[أكد مكتب تحرير المخطوفين والمخطوفات تحرير خمس نساء تتراوح أعمارهن بين الثانية عشرة و ...] وقع الخبر كصاعقة هزت دواخل العوائل التي تسكن القاطع A8 في مخيم [ج] للنازحين في مدينة [ص] الشمالية. عشرون خيمة، عشرون عائلة، عشرون مخطوفة. بانت ظلالهم وهم يتحركون في خيمهم كالأشباح مسرعين. والفوانيس تلون الخيم باللون الأصفر الباهت. الضباب يكتسح الخواء، الرؤية شحيحة. لا صوت يصدر سوى رذاذ مطر، يطرق على سقف الخيم بلطف نعومة وعواء كلاب بعيدة. الليل هادئ والشوارع فارغة سوى من البرد المتجول فيها بحرية. درجة الحرارة في المخيم 3- مئوية. الليل يبدأ بعد الخامسة مساءً حتى السابعة وعشرين دقيقة صباحاً. الظلام يفرض سلطته ويصطاد الوقت بشكبة لا مرئية من خزينة العالم. الوقت لمن يسرقه، ضوء الشمس شفاف ونقي ولاذنب له، هذه وظيفته: أن ينير العالم، لكل شيء في العالم وظيفة، للحياة وظيفة وللموت أيضاً.
خرج [مام عباس] من أول خيمة، يتغطى ببطانية بلون القهوة بالحليب اتقاءً للبرد، وعلى رأسه كتلة بيضاء من الشعر. أشعل ضوء المصباح وراح ينير الأرجاء ويتحسسها لكيلا يقع في برك المياه، بيدٍ ترتجف من شدة البرد. اختلط لون البشرة بالأحمر والأزرق. لم يدرَ لها لون، طرق على خيمة [شهاب] والذي لم يندهش لسماع صوته صاحياً. كان يعرف كل المعرفة أنه ـ على الأقل مثله ـ لم ينم رغم تعبه واحتياجه للراحة. أشعل مام عباس سيجارة وراح ينفث دخانها في الهواء والحسرة تملأ عيونه الناعسة. بعد برهة خرج [شهاب] وهو منحنٍ لارتداء جزمته، فوصل إلى سمعهما صوت نسائي ناعس من الداخل يرجوه بالإسراعِ بإغلاق باب الخيمة لأن البرد ـ وكما قالت ـ أسرع من الضوء في اقتحام الخيمة. كان شهاب يلف رأسه الأصلع بوشاح أبيض منقط بمربعات سوداء كثيرة. وتعابير وجهه القاسية تشرح كم أن الحياة أهدت له أيامًا ساعاتها مثقلة بالألم المميت. مات كل شيء فيه، إلّاه. يقفُ على قدمين دون رغبة منه. ما زال في الانتظار. قادتهما أقدامهما إلى خيمة [إدريس] وإذ به جالس على عتبة المطبخ الضيق يزيل الطين عن الأحذية ويسعل بين الفينة والأخرى. كانوا جميعاً يعطفون على إدريس ويخترقون منطق ـ فاقد الشيء لا يعطيه ـ فقد حاولوا جاهدين إهداءه ضحكة أو ابتسامة رغم احتياجهم جميعًا إليها. كانوا ينجحون بذلك بعض المرات، لكن غالباً ما يفشلون لأن أحاديثهم عند تجمعهم في إحدى الخيم تدور حول ابنه الذي قتله داعشيٌ لأنه لم يرض بالمجاهدة [في سبيل الله] وكانوا يتفقون في قولهم [الرب الذي خلق السماء والأرض، ووهب الحياة للإنسان والحيوان والنبات، الذي خلق الماء والنار، والقمر والشمس، أهو بحاجة لمن يجاهد في سبيله والمدافعة عنه؟ وماذا يكون إيمان الإنسان مقارنة بعظمة الرب؟ كيف لأشخاص يقضون حياتهم في بيوت طينية راضين بما كرمهم الرب من حياة ويشكرونه كل يوم بالوقوف باتجاه الشمس والدعاء من الوقوف مع شيء شرير، أو لا يتوافق مع ما يمليه عليهم ضميرهم؟ ثم أن الرب خلق كل إنسان بضمير ومعتقد مختلف. كيف يكون معتقدنا السبب في خوفهم؟ ثم ماذا؟ هل كلف الرب أحداً بمحاسبة المخطئين بدلًا عنه؟ سرعان ما تبدأ دموع إدريس بالتحرر من عينيه وتسيل على خدّين أصابهما الجفاف. يحاول إخفاء دموعه، لكن العيون شفافة، تسع للعالم كله، لا يمكنها الكذب، حتى وإن أرادت ذلك.
انضم إليهم جميل وداوود والطبيب المتقاعد سيروان، ومدير المدرسة الابتدائية، الأستاذ صلاح، وكمال، البنّاء سابقًا، حين كانوا في شنگال. حين كان ينام في بيته، فقد اعتزل البناء كما قال ولن يبني بيتاً مادام لا يمكنه بناء بيت لنفسه وهو يسكن في خيمة. وأراس صاحب مكتب الصيرفة، وخالد الحلاق سابقاً، ولقمان، النجارسابقاً. وغيرهم. كان لهم جميعاً مهن، لكنهم أصبحوا الآن متساوين، لهم لقب واحد: نازحون من شنگال.
اجتمعوا ودلفوا إلى كراج سيارة الدكتور سيروان. أشعلوا النار في الحطب داخل [تنكة] للدهن. بعد برهة اختلط السخام بلونها الأصفر الفاتح. كل بضعة دقائق يتبادلون التجمع حول [التنكة] للتدفئة. الضباب يملأ السماء والأرض. ينفخون في أياديهم لتدفئتها ويشعلون السجائر. بعض الهمهمات غير المفهومة تصدر منهم بين الحين والآخر.غاب جميل لدقائق ثم حضرَ وفي يده صينية وإبريق شاي وناول لكل منهم استكان شاي بالهيل. راحوا يرتشفونه بحذر لكيلا تحترق ألسنتهم. قال كمال وهو يبادل مكانه قرب التنكة ليتدفأ غيره:[والآن، سوف ننطلق إلى مفرق كرشين مع أول الصباح ] فأجاب الدكتور سيروان وهو ينظر في الفراغ :[لنصل إلى الصباح، كل شيء فيه خير مع نور شيشمس*] اتفق معه الجميع بهزةٍ من رؤوسهم .
بدأت خيوط الضوء باختراق الظلام، وتدحرجت على الأرض من بين الضباب. بان الصقيع في الساقية. صمت مطبق يسكن هذا الفجر. طلب كل منهم من الآخر أن يأوي إلى النوم ولو لدقائق لكن عبثًا. عليهم بالمشقة للحصول على الأشياء. فكما يعتقدون، ما يسهل الحصول عليه يسهل الاستغناء عنه. فبقاؤهم هنا وانتظار الصباح لا يشعرهم بالعجز، لا يشعرهم أنهم وقفوا مكتوفي الأيدي. في الصباح انسل من بينهم الدكتور سيروان، لحقه الأستاذ صلاح. أحضر كل منهما سيارته واتجهوا إلى مفرق كرشين. كان أراس يتقرفص في مؤخرة سيارة الدكتور سيروان من نوع [FAW]. مرّت بذاكرته اللحظة التي قضى عليها الزمن بأنياب ذئاب شرسة وقطع الحبل الذي يربطه بالحياة. في لحظة مثل هذه، كان يتقرفص في سيارة FAW تخترق الطريق مسرعة من قريته تل عزير نحو الجبل. في صباح ابتسمت فيه السماء ابتسامة لطيفة ونثرت شمسها على ذلك النصف من الأرض. وهاجتِ الأرضُ كبُركانٍ ينتظر لسنوات منسية في سرداب الزمن. الثالث من أغسطس، 2014 على الطريق بمسافة [1] كم من الشارع العام في مفرق تل عزير الرابط بين [شنگال ـ شلو] قطع أفراد داعش الطريق وصوبوا الأسلحة نحوهم، حتى أطفأ ابنه، الطالب في كلية الطب جامعة الموصل، السيارة. ترجل منها اتباعًا لأوامر الأمير الداعشي. فصلوا الرجال عن النساء. نادى الأمير على شاب متسخ الملابس والمظهر. ناوله سلاح كلاشنوف وأمره بالتصويب نحو الرجال. قال بصوت خشن :[لديكم خياران، اسمعوا، لن أكرر كلامي. إما أن تنطقوا بالشهادة وتدخلوا دين الإسلام، أو اترك هذا الشاب الجديد يتدرب على التصويب في رؤوسكم] لم ينطق أحدهم بحرف. أشارالأمير إلى الشاب بحركة من يده للإطلاق. تشوَّف الرجلين، أراس وابنه، أطلق الرصاصة الأولى، أصابت رأس ابنه، والثانية أصابت ذراع أراس، فوقع أرضاً. واقتادوا زوجته وزوجة ابنه المقتول وبناته إلى سياراتهم. أطبق جفنيه وهو يئن وجعًا وينزف، حتى رأى نفسه في كوخ الرجل الدرويش [ميشو] الذي كان يرعى الغنم.
في مفرق كرشين، انتظروا حتى الثانية ظهرًا. جاءت سيارتان من نوع [DEER]. كانت ابنة مام عباس أول من ترجلت من السيارة. تخلّصت من العباءة وهرولت دون أن تدرك خطاها لاحتضان أبيها. والثانية زوجة جميل. فور نزولها تقيأت فالسفر يشعرها بالغثيان. ثُمَّ ابنة داوود، قد أضحت شابة. لم ينقبض قلبه في أول الأمر. فهو لم يعرفها، حتى ارتمت في حضنه. ثم أصغر بنات الأستاذ صلاح. ما أن رآها حَتّى سالت دموعٌ اختبأت في عيونه منذ أربع سنوات. ثم انتظروا جميعاً. من تكون الخامسة؟ حتى تقدم السائق ليعاونها على النزول. كانت اخت [إدريس] الذي ضحك لأول مرة بعد رؤيتها. فقال كمال وهو يضحك كما الجميع [أربعة أعوام ونحن نحاول معك يا رجل لم تصدر منك ولا ضحكة صغيرة، ثم بمجرد رؤيتها تضحك كالمجنون هههه] .