شرعت بتوضيب ذاكرتك. أقفلت الصناديق السوداء وفتحت الباب المؤدي إلى شرفتك. أطلّ جسدك إلى الخارج. مارست عملية التنفس بكل ما أوتيت من قوة: شهيق انتفخ له صدرك، وزفير كأنه آخر زفير في حياتك. بدا لك أنك أخرجت جزء من رئتيك معه. اتكأت بذراعيك إلى الدرابزين. تراءت لك أشجار الزيتون والبلوط والكافور والتين وشومًا في جسد العالم. أطبقتَ جفنيكَ فاتحاً ذراعيك وتنفست مرة أخرى. لم تكن الرؤية سوداء إغماضك لعينيك، بل تراءى لك نور يقتعد عرش الظلام الحالك. فتحت عينيك بوجل وابتسامة تفرض نفسها على وجهك. عيناك النرجسيتان تلتمعان كما لم يسبق، حتى خيل لك أن الرب عطف على البشر وأهدى إليهم بعض الجنة على الأرض. ثم وقعت قطرة مطر على وجهك لتوقظك من الحلم الوردي. تشفق على نفسك وعلى ذاكرتك التي تستدعي مشاهد لمدينتك، -كانت مدينتك- لطالما أخبرتك بأنها كانت، وفي آخر ليلة من السنة السابقة، حين شربت ما يكفي من الكحول وانتصرنا على ذاكرتك واتفقتَ معي، ماذا حدث الآن؟
تشفق على نفسك كلما حاولت زيارة المدينة لتزيح ستارة الوهم عن ذاكرتك فتبدأ مسرحية الواقع الهزلية. تململتَ في فراشك، تقلّبت يميناً ويسارًا تحيّنتَ أوان رفق مورفيوس (إله الأحلام في الميثولوجيا الإغريقة) لحالتك، عبثاً.
تفكر "قبل ساعتين، ضحكت ما أمكنني حتى سعلت. كم قادني الجنون إلى التفكير أن العالم ما هو إلا اللحظة الراهنة" تتساءل باحثاً في أعماق روحك المعطوبة وعقلك: إذا صح أن حياة المرء ليست سوى اللحظة الراهنة، إذاً كيف تسعل وتلهث حياتي في لحظة ماضية تحاول اللحاق بالحاضر، وكيف أعيش الماضي في الحاضر على أمل أن اعيشه في المستقبل؟
تقرر في الصباح أن تزور مدينتك، وتدعي محاولًا إقناعي (هذه آخر مرة، أعرفها جميلة، أتذكرها، ثم سأفعل ما تشاء). يرفض أبوك فكرتك، فالمدينة ليست آمنة. ما تزال الكثير من منازلها مفخخة وكل يوم يقرأ في تطبيق (فيسبوك) عن انفجار في المدينة. تلتجئ إلى حيلتك القديمة وتتهمه أنه لا يحب صرف أمواله عليك، فيقتنع، ويسمح لك بالذهاب، بشرط أن تزور قريتك وتنام في بيت خالتك وألا تخرج وحدك، فتقبل.
تستقل سيارة وتسافر نحو المسرحية الهزلية لتزيح ستارتها. يبدأ السائق بسرد قصة حياته، لك وللركاب، فتهز رأسك بين الحين والآخر، رغم أنك لا تسمعه، ولا تدري ماذا قال. بعد تردد، تفتح حقيبتك، تخرج علبة سجائرك والهيدفون، تسمع أم كلثوم مطبقاً جفنيك على عينين حمراوين ناعستين. تسمع بلا وعي صوتها وهو يصدح في رأسك (إزاي، إزاي أوصفلك يا حبيبي إزاي، قبل ما احبك كنت إزاي، كنت ولا امبارح فاكراه، ولا عندي بكرة استناه، ولا حتى يومي عايشاه يا حبيبي).
في الطريق، فتحت عينيك إثر أصطدام السيارة بكلب كان يعبر الشارع في نفس لحظة عبور السيارة بسرعة 100 كم/س. توقفت السيارة، في أثناء انشغال السائق والركاب بتفحص دعاميّة السيارة الأمامية، خطوت نحو الكلب. كانت القذارة تغطي أقدامه.رأسه مهشمة والدماغ منثور على الطريق والطين. أهتز جسده مرة أخيرة والدم يتقطر من عنقه، ومات.
فكرت دون أن تفكر وقلت دون أن تقول:كم أن الحياة رخيصة، لو أنني وقفت أمامها قبل أن توهب لي لما اشتريتها بأبخس ثمن، ولما رضيت بها بالمجان! لم تترحم على الحيوان ولا سألت له الجنة، لأنك تعرف أن الجنة محجوزة. عدت إلى السيارة مورثا سيجارة. ارتشفت بعض الماء. وواصلت السيارة تلتهم الطريق. حاولت طرد صورة الكلب من رأسك عبثاً.لو تأخرت السيارة للحظة، أو تأخر الكلب للحظة. لو لم يمر من هناك، لو لم تمروا من هناك، لو لم تعاند أبوك للمجيء. لكنك كنت ستعيش في وهمك. عليك أن تفهم، أنك ضيف في حياتك. لا منزل لك ولا أهل. أنت ضيف غير مرغوب به. لا تنتمي إلى هناك، ولا إلى هنا. تنتمي إلى اللامكان.
شاهدت في الطريق، كل مئتي متر، نقطة عسكرية على جانبي الطريق. رغم أن المنازل والقرى التي مررتم بها كلها مهدمة وغير صالحة للعيش، تساءلت وأسئلتك لا تنتهي: "ماذا تحمي هذه النقاط العسكرية؟ هل تحافظ على الخراب من خرابٍ أعظم؟ ثم ماذا لو أنهم بنوا مدارس ومكاتب وحدائق بدلًا عن هذه النقاط؟ لو رأى الأطفال أقلامًا ملونة بدلا عن الأسلحة؟ ولو لعبوا بدلا عن العمل؟" ثم تضحك على سذاجتك.
يطلب منك السائق أن ترمي السيجارة، لأن التدخين يقتل. تفكر أن تدخل جدالا معه عمّا يقتل، ثم تنسحب راميًا السيجارة بعد أن سحبت منها بكل قوتك نفسًا وأطلقته خلف رأس السائق حتى سعل. وتفكر داخل رأسك:مَن هو القاتل؟ ما الّذي يقتل؟ ما الفرق بين القتيل والقاتل؟ بماذا يشعر القاتل لحظة القتل؟ أين تذهب حياة القتيل، ماضيه، ذاكرته؟ لا تجد جواباً. تؤجل التفكير.
يسألك السائق بضجر عن وجهتك، فتقول أي مكان. يتوقف في مفرق خانصور- سنون. تطلب منه أن يتقدم قليلًا، فيفعل. تترجل من السيارة في خانصور. ترمي على المقعد عشرة آلاف، وتغلق الباب بقوة. بإمكانك تخيل نظرة السائق خلف زجاج النافذة والشرر المتطاير من عينيه. ويمكنك أن تخمن شتائمه رغم أنك مشيت وظهرك له، لكنك تبتسم لأنك أزعجته. كان عليه أن يفكر قبل تحديد ما يقتل.
تمشي على الرصيف. الغبار يغطيه، ويتصاعد كلما دقت اقدامك. تبطئ من خطواتك. تدخل محلا للوجبات السريعة. تطلب الشيء الوحيد الموجود، (لفة گص)، تلتهمها بينما صاحب المحل يحدق في شعرك المربوط للخلف. تتمنى لو أنك كنت مثل السائق، أو صاحب المحل، تشغل بالك أشياء سطحية وتافهة. تتمنى لو أنك انسان سوي، يولد، يكبر، يصبح موظفا، وينجب أبناء كثار حسب شهوته ويصبح (رجلًا)، ويموت. لكنك لست كذلك ولن تكون. ثم إنك تسخر من هؤلاء. تطلب لفة أخرى وتوصد أبواب التفكير. هناك معدة جائعة تنتظر. تنهض بعد أن تغسل يديك، تسأل عن المبلغ. يخبرك لكنه يتبع كلامه بسؤالك عن السبب الذي دفعك إلى إطالة شعرك، فلا تجيب، مكتفياً بنظرة إلى عينيه. يمد يده ليستلم المال، لكنك ترميه على الطاولة، وتخرج.
تمشي في الشارع،عابرًا الحديقة العامة، إلى منزلك، والذي أختلف معك في تسميته، منزلك. تقطع الشوارع غير المبلطة، تعبر في الشوارع الضيقة. كل البيوت بلا أبواب، انتزعت أبوابها. يمكنك رؤية داخل المنازل، والغرف في صفّيْن متقابلين، والحدائق اليابسة، الحشائش الصفراء غزت باحات المنازل. لا تندهش لرؤية سيارة مفجرة على جانب الطريق. تواصل مسيرك. يصادفك رجل يعمل على بيته، تتذكر جدالك وأبوك حتى وصل إلى ارتفاع الأصوات. تتذكر كيف قال منهياً الحديث عن العودة بحزم (هل أعود لأن حضرتك تشكو من خيمة؟ هل أترك السماء التي تمطر بغزارة لأعود إلى السماء التي تمطر صواريخاً وقنابل؟ هل أترك الخيمة لأعود إلى الخراب؟ماذا ستعمل هناك، جامع ذكريات؟).
تصل إلى الشارع الذي - في صغرك – حلمت بعبوره والخروج إلى الأزقة والأسواق، فقد منعك أبوك، لكيلا تصبح (ابن الشوارع)، قد صار ممنوعاً عليك دخوله، لكيلا تصبح، (جثة في الشارع).
تتسابق الذكريات إلى رأسك. تتذكر (ليلة القدر). كنتم لا تنامون هذه الليلة. الألعاب النارية تملأ أيادي الأطفال، العشاق يجلسون ويتحدثون، النساء. كنت ممنوعاً من مبارحة باب المنزل حيث كان أهلك يجلسون. تغار من الأطفال ومن أهاليهم. تكره خوف أهلك، وما زلت لا تتفق أن خوفهم أنقذك. تقول إن الموت كان مشغولًا بالوليمة التي أُعِدَت له لذلك أجَّلَ موتك. تتذكر جارتك التي تعطيك ربع دينار كل عيد، فتقول لأهلك إنه راتب (عيدي). تتذكر نومكم في سطح المنزل، وجدتك، التي ما تزال تقول لك، في ولادتك كنت ضعيفاً، ذبحت لك أربع عشرة أرنبًا وطحنت الرز لطبخ حساء يقوّيك. تتذكر جدك الذي أعطاك سكاكراً وابتسم لك على المقعد تحت شجرة التين قبل أن يسقط ميتاً بدقيقة واحدة.
تقف أمام بيتك. تتساءل: أين تكمن ذكريات هذا المكان؟ إنه خراب بمجمله. أين ذاكرة الخراب؟ وهل هذا الخراب كان في الماضي بناءً؟ ثم ماذا؟ هل تتذكرني هذه الغرفة؟ قفص الأرانب؟ تعترف أن رأسك مخزن للذكريات، يقف فيه الماضي بوقارٍ يمطي الواقع فارضًا نفسه، كتلالٍ تتعالى على الأرض. لكن التلال من الأرض. الماضي ليس من الواقع. أين تقف أنتَ من هذا الخراب؟ تبكي على طفولتك في الماضي. هل صارت خرابًا كما المكان، أم أنها أسلمت وصارت جسداً للذكريات الهاربة من الحرب؟ أين أنت الصغير؟