك غائبين". أدّت هذه التعيينات القانونية إلى استمرار فرض غياب المقيمين السابقين بدلًا من ضمان وجودهم؛ فهدف هذه القوانين، بالطبع، ليس هو الحفاظ على أملاك الغائبين، بل أن تصبح الدولة الاستيطانية قادرة قانونيًا على إعادة تشكيل النسيج المدني للمدينة وللهويات السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت تحتويها. تشير كلمة "غائب"، ضمنيًا، إلى معانٍ لها علاقة بالماضي وبالرحيل الطوعي، وبالتّالي تُلغي هذه الكلمة أكثر مما تكشف. إلى اليوم، ما تزال ممتلكات حي وادي صليب تخضع لقوانين "أملاك الغائبين".
بعد إتمام شرعنة هذه السرقة، أصبح وادي صليب الحيّ السكني للمستوطنين اليهود القادمين من شمال افريقيا، والذي كان أغلبهم من المغرب. ليس صدفةً أن يُمَوضَع اليهود العرب هناك، الأمر الذي يشبه ما حصل في يافا، إذ نجد ميلًا نحو إحلال "العرب" من اليهود مكان الفلسطينيين في يافا. في زيارته لوادي صليب عام 1948، لاحظ بنيامين هولفن، رئيس دائرة الشؤون اليهودية في الشرق الأوسط التابعة للوكالة اليهودية، أن ثمّة "إشاعات" تتناقل بين اليهود العرب. كان بعضًا منها أن "مكان ونوعية السكن غير لائقة لاستيعاب المهاجرين القادمين من أوروبا.... ولذلك تم تعيينها لكم". أو "في نهاية المطاف، يعتقد (أي اليهود الأوروبيون على قمة الهرمية الصهيونية) أنكم معتادون على العيش في هذه الظروف لأنكم من حي الملاح[7] (أي حي عربي مناقض للحي الأوروبي الاستعماري) الموجود في المغرب".[8] إن هؤلاء اليهود العرب لم يسكنوا في منازل اشتروها عن طريق السوق، بل في منازل خصصتها الدولة لهم بعد نهب الممتلكات الفلسطينية. على أيّة حال، لقد تمّ النظر إلى اليهود العرب من منظور عنصري، فعُدّوا مالكين طبيعيين لتلك الأماكن، وذلك لافتراض الدولة الصهيونية أنهم قادمون من ظروف عيش مشابهة في الفقر في حي الملاح في المغرب. لقد خلقت القوانين العنصرية للدولة الإسرائيلية نمطًا مدنياً مُحددًّا دَفعَ بالفلسطينيين، مسلمين ومسيحين، إلى حيّ وادي النسناس، القابع تحت الحكم العسكريّ، وهي ذات القوانين التي وضعت المستوطنين العرب فيما سُمّي بـ "أماكنهم الطبيعية" والتي هي في الأصل ممتلكات الفلسطينيّين. إلى جانب ذلك، جعلت تلك القوانين العنصريّة الوجود الامتيازي لليهود الأوروبيين في الأحياء المُنشأة حديثًا أمرًا طبيعيًا، كحيّ هادار هاكارمل مثلًا. خلق هذا بالنسبة لليهود العرب ظروفًا معيشية صعبة قادت بالنتيجة إلى مظاهرات/أحداث وادي صليب عام 1959عندما اِحتَجّ سكان الحيّ ضد الفروقات العنصرية الهيكلية داخل المدينة. إن الصراعات بين اليهود العرب ودولة الاستيطان هي صراعات تتمحور حول إشراكهم وتضمينهم بشكل أكبر في جهاز المواطنة الاستعماري، فهم يملكون الحق، كيهود، بأخذ الجنسية وإن كانوا من العرب. اليهودي العربي يشترك مباشرة في الدولة الاستيطانية وأجهزتها. وتوضيح معاناتهم من الهرمية الاستيطانية لا ينفي ذلك، بل يُسهم في توضيح هذه الهرمية العنصرية ومنطقها. في النهاية، بعد مظاهرات وادي صليب، تم إخلاء اليهود العرب من الحيّ.
المدينة المحلّة، المُستعمَرة الاستيطانية والفن
بعده كل ليلة البوليس بتمنيك عَ ولاد العرب؟
بعده ماكلنا الغضب؟
بعدا الطوش مع الروس؟
.....
كبرت الحارة سمعت
جابوا ملان أثيوبيّة
وانت نقلتي مع صديقك سكنتوا بالألمانيّة
سرد هذا التاريخ هام من أجل فهم قيمة العمل الذي يقدمه كلًا من سليمان وكيّال والمساحات التي يغنون عنها. مشاريع الإحلال في حيفا لها نمطٌ محدد؛ فهي تحدث في سياق من نكبة مستمرة لا تنكفئ عن تشريد وطرد وضبط الجسد والمكان الفلسطينيين. يُصّور الفنانان هذه العملية بذكاء في سؤالهما: "من أجا من تل أبيب؟" ليُعيدوا بعدها صياغة السؤال قائلين:" قصدي مين أجا من بولندا". ويقصد الفنانان بذلك أن التحولات السكانية في سياق مدينة حيفا لا تعني مجرد انتقال اجتماعي سياسي من مدينةٍ إلى أخرى؛ فهي تعكس استمرارية المشروع الاستيطاني الإسرائيلي الذي يتكئ على تهجير الجسد الفلسطيني، إعادة تشكيل المساحة الفلسطينية وفرض الواقع الاستعماري الاستيطاني محلّها. "الوحش"، هنا، هو ماكينات الاستيطان الرأسمالية الصهيونية، وذلك لأن رأس المال والمُستَعمَرة الاستيطانية بينهما نوع من التشابك الحميمي في حبهما للتَوسّع والحدود والسيطرة على المساحات المُعارِضَة، كما بيّنا سابقًا.
أشار كيّال في المقابلة إلى كون هذا "الوحش الرأسمالي" "قادر على احتواء معارضتك واستخدامها كمادة خام لكي يعيد إنتاج نفسه، وهذا ما يحدث في حيفا في السنوات الأخيرة". في كثير من الكتابات الأكاديمية والصحفية، غالبًا ما يتم تصوير حيفا كعاصمة ثقافية فعلية للفلسطينيين الذين يعيشون داخل أراضي ال٤٨ المحتّلة.[9] وأصبح تنامي عدد الأماكن الثقافية في المدينة شيءٌ مُلاحظ، مثل مقهى وغاليري فتّوش ومقهى كباريت ومسرح خشبة ومسرح الميدان (والذي أُغلقت ابوابه قبل بضعة أعوام) والراي، وتجذب شباب فلسطينيين من القرى الفلسطينية في داخل ما يُسمى بالخط الأخضر. أنتج هذا المشهد الثقافي مجموعة متنوعة من الانتاجات الثقافية الهامّة، من ضمنها مسرحيات وشعر وأغاني وعروض رقص مُعاصر وروايات وكوميديا. ويتعارض هذا المشهد بشكل صارخ مع محاولات بلدية حيفا النيوليبرالية والرمزية لدمج الوجود الفلسطيني من خلال تصنيفات غير سياسية مثل "الثقافة العربية" و "الأكل العربي" و "الشام"، كما هو الأمر في مهرجان الأكل العربي الذي تنظمه البلدية ومهرجان عيد الأعياد. وهنا يكمن، جزئيًا، السبب وراء التصوير المتكرر للمشهد الثقافي في حيفا من خلال عدسة "المقاومة الثقافية"؛ فهو يُقاوم هذا الدمج المباشر ويحاول أن يقاطع، قدر المستطاع، الهياكل التمويلية للدولة الاستيطانية. إلا أن ذلك لا يلغي احتمالية مشاركة هذا المشهد الثقافي في مشروع الإحلال وتغيير الحيز المدني الفلسطيني. عرّف كيّال "المقاومة الثقافية" على أنها "الافتراض بأن العمل الثقافي، لوحده، هو استراتيجية كافية للتحرر من أي شيء". وأضاف أن هذا "فهم مُبسّط يُخلّص الفنانين من المسؤولية السياسية والاجتماعية تحت مسميات "الابداع"".
هذا، بالتحديد، شيء هام لنلتفت إليه ونؤكده في ضوء مخططات الإحلال الإسرائيلية في حيفا. ذلك لأن عملية الإحلال تستخدم "استراتيجيات ثقافية" هدفها جعل الحقل الثقافي حقلًا محايدًا، مُسلعًا ومرتبطًا بالسوق، كما يحدث في المهرجانات التي أشرت لها مسبقًا. ما يزال حيّ صليب، الذي تم طرد سكانه عام ١٩٥٩، موجوداً حتى اليوم، ولكنّه يخضع لعملية ممنهجة من البيع لوكالات الاستثمار العقاري التي تُخطط لإعادة تطويره وجعله "قرية فنانين". تعرضَ وسط مدينة حيفا لموجة كاسحة من الإحلال ؛ أعادت، من جهة، تشكيل تركيبته السُكانية، ومن جهةٍ أخرى، أعادت تصميم جغرافيته الفلسطينية. ليس غريبًا إذًا أن يتساءل سليمان عن هذا الحيّ المتمدد، وعن الأثيوبيين (مشيرًا بذلك للأثيوبيين السودّ من المستوطنين اليهود) الذين نُقلوا للعيش في الحي.
تم شراء بعض الأماكن الثقافية الفلسطينية التي تم ذكرها سابقًا كممتلكات خاصة من الدولة الاستيطانية وأصبح مالِكوها بذلك مرتبطين في عملية إحلال مدينة حيفا. أشار كيّال لهذا قائلًا: "نحن اشتركنا في مشاريع الإحلال تحت شعار "الثقافة" "الحياة الليلة “و"التسلية". ولكننا، في واقع الأمر، استأجرنا أماكن كانت تعود تاريخيًا لفلسطينيين مُهّجرين من الشركات الإسرائيلية التي سرقتها وحولتها لملكية خاصة. وبعد ذلك، انتقلنا لإعادة انشاء "مشهد ثقافي" من خلال هذه الأماكن." يحيل كيّال هنا إلى الملكية الخاصة، ليس كشيءٍ حياديّ، بل كشيء متأصل في وظائف الدولة الاستيطانية. العلاقة ما بين الدولة الاستيطانية، الملكية الخاصة، المدينة والفنون هي، بالتالي، علاقة معقّدة ذات طبقات متعددة، وهذا موضوع يستحق بحث أكثر.
أحلى من برلين
شوي بتوجع برلين
حلوة وملانة ناس
بس بشتاق لإم صبري
وبشتاقلِك انت بالأساس
....
احكيلي شو بحكوا أخبار
اعطيني شو عندك نميمة
-فرج سليمان، من أغنية "في أسئلة براسي"
لماذا برلين في عنوان الألبوم، إذًا؟ أجاب سليمان بأن "برلين كانت استعارة؛ فهي يُمكن أن تُستبدل بلندن أو باريس أو أي مدينة أخرى. ولكننا اخترنا برلين لأنها مدينة شبابية وغالبًا ما تجذب الشباب الفلسطينيين من حيفا. وأيضًا، من ناحية أن يلقى الألبوم صدىً في العالم العربي، فبرلين مدينة لجوء لكثير من الشباب العرب، وأصحبت مركزًا ثقافيًا بهذا المعنى". أضاف الفنانان بأن "برلين هي استعارة، والشيء الذي يُعطي للاستعارة قوّتَها هو قابليتها أن تحمل العديد من المعاني." من المهم أن نُنوه هنا أن بعض الإسرائيليين قاموا بوصف حيفا، في مشاريع الجنترة التي تتعرض لها، بأنها "برلين إسرائيل".[10]
القدرة على السفر في العالم الحاضر محكومةٌ بشكلٍ كبير بالتفاوتات في جواز السفر الذي يملكه المرء، قدرته المادّية وتدريبه التعليمي واللغوي. لذلك، أظن أنني لا أجانب الصواب عندما أقول بأن السفر إلى برلين يرمز إلى الطبقة الفلسطينية الوسطى في حيفا التي بدأت تتشكل تدريجيًا منذ عام ١٩٦٦، ولكنها صعدت بشكل أسرع منذ التسعينيات نتيجةً لتغييرات في أنماط الهجرة من الريف إلى المدن بغرض التعليم والعمل، وتحسينات في "مستوى المعيشة"، وتحولات في الهيكلية الاقتصادية والسياسية للدولة الاستيطانية في داخل الخط الأخضر، من ضمنها تحول الاقتصاد الرأسمالي الإسرائيلي إلى اقتصاد نيوليبرالي.[11] خلال هذه الفترة، تلقى جيل شاب من الطلاب الفلسطينيين القادمين من المركز المدني لحيفا ومن البلدات والقرى المجاورة، تدريبهم الفني والأكاديمي في جامعات الدولة الاستيطانية الإسرائيلية أو من الخارج.
لا حاجة لتوضيح أن ظهور طبقة وسطى ما لا يعكس حدوث تحولات اقتصادية فحسب، بل تحولات في طريقة العيش أيضاً، حيث يتم إعادة تنظيم مؤسسات الزواج والتعليم والترفيه والثقافة فيما يتناسب مع هذا التحول الاقتصادي. تُعّقب أغنية "شو بدك بزوجك" على هذا التحول الطبقي وعلاقته مع الزواج، فيسأل سليمان في الأغنية امرأة: "شو بدّك من جوزك؟"
بعرف معه مصاري، بتروحوا ع ميلانو، وبوخد لولاد ع السفاري." تطول القائمة في ذكر ما يبدو بأنه وصف لحياة أسرة من طبقة متوسطة يتمركز وجودها حول المفهوم الجندري لل"للعائلة النووية السعيدة". في هذا الموضوع، يشير سليمان وكيّال إلى أن هذه الأغنية هي عن "الصعود الطبقي لامرأة وُلِدت، كالعديد منّا، في أحياء حيفا المُنهَكة. ونشأت بعد ذلك في وسط هذه "الحياة الثقافية"". أمّا في أغنية "في أسئلة براسي"، فيخاطب سليمان شريكته السابقة قائلًا: "وانت نقلتي مع صديقك سكنتوا بالألمانية." أصبح حي الألمانية، كحيّ مدني، المركز الفلسطيني للمشهد الثقافي، ويرمز انتقال الزوج إليه لهذا الصعود الطبقي المكاني والخطابي.
يضيف كيال أن "هذه الاغنية تُعبّر عن صعود طبقي لفتاة وُلِدت، كالكثير منّا، في الحارات التعبانة. وعندما كبرنا، أصبحنا فجأة في قلب هذه الحياة الثقافية، وأصبحنا نجلس بالمقاهي ونتحدث عن المسرح. لكن نحن جئنا من حليصة، ومن القرى[12] المعزولة والمخنوقة. وهذا هو التناقض. فأنت تعيش في مكانين: تعيش في ما يسمى بالمشهد الثقافي بكل اضواءه. وتعيش أيضًا بالجهة الثانية.... هذا نوع من صعود طبقي يحدث في قلب مدينة حيفا." أما في أغنية شو بدك بجوزك، فينتقد الفنانان فكرة التقدم الخطي من "الزواج التقليدي" (الذي يُحدده بشكل صارم العلاقات العائلية والموقع الاجتماعي والاقتصادي) إلى "زواج الطبقة الوسطى"، الذي يبدو، ظاهريًا، على أنه زواجٌ مُنفتح، ولكنه يخضع أيضًا لتأثير القوى المُنتِجة له. في كلتا الأغنيتين، وعلى الرغم من اختلاف محتواهما، يصف الفنانان الزواج بكونه محددًا تحديدًا صارمًا وفقًا للتصنيفات الاجتماعية التي يقوم عملها على ضبط الناس والتحكم بهم.
الجمالي والسياسي
العام المنصرم، زرتُ مدينة حيفا ومكثت فيها لفترة. مشيت حول "مدينة حيفا الموازية"، كما وصفها الكاتب المسرحي الفلسطيني بشار مُرقص مرّة. حيفا هي مدينة موجودة رغمًا عن البنية التحتية الاستيطانية الاستعمارية، ولكن بسببها كذلك. ترك وادي صليب، بالأخص، الأثر الأكبر على رؤيتي لحيفا. ما زال الحضور الشبحي للاجئيها يطارد المدينة الاستيطانية، ويطارد الحضور الفلسطيني فيها أيضًا. هذا هو ما جعلني أشعر بالقرب من ألبوم سليمان وكيّال؛ لأنه استطاع أن يعّبر عن هذا التوتّر- عن هذا الاغتراب الوجودي. تتضمن كلمات الأغاني البعض من التهكم والنقد، وتُحاول أن تتعامل مع الماضي بوصفه ما يُعطي للحاضر شكله. في أغلب أغاني الألبوم، تُصور الموسيقى الواقع التعيس والمتعارض لمدينة حيفا الفلسطينية وتعطي لكلمات الأغاني بعدًا أكثر عمقًا.
يحاول الألبوم، بطرقٍ شتى، زعزعة المنطلق الذي غالبًا ما يُعالج الفنون والأغاني والقصائد والروايات والرقصات الفلسطينية بمعزل عن مصنفات الملكية، الأرض، الثقافة، الزواج، المستوطن، المحلي، السلعة ورأس المال التي تحددها. فالألبوم، موسيقيًا وكلاميًا، يحثنا على توسيع رؤيتنا للمدن الفلسطينية وما نحكيه عنهم للجماهير المختلقة. ويدفعنا كذلك نحو رؤية التناقضات التي يجب أن نعترف بوجودها ونعمل على تفكيكها. فكما أشار كيّال، يجب علينا أن نتخطى مسميات "المقاومة الثقافية" لأن "أي حقل ثقافي تحرري حقيقي هو حقل محبوك دائمًا بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي". في كلامه هذا، لا يقصد كيّال أن الحقل الثقافي يجب عليه أن يكون فقط في خدمة الأيدولوجيا، بل، كما يحاول الألبوم فعله، عليه أن يجعل من التناقضات التي تحدد حياتنا اليومية ملموسة وواضحة. وعليه أيضًا أن يُحلل طريقة عيشنا في داخل التصنيفات المفروضة علينا وطرق مقاومتنا لها. وأخيرًا، علينا أن نستشف من الحقل الثقافي معاني وصور واستعارات ورؤى قادرة أن تُتنج، ولو بشكل تخيلي بالبداية، واقعًا مختلفًا.
[ترجمة: ربا صليبي]
[2] مساحة ٢١ هو الاسم الدعائي الذي تستخدمه بلدية حيفا الاستعمارية للترويج لمشروع الإحلال في البلدة التحتى في حيفا. للمزيد٬ انظر هنا.
[3] السفارديم هم مجموعة يهودية تنحدر من اسبانيا والبرتغال، تعرضت للطرد من اسبانيا منتصف القرن الخامس عشر بعد سقوط الحكم الإسلامي في الاندلس٬ ثم اتجه عدد كبير منهم نحو مناطق الدولة العثمانية قبل ان ينتهي بهم المطاف في الدولة الاستيطانية الإسرائيلية.
[4] انظر Kallus, Rachel, and Ziva Kolodney. 2010. “Politics of Urban Space in an Ethno-Nationally Contested City: Negotiating (Co)Existence in Wadi Nisnas.” Journal of Urban Design 15 (3): 403–22. . يجب علينا التنويه هنا لان وصف الصراع في حيفا كصراع اثني هو غير صحيح. فكما اشرنا في النص٬ الصراع هو بين المستوطن وبين المحلي.
[5] انظر Kolodney, Ziva, and Rachel Kallus. 2008. “From Colonial to National Landscape: Producing Haifa’s Cityscape.” Planning Perspectives 23 (3): 323–348.
[6] قانون أملاك الغائبين هو قانون استيطاني إسرائيلي يعرّف من هُجّر أو نزح أو ترك حدود دولة إسرائيل حتى تشرين ثاني 1947، خاصةً على أثر الحرب، على أنّه غائب. وتعتبر كل أملاكه (يشمل الأراضي، البيوت وحسابات البنوك وغيرها) بمثابة "أملاك غائبين" تنقل ملكيّتها لدولة إسرائيل، ويديرها وصيّ من قبل الدولة.
[7] الملاح هو اللقب الذي كان وما زال يطلق على الحي اليهودي بالمدن المغربية العتيقة٬ ثل الرباط٬ وسلا٬ وفاس٬ ومكناس٬ ومراكش٬ والدار البيضاء.
[8] Weiss, Yfaat. 2011. A Confiscated Memory: Wadi Salib and Haifa’s Lost Heritage [Electronic Resource]. New York, NY: Columbia University Press, p.29.
[9] Karkabi, Nadeem. 2018. “How and Why Haifa Has Become the ‘Palestinian Cultural Capital’ in Israel.” City & Community 17 (4): 1168–1188. . انظر أيضا لهذه المقالة من مجلة نيويورك تايمز الامريكية.
[10] See Haaretz, The Fall of Haifa: The city Supposed to Be the Berlin of Israel.
[11] Hanieh, Adam. 2003. “From State-Led Growth to Globalization: The Evolution of Israeli Capitalism.” Journal of Palestine Studies 32 (4): 5–21.
[12] يوضّح مجد هنا بانه: "عندما نقول قرية نقصد أن الأجواء والعلاقات والبيئة الاجتماعيّة في الأحياء الفلسطينيّة في المدن الفلسطينيّة هي أجواء وبيئة ذات طابع ريفي قروي... أي أن الناس قريبة من بعضها وتعرف بعضها تحمل نفس الملامح الاجتماعيّة، خاصةً لأنّها تنحدر من قرى جليليّة مختلفة." من المقابلة مع مجد كيال وفرج سليمان.