ندوب الديمقراطية: تيودور أدورنو وأزمات الليبرالية

ندوب الديمقراطية: تيودور أدورنو وأزمات الليبرالية

ندوب الديمقراطية: تيودور أدورنو وأزمات الليبرالية

By : Osama Esber أسامة إسبر

بيتر جوردون

لبّى تيودور أدورنو في السادس من نيسان\أبريل 1967 دعوةً من جمعية الطلاب الاشتراكيين في جامعة فيينا كي يُلقي محاضرة حول "مظاهر تطرف اليمين الجديد". كان الموضوع ملحاً آنذاك لأن شعبية الحزب الوطني الديمقراطي (وهو حزب فاشي تأسس مؤخراً في ألمانيا الغربية) كانت تحلق، وعلى وشك أن يتجاوز عتبة نسبة الـ 5٪ المطلوبة لضمان التمثيل في سبعة من برلمانات ألمانيا الإقليمية الأحد عشر. حَظيَ أدورنو باحترام كبير في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، ليس بسبب نتاجه الفلسفي والثقافي وحسب بل أيضاً بسبب تحليله للتوجهات الفاشية، التي كانت ما تزال حيةً فيما يُدْعى بالأنظمة الديمقراطية للغرب الرأسمالي. وكان الطلابُ والنشطاء الاشتراكيون، الذين اجتمعوا في فيينا، متلهفين للاستماع إلى آرائه. ألقت محاضرتهُ الضوء، رغم قصرها، على الأمثلة المحددة لعودة الفاشية الجديدة في ألمانيا بعد الحرب، وتناولت السؤال العام حول ما هي الفاشية، وكيف يجب أن نفكر بتحديات اليمين المتطرف للديمقراطية الليبرالية. قال أدورنو في المحاضرة إن الديمقراطيات الليبرالية هشة بطبيعتها ومليئة بالتناقضات وعرضة للانتهاكات المنهجية، أما مُثلها المعلنة فتُنتهك بصورة متكررة في الممارسة مما يؤدي إلى توليد الاستياء والمعارضة والتوق إلى حلول من خارج النظام. لهذا يتعيّن على الذين يدافعون عن الديمقراطية أن يواجهوا اللامساواة المتفاقمة والخطيرة التي تولّد هذا الاستياء وتمنع الديمقراطية من أن تكون ما تزعم أنها تجسّده. 

تُذكّرنا هذه المحاضرة التي نُسختْ من شريط كاسيت ونُشرتْ في ترجمة إنجليزية بعنوان "مظاهر تطرف اليمين الجديد"، بانخراط أدورنو السياسي في أواخر الستينيات، وتخدم أيضاً في تصحيح سوء الفهم العام الذي لحق بأدورنو وصوره كفيلسوف غامض وكسول وسلبي لاذ فيما وصفهُ جورج لوكاش بازدراء بأنه "فندق الهاوية الكبير"(1). وبعد انتهاء سنوات منفاه في الولايات المتحدة وعودته إلى فرانكفورت نذر أدورنو نفسه لا للفلسفة فقط بل أيضاً لإعادة بناء جمهورية ألمانيا الفدرالية، وتحدّث بصورةٍ متكررة، شخصياً ومن خلال الإذاعة، حاضاً جماهير مستمعيه على اعتناق المُثل الديمقراطية في نقد الذات والتعليم والتنوير. أما الذين ليسوا عمياناً حيال انبعاث الحركات الاستبدادية في أنحاء المعمورة، فيمكن أن تخدم النوبة الأولى للحماس الفاشي الجديد في ألمانيا الغربية في منتصف الستينيات، كتأكيد حكيم لما ذهب إليه أدورنو بأن الحركات الفاشية ليست استثناء في الديمقراطية الليبرالية بل علامات داخلية وبنيوية على فشلها. هذه الرأي العميق لأدورنو (والذي يمكن أن ندعوه أيضاً الموضوع الجوهري في التقويم الديالكتيكي لمدرسة فرانكفورت للفاشية) لم يسئْ فهمه المناصرون المحافظون الذين يمكّنون الآن القوى التي تهدد الديمقراطية وحسب، بل أيضاً بعض النقاد في اليسار غير الراغبين برؤية الفاشية كتهديد متواصل، ويقصرونها على ماض مضى، معتبرين المخاوف من انبعاث الفاشية أعراضاً للهستيريا الليبرالية. وسيعرفُ كلُّ من يقرأ أدورنو أن هذا خطأ. ويمكن أن تساعدنا قراءة هذه المحاضرة في الفترة الحالية التي تشهد عودة للفاشية الجديدة على تقدير القوة المستمرة لآرائه. ومن بين الصور المشوهة الكثيرة عن أدورنو، المنتشرة بين النقاد اليساريين واليمينيين المتحمسين على حد سواء، ربما كانت الصورة الأكثر استمرارية هي أنه كان رجلاً امتلك ثروة كبيرة وفضّل أن يعيش حياة ترف في الصروح العالية والغرائبية للحداثة وامتلك صبراً قليلاً أو كفاءة محدودة في السياسة العملية.  غير أن القصة الحقيقية أكثر تعقيداً. فأدورنو الذي وُلد في فرانكفورت في 1903 نشأ في عائلة من الطبقة الوسطى. وكان والده، تاجر النبيذ الذي من أصل يهودي، ميسورَ الحال لكنه لم يكن ثرياً. وتلقى "تيدي" الشاب تعليماً جيداً في الموسيقى من أمه وعمته اللتين كانتا موسيقيتين محترفتين، لكنه انجذب أيضاً إلى الفلسفة الحديثة والفكر الاجتماعي (كانط وهيجل وأعمال المتمردين كيركجارد وماركس ونيتشه وفرويد) التي قرأها بأسلوب تميز به، مقارناً فيما بينهم وكاشفاً عن تناقضاتهم واختلافاتهم، وما كان مرة عقيدة مستقرة صار جدلاً بلا نهاية. وبعد تخرّجه من المدرسة الثانوية التحق أدورنو بجامعة فرانكفورت، حيث درس الفلسفة وكَتَبَ عن الظاهراتية الهوسرلية(2) والتحليل النفسي. وهناك التقى أدورنو مع ماكس هوركهايمر(3)، الذي تولى إدارة معهد الأبحاث الاجتماعية (ما يدعى بمدرسة فرانكفورت)4، وعمل مع مجموعة من مفكري الجناح اليساري والنقاد الاجتماعيين الذين اشتملوا على والتر بنجامين(5) الذي ألهم أدورنو كي يشحذ شفرة النقد ويطبقه بلا رحمة على تفاصيل الرأسمالية والحياة الحديثة. وكان كتاب أدورنو الأول، والذي هو دراسة لكيركجارد، يحمل شبهاً قريباً في الأسلوب والمنهج مع دراسة بنجامين الصعبة جداً والشهيرة عن المسرح الباروكي الألماني مما جعل المؤرخ جيرشوم تشوليم(6)، وهو صديق مشترك، يدعوه نوعاً من الانتحال.

 لم يكن أدورنو ناشطاً سياسياً بالمعنى الدقيق للكلمة، لكنه كان غريزياً ناقداً للسياسة الليبرالية لسنوات ما بين الحربين، وعثرَ هو وزملاؤه الذين يذهبون مذهبه ويَسْلكون طريقه على منزل مناسب في معهد الفكر الاجتماعي، والذي كان معروفاً في ذلك الوقت بين الطلاب في فرانكفورت باسم مقهى ماركس، على سبيل الدعابة. وهناك طوروا آراءهم الفلسفية التجريدية في سياق مشكلات ملموسة في التاريخ والمجتمع. ربما ابتعدوا عن الأجندة الماركسية أو الماركسية الجديدة لمؤسسي المعهد إلا أن الفهم الجدلي للعلاقة بين الفلسفة والواقع المعيش بقي موضوعاً مستمراً في عملهم. وبعد أن أُجْبر أدورنو على مغادرة البلاد واختار المنفى في 1933 انشغل مع زملائه في مدرسة فرانكفورت بالفاشية كموضوع للبحث الثقافي والسوسيولوجي(7). وفي الحقيقة بزغت النظرية النقدية من هذا المرجل. وصارع أدورنو وأعضاء آخرون في المعهد كي يشرحوا كيف هيمنتْ الفاشية وراقتْ لدوائر انتخابية مختلفة في الانتخابات الديمقراطية، وكيف حالما استلمت السلطة قامت بتحويل الدولة.  وبالرغم من أن أدورنو نادراً ما هبط من التحليل الفلسفي إلى التحليل المؤسساتي إلا أنه ذهب مذهب زملائه بأن الفاشية ليست مشكلة ألمانية وحسب بل إنسانية، وأنها مرض يهدد جميع المجتمعات الحديثة ولا يمكن شرحها إلا بأدوات ”عِبرْمَناهجيّة“ تجمع بين تخصصات عدة تضم العلوم السياسية وعلم الاجتماع وحتى علم النفس. غير أن هذه الجهود كانت تنطوي على مجازفة وهي أن استخدام منهجية كهذه سيؤدي إلى فقدان الفاشية لخصوصيتها ويضخمها إلى بلية كونية لا تتمتع إلا بعلامات قليلة قابلة للتمييز في الزمان أو المكان. وحافظ أدورنو وزملاؤه في أفضل أعمالهم على تركيزهم على ما دعاه أدورنو "نقد صغائر الأمور وتوافهها(8)"، الذي يحافظ على جدل بين العام والخاص. ويتوضح هذا التركيز على الخاص مباشرة حالما ننقل انتباهنا من الأعمال الكلاسيكية المحلقة التأملية مثل "جدل التنوير"، الذي ألفه أدورنو وهوركهايمر، إلى كتابات أكثر تجريبية مثل "دراسات في النازية" لفرانز نيومان (9) وأتو كيرشهايمر(10)، عضويْ مدرسة فرانكفورت اللذين نادراً ما يُذْكران اليوم لكن دراستهما كانت محورية لبرنامج المعهد المضاد للفاشية.  ويجب ألا نغفل أيضاً إسهام أدورنو في علم النفس الاجتماعي في كتابيه "الشخصية التسلطية و"تجربة المجموعة" اللذين جمع فيهما هو وزملاؤه معطيات كمية ونوعية للتوصل إلى فهم شامل لاحتمال انبعاث الفاشية بين المواطنين الديمقراطيين، وغاصوا عميقاً في النفس وأشاروا إلى أن التسلط غير قابل للاختزال إلى علم نفس فردي وأنه في النهاية يعكس الشروط الموضوعية للمجتمع الحديث. إن "مقياس ف(11)" الشهير الذي تم إدخاله في 1950، صُمم كمقياس للنزعات العامة (مثل النزعة التقليدية والتعصّب الاستعلائي والعداء للخيال) وهَدَفَ إلى تفسير لماذا يمكن أن يشعر المواطنون الحديثون بأنهم منجذبون للفاشية أو يملكون قليلاً من المصادر النقدية الضرورية لمقاومتها. وحين يقرأ المرء اليوم كتابيْ "الشخصية التسلطية" و"تجربة المجموعة"، سيندهش من وفرة التفاصيل التجريبية والاستعداد لتمييز النزعات التسلطية ليس في مؤسسات سياسية معينة وحسب بل أيضاً في السمات الأكثر شيوعاً للحياة اليومية. قالت الدراستان إن الفاشية ليست شراً متعالياً أو مرضاً لا علاج له، وينبغي ألا تسبب قلقاً فهي سمة كامنة ومتفشية في الحداثة البرجوازية. ومن خلال هذا التعريف الموسّع يستشفّ المرء، دون شعور بالراحة، أن الفاشية لم تُهْزم هزيمة منكرة في نهاية الحرب. وفي محاضرة 1959، أوضح أدورنو هذه النقطة بجلاء: "إن الماضي الذي يرغبُ المرء بتجنبه ما يزال مُفْعماً بالحياة ”. ولا يمكن، بالنسبة لأدورنو، إنكار استمرار الفاشية على المستوى العميق. فقد نجح مئات وحتى الآلاف من مسؤولي الحزب النازي السابقين في تجنب التدقيق في سلوكهم في وقت الحرب وواصلوا أعمالهم في جمهورية ألمانيا الفدرالية دون مقاطعة. لكن الفاشية، كما قال، وُلدت من "الموقف العام للمجتمع“، واحتوت الديمقراطية الليبرالية في ذاتها على دافع إلى توحيد المعايير قوّاهُ شكلُ السلعة الذي اختزل الأشياءَ والكائنات البشرية إلى مواد قابلة للتبادل. وبعد أن جُرد الأفراد من اختلافاتهم تحولوا إلى كتلة جماهيرية غير مفكرة تمقت جميع أفكار المقاومة ومهيأة للخضوع. ولا يمكن أن تُعالج الفاشية أو تُهْزم إذا نُظرَ إليها فقط كليبرالية آخرٍ، كعاملٍ مُمْرضٍ غرائبي جاء من الخارج، فهي لا تتألف من عناصر نادرة بل من معادن أساسية تشكل مواد بناء عالمنا المشترك. وفي محاضرة 1959 قال أدورنو: "أعتبرُ بقاء الاشتراكية الوطنية داخل الديمقراطية الاحتمالَ الأكثر تهديداً من بقاء التوجهات الفاشية ضد الديمقراطية". إن هذا الفهم للفاشية كشيء داخلي، كشيء ليس غريباً على الديمقراطية الليبرالية، يمكن أيضاً أن يعكس تاريخ أدورنو. فقد كان واعياً، حتى قبل صعود هتلر والنازيين، للعنف الكامن الذي يجري في شرايين المجتمع البرجوازي. وفي الأعوام التي تلتْ لم يشعر بالحرج من إيراد الذكريات الأكثر عرضية كدليل. وفي مجموعة الأمثال التي أصدرها بعد الحرب في كتاب بعنوان "الحد الأدنى من الأخلاق: تأملات من حياة تالفة"، تحدث عن متنمّري ساحة المدرسة من أيام طفولته، قائلاً: ”اعتدى خمسة وطنيين على شخص واحد وأشبعوه ضرباً، وحين شكا للأستاذ شوهوا سمعته كخائن للصف. أليسوا مثل الذين عذّبوا السجناء كي يدحضوا مزاعم من الأجانب بأن السجناء عُذِّبوا؟”

قد يبدو هذا الاقتراح قسرياً، لكن فقط إذا تمسّك المرء بوهم أن النازية كانت كلها سياسة عالية لا جذور لها في السلوك اليومي وحسب.  وبعد أن شهد صعود النازية لم يكن لدى أدورنو أوهاماً كهذه، وشعر قبل استيلاء النازيين على السلطة بـ "خوف لاواع" من أن المستقبل سيجلب الكارثة.  وجاءت الكارثة. ومع وجود النازيين في السلطة، أجبرت القوانين الجديدة للرايخ الثالث أدورنو على مغادرة بلاده والذهاب إلى المنفى. حاول في البداية أن يعمل في أكسفورد، ثم تخلى عن هذه المحاولة والتحق بهوركهايمر وزملاء آخرين من المعهد في الولايات المتحدة. وتمكن والداه من البقاء على قيد الحياة بشق النفس. بقيا في ألمانيا بعد أن سافر ولدهما وأقام في نيويورك، واعتُقلا أثناء موجة الاضطهاد التي تلت "ليلة الزجاج المكسور"(12)، البرنامج الذي رعتْه الدولة ضد الأعمال والمنازل اليهودية. واعتُدي على والده بالضرب وأُصيب إصابة خطيرة في عينه، ونُهبت مكاتب شركة العائلة وصودرت، وصار بوسع الدولة أن تضع يدها على الأملاك اليهودية بسهولة. وفي النهاية أُفرج عن والديه، بالرغم من أن التجربة أثرت بهما كثيراً. وهربا عن طريق كوبا إلى الولايات المتحدة، لكن شبح الفاشية واصل ملاحقة العائلة كلها. وأثرت هذه التجارب على أدورنو ووَلّدَتْ فيه إحساساً عميقاً جداً بأن الفاشية ليس شكلاً سياسياً وحسب بل أيضاً نوع من السقوط العنيف في أنماط عتيقة الطراز من السلوك الجمعي يستحيل فهمها إلا بالأدوات المنهجية للأنثروبولوجيا والتحليل النفسي. ودفعتْه مقالة فرويد ”علم النفس الجماعي وتحليل الأنا"، إلى الاعتقاد بأن المجموعات البشرية تُبدي مقاومة غريزية للتغير وتتوق إلى السلطة. وبيّن فرويد أن الجماعة "ترغبُ بأن تُحْكم وتُضْطَهد"، وتتطلع إلى أبطالها ليس من أجل التنوير بل من أجل "القوة، وحتى العنف". وأخذ أدورنو من التحليل النفسي أيضاً الدرس الجوهري القائل بأن الشحنة النفسية أو الطاقة النفسية المركزة cathexis التي تصل بين الجماعة وقائدها هي لبيدية (شهوانية)، بصورة رئيسية وليست عقلانية، وأن أية محاولة لشرح السياسة الجماهيرية من منظور مؤسساتي، أو كتعبير عن مصلحة شخصية عقلانية وحسب، ستُغفل العوامل الكامنة التي تجعل الاستبداد إغواء مستمراً.

يتكرر موضوع تحليل الفاشية كتهديد متواصل داخل الديمقراطية الليبرالية في أعمال أدورنو.  ويتجلى هذا في كتابيْ "الشخصية التسلطية" و"تجربة المجموعة"، وفي المحاضرات العامة التي ألقاها بعد عودته إلى ألمانيا. فقد عبّر عن استيائه الشديد من ظهور المنظمات الفاشية الجديدة مثل الحزب الديمقراطي الوطني، ورأى فيه علامة على أن روح الفاشية القديمة لم تُهْزم أبداً هزيمة ساحقة. وأقلقتهُ بالقدر نفسه حقيقة أن الجماهير لم تُبْدِ اهتماماً كبيراً بإلزام نفسها بالعملية الصعبة "للعمل من خلال الماضي". وفي محاضراته) إن لم يكن في فلسفته المنشورة) عالج قضايا كهذه بوضوح ومن منطلق أخلاقي ملح. وتشكل محاضرة 1967 حول تطرف اليمين الجديد مجرد عينة واحدة متواضعة موجزة من أعماله لكنها تلخص بدقة وجهة نظره العامة القائلة بأن الفاشية لم تُهْزَم أبداً في الحقيقة بل تكمن في المظاهر اليومية لكل من البنية الاجتماعية والسلوك الشخصي، ويجب أن تتجدد الحرب ضدها دوماً. وحذّر أدورنو في تلك المحاضرة من تبني وجهة نظر "تأملية" حيال الأحداث الأخيرة وحسب، كما لو أن السياسة سلسلة من الظواهر الطبيعية، "مثل الزوابع أو الكوارث الجوية". وأضاف أن تبني موقف كهذا هو علامة استقالة، كما لو أن المرء يقوم بقتل نفسه كذات سياسية.  قال: "إن مسؤولية كيفية مواصلة هذه الأمور واستمراريتها تقع على عاتقنا في النهاية". وفي ربيع 1967، استطاعت قلة من اليسار الشعور بالتفاؤل حيال احتمالات الديمقراطية الحقيقية في ألمانيا الغربية، التي منذ تأسيسها في 1949، بقيت تحت هيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وكونراد أديناور، المحافظ القوي الذي كان في الثالثة والسبعين من عمره حين صار مستشار الأمة. وقد خَلَفهُ سياسي آخر من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي يُدْعى لودفيغ إيرهارد، حلّ محلّه في 1966 زميله كورت جورج كيسنجر، الذي شكل حكومة ائتلافية مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي نُظم من جديد. وكان يمكن أن يبدو هذا الانبعاث الجديد للحزب الديمقراطي الاجتماعي بصيص ضوءٍ، لكن ألمانيا الغربية عانت في 1966 و1967 من نكستها الرئيسية الأولى حين وجه الركود ضربة  ل"معجزتها الاقتصادية" الشهيرة، وارتفع عدد العاطلين عن العمل إلى نصف مليون شخص في أوائل 1967، وبدأ الحزب الديمقراطي الوطني الذي كان مرة هامشياً بالنمو، وحلقت عضويته بحلول 1968. ولم يكن الحزب الوطني الديمقراطي أول حزب يميني متطرف ظهر في ألمانيا الغربية. فقد كان هناك حزب الرايخ الاشتراكي، وهوحزب ضم مجموعة من النازيين الجدد تم الاعتراف به وتأسس بعد الحرب لكنه حُظر في 1952، وحزب الرايخ الألماني والمجموعات المرتبطة به التي ظهرت في أعقابه، بيد أن حزب الرايخ حُل في منتصف الستينيات. واستمد الحزب الوطني الديمقراطي الكثير من قادته وأعضائه من المجموعات الأقدم وشكل تهديداً أكبر. واستولى أدولف فون ثادن، النبيل البارز الذي كان نازياً ناشطاً أثناء الحرب، على مقاليد القوة في الحزب، وبالرغم من أنه لم يكن في البداية رئيسه الفخري إلا أنه تمكن بعد صراعات داخلية من السيطرة عليه في 1967. وفي الاجتماعات المحلية، وفي غفلة عن الإعلام الوطني، انتقد الحزب الوطني الديمقراطي بحدة "اليهودية العالمية والصحافة اليهودية"، مصراً على أن الرايخ الثالث لم يرتكب أية جرائم ضد الإنسانية. وصرّح أن النازية دعمتْها "أفضل العناصر الألمانية“، وأن مهمة الحزب الوطني الديمقراطي الآن هي تحرير الشعب من الذل الوطني ووضع ألمانيا على طريق العظمة مرة ثانية. وفي 1966 تمكن الحزب من الفوز بمقاعد في البرلمانات الإقليمية في هيسن وبافاريا وبدا في وضع كأنه سيفوز فيه بمقاعد في برلمانات أخرى في أنحاء ألمانيا الغربية. وأظهر الحزب الوطني الديمقراطي، بالنسبة لأدورنو، بعض التوجهات التي درسها في أعماله الأولى حول الفاشية والتسلط، وانتبه إلى ظهوره في سياق عالمي، حيث كانت مميزات الهوية الوطنية تفقد أهميتها السياسية. إن أحزاباً (كالحزب الوطني الديمقراطي) تحرّكها نزعةٌ وطنية "مرضية" في عصر تكتل القوى العظمى، "ستُظهر شخصيتها الشيطانية المدمرة الحقيقية حين يجردها الموقف الموضوعي من الجوهر". والمفارقة هنا هو أن هذا العنصر من اللاواقعية قد يكون السمة الأبرز للفاشية: تفريغ السياسة من محتواها واختزالها إلى مجرد نشر للدعاية. وتتشابه الفاشية القديمة والجديدة في استخدامهما البارع للدعاية دون هدف رفيع، كما لو أن الهدف الوحيد هو اكتمال علم نفس الجماهير من أجل نفسه فقط.  قال أدورنو: "لم يكن هناك أبداً نظرية حقيقية مطورة بشكل كامل في الفاشية"، بدلاً من ذلك جردت الفاشيةُ السياسةَ من أي إحساس رفيع، واختزلتْها إلى مجرد قوة و"هيمنة غير مشروطة". وتساعدُ اعتباراتٌ كهذه في تفسير لماذا تُبْدي الحركات الفاشية مرونةً كهذه في الإيديولوجيا، أو ما دعاه أدورنو "الممارسة المُفْرَغةَ من المفاهيم". ففي مجتمع ممتثل أضعفَ قدرته على المقاومة لم تكن الفاشية البازغة شكلاً سياسياً قابلاً للتمييز بقدر ما كانت مُفاقَمةً لما قد بدأ المجتمع بالتحول إليه، أي إلى مجتمع بارد وقمعي ويخلو من الفكر. ولم تكن الفاشية بالنسبة لأدورنو بالتالي زائدةً يمكن استئصالها بسهولة من كائن حي يتمتع بصحة جيدة، وكان واعياً أيضاً لحقيقة أن بعض الأفراد يمكن أن ينجذبوا إلى التطرف اليميني لأسباب سيكولوجية. فقد أقر أن جميع المجتمعات فيها رواسب من "النزعات غير القابلة للإصلاح" لكن الحركة الجماهيرية لا تُصْنَع من هذه الأشياء وحدها وحسب، بل تتألف أيضاً من رجال ونساء عاديين يتسمون باللاعقلانية كالعالم الذي يسكنون فيه. وإذا كانت سياستهم غير عقلانية، فإن السبب هو أنها تعبّر عن اللاعقلانية في النظام الاجتماعي ككل.

سيصر أنصار الليبرالية الوسطية أن الفاشية ستُمْحى وستستمر الديمقراطية كما من قبل. لكن الديمقراطية بالنسبة لأدورنو ليست حقيقة كاملة أضرت بها الفاشية بل مثالٌ لم يتحقق بعد، وطالما أنها تخون وعدها فإن هذا سيواصل توليد حركات الاستياء والتمرد الشكاكة. وواصلَ بعضُ نقّادِ أدورنو (وحتى بعض المعجبين به) التفكير به كمتشائم راديكالي استخفَّ بمُثُل التنوير وشعر بأن التقدم أسطورة. لكن أدورنو كان أكثر ديالكتيكية في تفكيره، وأراد التغلب على الإيديولوجيا المزيفة للتقدم كي يسلط الضوء على حقيقتها. وبصرف النظر عن كم ابتعد عن الأرثوذكسيات التفسيرية للماركسية الجديدة فقد اعترف أن الديمقراطية بقيت صورية في تعبيرها الحديث وليست ملموسة. وشدد أن الأنظمة التي تتباهى الآن بنفسها كديمقراطية لن تكون ملائمة أبداً لمثالها المعلن طالما أنها تستند إلى اللاعقلانية والإقصاء. وتُلخّص بعض سطور أدورنو على نحو أفضل مفهومه في الحركات الفاشية أكثر من زعمه في 1967 بأنها كانت "الجراح والندوب في ديمقراطية لم تجسّد حتى الآن مفهومها".

لا يستطيع قراء محاضرة أدورنو اليوم مقاومة الاعتراف أن في تحذيراته انعكاساً للوضع العالمي الحالي.  ففي ألمانيا نشهد انبعاثاً فاشياً جديداً تأصل مرة مع حزب "البديل من أجل ألمانيا" وهو حزب يميني متطرف معاد للمهاجرين ربح 94 مقعداً في  2017 في مجلس الشعب الألماني كي يصبح ثالث أكبر حزب في المجلس. وفي أنحاء أوربا وبقية العالم يتصاعد الآن هذا التوجه في السياسة الفاشية الجديدة أو التسلطية (في تركيا وإسرائيل والهند والبرازيل وروسيا وهنغاريا وبولندة والولايات المتحدة). ولن تتحكم بنا الفكرة المبالغ فيها بأن الماضي هو ماض بشكل كامل (أي أن غيريته تمنعنا من رسم أية تناظرات عبر اختلافات الزمان والمكان) لن تتحكم بنا إلا إذا رأينا التاريخ محطماً إلى جزر، وكل جزيرة تطيع قوانين هي خاصة بها بشكل كامل. وبالرغم من أن أدورنو حذر من "التناظرات البيانية"، كان يعرف أيضاً أن فكرة الماضي كشيء مضى خطأ. وكما أظهر مؤرخو العنصرية الأميركية منذ وقت طويل، هناك من الاستمراريات بين الماضي والحاضر أكثر مما يحرص التبريريون على الإقرار به، (ويجب ألا ننسى أيضاً أن النازيين استمدوا تعاليمهم من السياسات العنصرية في الولايات المتحدة). وتلقي الفاشية أيضاً ظلاً طويلاً ولا يمكن أن تُحْصَر بالماضي، خاصة حين ترفع رأسها مرة ثانية.

بعد وفاة أدورنو في 1969، اشتكى المؤرخون المحافظون في ألمانيا من أن اليسار لا يتوقف عن تذكير المعاصرين بجرائم الأمة. وكما عبّر المؤرخ إرنست نولته(13)، كانت النازية "الماضي الذي لن يمضي". وشارك الفيلسوف يورغن هابرماس(14)، الذي كان طالباً لدى أدورنو، في جدل المؤرخين هذا، وقال إن الاستمرارية والمقارنة يجب أن تخدما كأدوات للنقد، وليس كتبرير. أكيد أنه لا شيء يحدث أبداً بدقة كما حدث من قبل، والتشابه لا يقصي الاختلاف. لكن أية تشابهات يجب أن تنبهنا إلى حقيقة أنه تحت العلامات السطحية للتحول التاريخي، لم تتغير الأمور بقدر ما يجب أن تتغير. إن ظلال الماضي تتمدد إلى الحاضر، وكالتماثيل في الحدائق العامة، تحوم بشكل معتم فوق الوعي العام. لقد تعلّم المواطنون في ألمانيا (أو معظمهم بأية حال) في نهاية المطاف أن تذكارات الفاشية وصروحها يمكن أن تخدم غايات نقدية وليس تبريرية، يمكن أن تخدم كأشياء تُذكّرُ أنه يجب ألا يُسْمح لها أبداً بالعودة.  وفيما يشق حزب البديل من أجل ألمانيا طريقه إلى مركز السياسة البرلمانية، يكتسب هذا الدرس أهمية جديدة ملحة. ولا يختلف الأمر في الولايات المتحدة، حيث يبدو أن كثيراً من تماثيل الماضي تؤكد عنصرية أزمنتنا بدلاً من أن تنتقدها. إن الماضي في الحقيقة لا يمضي. 

[نشرت المقالة في مجلة The Nation وترجمها أسامة إسبر] 

*بيتر إي. جوردون، أستاذ الفلسفة والنظرية الاجتماعية في جامعة هارفارد، وصدر له مؤخراً "مهاجرون في المدنّس: النظرية النقدية ومسألة العلمنة".

 هوامش المترجم 

1."فندق الهاوية الكبير"، عبارة استخدمها المفكر الماركسي جورج لوكاش في 1962 كي يعبر عن خيبة أمله من منظّري مدرسة فرانكفورت، الذين (كما قال) أقاموا في هذا الفندق الجميل والمجهز بكل وسائل الراحة على حافة هاوية العدم والعبث، حيث يقومون بتأمل الهاوية بين الوجبات الرائعة أو الوصلات الفنية.

2.نسبة إلى إدموند هوسرل (1859-1938) وهو فيلسوف ألماني أسس ما يدعى بالمدرسة الظاهراتية واعتبر من أكثر الفلاسفة تأثيراً في القرن العشرين.

3.ماكس هوركهايمر (1895-1973)، فيلسوف وعالم اجتماع ألماني اشتهر بأبحاثه في النظرية النقدية وكان عضواً في مدرسة فرانكفورت للبحث الاجتماعي.

4.حركة فلسفية تعنى بالنظرية الاجتماعية والفلسفة النقدية نشأت بمدينة فرانكفورت سنة 1923، بدأت في معهد الأبحاث الاجتماعية في المدينة وجمعت فلاسفة ومفكرين ونقاد منهم ماركس كوركهايمر ووالتر بنجامين وهربرت ماركوز ويوركن هابرماس. ثم انتقل نشاطها إلى جنيف في 1933 بعد وصول هتلر إلى الحكم وبعد ذلك إلى أميركا ثم عادت إلى ألمانيا في بداية الخمسينيات.

5.والتر بنجامين (1892-1940) فيلسوف ألماني وناقد اجتماعي وكاتب مقال من أصل يهودي.

6.جيرشوم تشوليم (1897-1982) فيلسوف إسرائيلي ولد في ألمانيا. يعتبر مؤسس الدراسة الأكاديمية الحديثة للقابالاه.  وكان أول أستاذ في التصوف اليهودي في جامعة القدس.

7.السوسيولوجيا هي علم الاجتماع، دراسة المجتمعات الإنسانية والمجموعات البشرية والظواهر الاجتماعية.

8.Micrologicl Criticism وهو النقد الذي يعنى بالتفاصيل والأشياء الصغيرة والتافهة في الحياة اليومية.

9.فرانز ليوبولد نيومان (1900-1954) ناشط سياسي ومنظر ماركسي ومحامي عمالي ألماني، صار عالم سياسة في المنفى واشتهر بتحليله لما يدعى بالاشتراكية الوطنية.

10.أوتو كيرشهايمر (1905-1965) محامي ألماني من أصل يهودي وعالمي سياسة وعضو في مدرسة فرانكفورت، وركز في دراساته على الدولة ودستورها.

11.ابتكر أدورنو مقياس إف (F-Scale) في 1947، ونشد من خلاله طريقة موحدة المعايير لتحديد الميول الاستبدادية لدى الشخص، من أجل فهم أفضل لكيف تهيمن هذه الأفكار ولماذا. المقياس مرتبط باختبار يقيس عدد الخصائص الشخصية التي وجد أدورنو أنها تتنبأ بوجهات نظر فاشية.

12.دعيت ليلة البلور وليلة الكريستال وليلة الزجاج المكسور. كلمة  Kristallnacht  مصطلح يستعمل للإشارة إلى عمليات تخريبية نظمها ونفذها النازيون ضد مصالح وبيوت يهودية في ألمانيا بين التاسع والعاشر من تشرين الثاني 1938، حيث قامت قوات من الشرطة وقوى الأمن الألمانية بتحريض النازيين على القيام بأعمال ضد اليهود أينما تواجدوا في المانيا، فقام الالمان بالهجوم على الكنس اليهودية والمتاجر والمحلات التابعة لليهود ودمروها وأحرقوها في الليلة المذكورة، وأُطلق على هذه الليلة هذا الاسم لكثرة الزجاج الذي تكسر فيها.

13. إرنست نولته  (1923-2016) مؤرخ وفيلسوف ألماني كان ميدانه الدراسات المقارنة للفاشية والشيوعية. كان أستاذ التاريخ الحديث في جامعة برلين الحرة حتى ١٩٩١.

14. يورغن هابرماس (1929-1955) فيلسوف وعالم اجتماع ألماني في حقل النظرية النقدية والبراغماتية. يتناول في أعماله العقلانية التواصلية والمجال العام.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬