أيام بؤس في سوريا

أيام بؤس في سوريا

أيام بؤس في سوريا

By : Arabic Editors

هنري معمارباشي

بات الشعب السوري الذي كان إلى حد الآن يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة وسط أنقاض حرب طويلة، يصارع يوميا الفقر والأزمة الصحية ومصاعب الشتاء، وأصبح أكبر خوف الجميع تضخم الأسعار والطوابير الطويلة لاشتراء الخبز.

شتاء صعب هذا الذي يواجهه الشعب السوري. يشكو التاجر الدمشقي أبو سعيد، وهو يتأمل انهيار كل ما يحيط به: “بالأمس كانت القنابل تتهاطل على رؤوسنا، واليوم لا خبز لدينا، ولا أي تطلع للمستقبل. نحن نعاني من التضخم المفرط ومن الشلل الاقتصادي ومن الفقر الذي يجتاحنا ومن العقوبات الغربية التي لا معنى لها والتي تنصب بالأساس على المواطن العادي... ماذا سيصيبنا أكثر من كل هذا؟”

إنه لمشهد محزن، أن ترى المقربين من النظام يحتفلون ليلا في المطاعم التي تبدو مفتوحة خصيصا لهم، فيما تشهد البلاد لأول مرة في تاريخها طوابير أمام المخابز ومحطات البنزين، وهو ما صدم الكثير من السوريين، فمثل هذه المشاهد يرونها عادة في البلدان الأكثر فقرا في العالم.

وكدليل آخر على إفلاسه، انتهى المطاف بهذا البلد المنتج للقمح إلى التسول لأصدقائه النادرين ولحلفائه ومن بينهم روسيا. وهي أول من يمده بالقمح اليوم، وقد أعلن وزير خارجيتها سيرغي لافروف ليلة السنة الجديدة أنها “منحت [سوريا] 100 ألف طن من القمح”، مضيفا أن هذا الدعم “سيتواصل على الصعيد الإنساني”. لكن هذا الحلبي الذي يعمل في مجال الصناعة والذي يفضل عدم الكشف عن اسمه يتساءل: “من يقبل فعلا بالاستثمار في هذا البلد؟ ماذا سيجني من بلد مفلس؟”

في التسعينيات، كان قرابة 20% من السكان يعملون في مجال الزراعة وكانت سوريا آنذاك قد حققت الاكتفاء الذاتي. لكن اقتصاد هذا البلد الذي هو جزء مما يسمى بمنطقة الهلال الخصيب رهين التقلبات المناخية، لاسيما الجفاف الذي كان من أسباب اندلاع النزاع في 2011.

لا يمكن لسوريا اليوم أن تعتمد على نفسها في أي مجال. فمنذ الحرب، تحول هذا البلد إلى مجال صيد مفتوح للمصالح الروسية والإيرانية، وهما حليفاها الأساسيان واللذان أحكما قبضتهما على جزء كبير من ثرواتها (الموانئ ومناجم الفسفاط إلخ). فضلا عن كونها أرض قصف لإسرائيل التي تلاحق في سوريا ميليشيات حزب الله اللبناني الموالية لإيران. ولا ننسى تركيا التي تسيطر على جزء من أراضي الشمال حيث الأكراد، والتي نجهل أهدافها.

“إنه أسوأ وضع منذ بداية الانتفاضة”

كالعادة، أطلقت منظمة الأمم المتحدة صرخة فزع أمام ظروف تسليم المساعدة الإنسانية. وهو ما جاء في حديث الأمين العام المساعد للشؤون الإنسانية مارك لوكوك أمام عناصر مجلس الأمن في ديسمبر/كانون الأول حيث قال: “يواصل الشعب السوري معاناته، وهي معاناة تتفاقم في الفترة الشتوية”.

كما أن البلاد بعيدة كل البعد عن حالة سلام رغم نجاح النظام في استرجاع بعض المناطق والهزيمة “الرسمية” لتنظيم الدولة الإسلامية، كما أكّد على ذلك المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون قائلا: “النزاعات العنيفة والإرهاب لا يزالان أمرا واقعا بالنسبة للسوريين. [...] ومن المتوقع أن يتفاقم النقص الغذائي وسوء التغذية، وكذلك الحال بالنسبة للعدد الجملي لمن سيحتاجون مساعدة إنسانية”.

وعلى الرغم من نداءاتها اليائسة ومن مشاركتها على أرض الواقع، يبقى مجال تحرك منظمة الأمم المتحدة محدودا بسبب العقوبات المسلطة على النظام السوري من قبل واشنطن -صاحبة الأمر والنهي على الصعيد العالمي- والاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن ذاته. شرح جهاد يازجي، مدير المجلة الاقتصادية الالكترونية The Syria Report خلال مؤتمر نظمته في باريس خلال ديسمبر/كانون الأول المجموعة المناهضة للنظام “سوريا حرية” قائلا: “إنه أسوأ وضع تعرفه البلاد منذ بداية الانتفاضة. إننا نشهد منذ 2019 تفاقما كبيرا للتضخم. وبين يوليو/تموز 2019 ويوليو/تموز 2020، تضاعفت قيمة الاحتياجات الأساسية 250 مرة، بينما تراجع الدعم الحكومي على المنتوجات الأساسية، إذ تضاعف سعر الخبز المدعوم”. وقد ذكر الموقع الالكتروني في 10 نوفمبر/تشرين الثاني تحقيقا للجريدة الأسبوعية السورية “قاسيون” مفاده أن الميزانية الشهرية لعائلة دمشقية ارتفعت بنسبة 74% خلال الأشهر التسعة الأولى لسنة 2019، فيما تضاعفت أسعار المواد الغذائية.

كذلك الحال بالنسبة للمنتوجات النفطية والتي أدى النقص فيها إلى تبعية سورية تجاه إيران بالأساس (وهذا أمر مبهم نظرا لأن البلدين يقعان تحت وطأة العقوبات). وقد ارتفعت أسعارها هي الأخرى بطريقة مذهلة. ولمواجهة هذا الوضع، أعلنت الحكومة السورية في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2020 أنها ستزيد من سعر زيت الوقود الذي يباع للشركات الخاصة، بنسبة 120% دون أن تطبق هذا التدبير على الشركات العمومية ولا على الخواص أو المزارعين أو شركات النقل. شرط العثور على زيت الوقود والتحلي بالصبر.

نقص في الغاز والكهرباء

وفق ما كتب موقع The Syrian Observer بتاريخ 11 يناير/كانون الثاني والذي يقوم بقراءة في الصحافة الموالية والمناهضة للنظام السوري، فإن “نقص الوقود يتواصل [في العاصمة دمشق] ما يسفر عن طوابير من سائقي السيارات تمتد على كيلومترات أمام محطات الوقود الفارغة”. أما الموقع المعارض “صوت العاصمة”، فقد ذكر في 9 يناير/كانون الثاني 2021 أن المصفاة الرئيسية لمدينة بانياس قد توقفت عن العمل، وهي معلومة لم يستطع موقع The Syrian Observer تأكيدها.

كانت سوريا قبل بداية النزاع منتجا صغيرا للغاز والبترول. وتوجد العديد من حقول النفط اليوم في مناطق ليست تحت سيطرة دمشق. كما يحدث أن تشتري الحكومة نفطا من قوات سوريا الديمقراطية، ذلك التحالف الكردي العربي (بغلبة كردية) والذي أسس إقليم روج آفا.

في المناطق التي لا تقع تحت سيطرة النظام، مثل الحدود الشمالية مع تركيا أو المنطقة التي تقع تحت سيطرة القوات الكردية، “تباع أحيانا بعض المنتوجات مقابل ليرات تركية أو دولارات”، وفق يازجي ومراقبين آخرين في عين المكان. وهم إذ يقولون ذلك واعون كل الوعي بصعوبة جمع بيانات موثوقة في المناطق التي لا تزال مفلتة من قبضة النظام، أي 30% من الأراضي السورية والتي تضم الثروات النفطية والزراعية الأساسية.

وكأن كل هذا ليس بكاف، دمرت حرائق متعمدة خلال صيف وخريف 2020 عشرات آلاف الهكتارات من حقول القمح والشعير، ناهيك عن حقول الزيتون في مختلف أنحاء البلاد، مثيرة يأس المزارعين الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر الحصاد الذي وصفه البعض بأنه سيكون “استثنائيا”. وقد حدث نفس الشيء سنة 2019، لا سيما في شمال شرق البلاد. وفي كل مرة، يوجه كل من النظام ومن المعارضة أصابع الاتهام إلى الآخر.

يقول فادي تراكجي عبر الهاتف، وهو أحد سكان حلب: “نحظى بثلاث ساعات من الكهرباء يوميا. وقد أصبح الخبز لا يُأكل (عادة بسبب استعمال قمح صلب) وعلينا أن نمضي ساعات طويلة جنبا إلى جنب مع الآخرين أمام المخابز، على أمل أن يأتي دورنا.” لقد ارتفع سعر كل شيء رغم بطاقات التقنين التي وضعتها الحكومة والتي تختلف هي بدورها باختلاف الأسعار. والحال أن ثاني مدن سوريا كانت قد احتفلت في 2016 عندما “حررتها” القوات النظامية من قبضة الجهاديين وبمساندة من الطيران الروسي، بعد معارك دامية تركت أثرها.

إن الناس يحنون لسنوات الحرب

ويضيف هذا التاجر الصغير: “كان الوضع أفضل عندما كانت القنابل تقصفنا”. ويؤكد نبيل أنطاكي -وهو طبيب في حلب ومسؤول في جمعية “المريمي الأزرق” التي تعنى بالناس الأكثر احتياجا خاصة في مجال الغذاء والتربية ذلك قائلا: “إن الناس يحنون لسنوات الحرب، فقد كانت حياتهم أفضل آنذاك رغم المخاطر الشتى”. ويشكو الطبيب “تعطل الأمور على الصعيد السياسي والعسكري” ويشير في بريد إلكتروني أرسله خلال شهر ديسمبر/كانون الأول إلى أن “الهجرة متواصلة” وأن “المسيحيين يواصلون الرحيل أو يحلمون بتلك الإمكانية”.

ويستطرد: “عندما تركب حافلة بين حلب ودمشق على الطريق التي فُتحت مجددا في مارس/آذار 2020 بعد انقطاع دام سبع سنوات، تمر الحافلة قرب سراقب ومعرة النعمان [غير بعيد من حلب] أمام ثلاث مراكز عسكرية تركية ترفع علم بلدها، وهذا أمر يثير غضبنا”. وُضعت مراكز المراقبة هذه بعد وقف إطلاق النار الذي اتفق عليه كل من الجيش السوري والتركي لوضع حد للمعارك في محافظة إدلب، حيث يجتمع آلاف اللاجئين في ظروف سيئة للغاية وحيث ينتشر وباء كورونا.

وبحسب موقع طبي يقدم إحصائيات حول أسماء ووظيفة كل ضحية، فقد “توفي 171 طبيب بسبب فيروس كورونا، بسبب نقص المعدات اللازمة”. ويتسبب هذا الوضع الصحي في تأخر عودة الحياة الاقتصادية أو محاولات إعادة البناء التي تعيقها العقوبات. أما الجائحة، فهي تصبح “أكثر خطورة” بمرور الوقت “ولا تطال فقط اليافعين بل كذلك الأطفال”، وفق مصادر قريبة من الحكومة ذكرها موقع The Syria Report.

الدولارات التي اختفت في لبنان

علاوة على تداعيات العقوبات الدولية، يلعب نقص العملة الصعبة دورا أساسيا في إفقار البلاد. ولم تُجد التدابير التي اتخذتها الحكومة في ديسمبر/كانون الأول 2020 ضد استعمال العملة الصعبة في المعاملات اليومية والتجارية نفعا في حماية قيمة العملة المحلية.

عادة ما تكون نهاية نزاع مسلح وعدا بانتعاش اقتصادي، بفضل جهود إعادة البناء وتدفق الاستثمارات. لا شيء من ذلك في سوريا. فخزينة الدولة تكاد تكون فارغة والمساعدة الخارجية غير موجودة، ما يتسبب في انهيار قيمة الصرف إلى حد يصعب التنبؤ به اليوم، بسبب الأفق المسدود. كما لم يعد بوسع العاملين السوريين في الخارج إرسال مبالغ مالية إلى أهاليهم في الداخل.

هذا ما يحدث مثلا في لبنان الذي يشهد منذ عام أزمة مالية والذي تسبب انهيار قيمة عملته في تدحرج قيمة الليرة السورية، إذ أصبحت قيمة الدولار 3000 ليرة سورية بينما كانت 49 ليرة في بداية الحرب.

لقد جُمدت مليارات الدولارات التي كانت ملك التجار والخواص في البنوك اللبنانية منذ سنة بسبب انهيار نظام المصارف، ما زاد الطين بلة بالنسبة لوضع السوريين. وقد أعلن بشار الأسد في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2020: “لقد اختفى بين 20 و42 مليار دولار من المستودعات السورية بسبب أزمة نظام المصارف اللبناني، وقد دفعنا ثمن ذلك”. وهو بذلك يحمّل لبنان مسؤولية الوضع المالي الكارثي في بلاده -لا العقوبات الدولية، وهو أمر نادر.

من الصعب التثبت من هذا الرقم لا سيما بسبب السر المصرفي الذي تمارسه لبنان. لكن يبدو أن الأسد نسي -أو تناسى- أن الجارة اللبنانية لعبت لوقت طويلا دور الصمام. فعلى مدى سنوات طويلة، أودع زعماء النظام ورجال الأعمال السوريين وكذلك مجرد مواطنون عاديون أموالهم في لبنان، للاستفادة من الجهاز المصرفي الليبيرالي لأقصى درجة في لبنان ومن الفوائد المرتفعة. وقد لعبت بيروت لسنوات دورا مهما في المعاملات السورية، لا سيما التجارية.

الحرب وترحيل السكان والهجرة والأزمة الاقتصادية والصحية والعقوبات... هكذا تزول الدول. قلبت هذه الظروف النسيج الاجتماعي السوري رأسا على عقب. وقد بات النظام التربوي غير منظم، لا سيما بالنسبة للطلبة الذين يعيشون في مناطق لا تقع تحت سيطرة النظام ولا يستطيعون التنقل بين المناطق لخوض الامتحانات. أما في المناطق التي يكتظ فيها مئات آلاف اللاجئين، فإن أكثر من 500 ألف طفل لا يذهب إلى المدرسة، ويجب على المنظمات غير الحكومية أحيانا وفق بعض الخبراء أن تجوب المخيمات لتقديم الدروس.

تلاحظ المحللة السياسية بسمة قضماني أنه منذ انتهاء الحرب، “نرى نقص اهتمام بسوريا، ما عدا من طرف روسيا وإيران وتركيا. كل الأحداث تدور خارج الأراضي السورية ولا يملك لا النظام ولا المعارضة أن يقول كلمة في الموضوع. أما الاتحاد الأوروبي، فهو لا يوافق سوى على المساعدات الإنسانية” لبلد على شفا حفرة من الانهيار.

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

حراك الريف: النظام يراهن على الحسم الأمني

 أزيد من ثمانية أشهر والشارع المغربي لم يهدأ منذ أن بدأت الاحتجاجات الحاشدة في الريف المغربي كحركة اجتماعية محلية.  لتتحول إلى صرخة وطنية جماعية ومحاكمة شاملة لسياسات الدولة تعري عيوبها وهشاشتها فيما يظهر على أنه أكبر تحد يواجه الحكم في المغرب منذ وصول الملك محمد السادس إلى العرش سنة 1999. وذلك بعد أن فشلت مخرجات تركيبة ما عرف ب "العهد الجديد" في إيجاد حل للأزمة. وظهر أن الوساطة بين رأس السلطة والمتظاهرين لم تعد ممكنة لأن المؤسسات منزوعة المصداقية وتفتقد ثقة الشارع.

وأتى الخطاب الملكي الذي ألقي نهاية الشهر الماضي بمناسبة حلول الذكرى 18 مخيبا للآمال. إذ اكتفى الملك بإلقاء المسؤولية على المسؤولين السياسيين والأحزاب فيما آلت إليه الأوضاع في الريف وحاول تجنيب القصر المسؤولية. وأضفى الشرعية على المنظومة الأمنية التي تدير ملف الاحتجاجات في الريف حين أشاد بعملها واحترامها للقانون نافيا وجود أية مقاربة أمنية في التعامل مع احتجاجات الحسيمة. ولم يطرح خطاب رئيس الدولة أية حلول لتجاوز الأزمة فيما يبدو وكأنه حالة إنكار لحجم المأزق.

في هذا الامتعاض الملكي في حد ذاته إدانة ضمنية لديمقراطية الواجهة التي شكلت عصب ما عرف بالعهد الجديد. وإعلان عن مأزق الملكية التنفيذية التي تبقي سلطات محدودة لرئيس الحكومة فضلا عن هيمنة القصر على عدد من الوزارات الهامة التي تدبر الملفات الاستراتيجية التي لا يعلم بتفاصيلها حتى رئيس الحكومة. كما هو حال مشروع منارة المتوسط في الحسيمة الذي أكد رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران لعدد من مقربيه علمه به على التلفاز فقط وعدم إخباره من طرف وزراء حكومته الذين شاركوا في حفل توقيع المشروع.

محاولة احتواء فقمع 

حرص القصر في بداية الأزمة على محاولة احتواء موجات الغضب على إثر واقعة مقتل تاجر السمك محسن فكري وضمان عدم تحول هذه اللحظة العاطفية القاسية إلى لحظة استحضار الأوجاع القديمة للتاريخ المؤلم للعلاقة بين الإنسان في الريف والدولة المركزية. وهكذا بعث الملك حينذاك وزيريه في الداخلية على عجل لتعزية عائلة محسن فكري ومحاولة طمأنة الجميع إلى أن الملك قد أمر بمحاسبة المتورطين و تعهد بالحرص على عدم تكرار هذه الحوادث. غير أن هذه التطمينات وصدور أحكام مخففة في حق عدد من المسؤولين لم تكن كافية لنزع فتيل الغضب. كان الاحتجاج قد تحول فعلا إلى ما يشبه حالة ثقافية واجتماعية إن لم نقل اعتقادية في المجتمع الريفي. وقد صنع الشارع بشكل تدريجي مع مرور الأيام قيادة لها شرعية وشعبية جارفة استطاعت أن تطور ملفا مطلبيا شاملا يطالب بمصالحة حقيقية مع الريف والاعتذار عن ما مضى وبمشاريع تنموية حقيقية ويتجاوز اعتبار حادث مقتل محسن فكري عرضيا. 

غير أن الدولة تجاهلت هذه المطالب ورفضت الحوار بشكل مباشر مع قيادة الاحتجاجات مراهنة على الوقت لكي ينفض الحراك من تلقاء نفسه بعد شهر أو شهرين. لكن العكس هو ما حصل، حيث تقوت الحركة الاحتجاجية أكثر فأكثر وبدأت تطور خطابا بمضمون سياسي مليء بالتحدي يسائل رئيس الدولة بشكل مباشر ويطلب حوارا معه من دون وسائط على قاعدة المطالب المرسومة. هذه الاحتجاجات التي كانت تتركز تحديدا في الحسيمة بدأت تتمدد إلى بقية مناطق الريف التي تأسست فيها تنسيقيات احتجاجية لديها مطالب جد محلية بالإضافة إلى المطالب العامة، و انتقال الاحتجاج إلى الهوامش يعني صعوبة احتوائه أكثر.

خلال الأشهر التي تلت مقتل محسن فكري كان القصر يدبر ما عرف إعلاميا بـ "البلوكاج الحكومي" وكان منهمكا في عملية تحجيم وجود حزب العدالة والتنمية الإسلامي في التركيبة الحكومية الجديدة وإقصاء زعيمه الجدلي عبد الإله بنكيران من المشهد السياسي. ويبدو أن رهانه في هذه الفترة على انقسام الحراك أو الخلافات بين قياداته واختراقه بالاستراتيجيات المعهودة لم يفض إلى أية نتيجة لأن حراك الريف ليس كلاسيكيا  ويتميز عن بقية الحركات الاجتماعية التي عرفها المغرب في السنوات. فهو خارج عن نسق "الاستباليشمونت النضالي التقليدي"، واستطاع خلق إجماع ليس له مثيل  قاطعا مع الأشكال النخبوية للاحتجاجات السابقة. 

كما أن وسائل الإعلام الخاصة المقربة من السلطة  التي قامت بالتشهير بقادة الحراك تفتقد إلى المصداقية ولها باع طويل في التعريض بالمعارضين وتوجيه الاتهامات لهم دون أي أساس. مما جعل الحملة الإعلامية التي تشن على رموز الحراك الاحتجاجي تفشل وتبدو عاجزة عن الإقناع حتى بالنسبة للمتوجسين من الطابع الهوياتي للحراك الريفي.

ومع الفشل في القضاء على جذوة الاحتجاج بدأت مؤشرات التصعيد الأمني تلوح في الأفق عبر تصريحات متواترة من مسؤولين تابعين لوزارة الداخلية في الحسيمة لوسائل الإعلام. إلى أن قدم وزير الداخلية لفتيت تقريرا لزعماء أحزاب الأغلبية الحكومية يتهم المتظاهرين بخدمة أجندات انفصالية و تلقي أموال من الخارج لزعزعة استقرار البلاد فيما بدا وكأنه محاولة لإيجاد غطاء سياسي لعملية أمنية مرتقبة وكان معدا لها قبل مدة.

كان للمقاربة الأمنية التي اعتمدتها الدولة في تدبير ملف الاحتجاجات الاجتماعي في الريف نتيجة عكسية. فهي من جهة لم تنجح في كبح جماح التظاهرات في مدينة الحسيمة و المدن المجاورة لها كما كان التقدير الأمني يتوقع. بل ارتفع منسوب التظاهرات إلى احتجاجات يومية خلال شهر رمضان الماضي رغم الطوق الأمني الذي ضرب على المدينة وحالة حظر التجول العملي التي تعيشها، وبدا أن المحتجين أصبحوا أكثر إصرارا على الاستمرار على نهج ملهمهم ناصر الزفزافي إلى حين إطلاق سراح جميع المعتقلين وتحقيق ملفهم المطلبي. وأفرز الحراك وجوها جديدة لقيادة الاحتجاج وطور المحتجون أشكال احتجاج جديدة ( القرع على الأواني من أسطح المنازل، التظاهر في الشواطىء). 

استراتيجيات متوازية

لتجنب تقديم تنازلات كبيرة يظهر أن النظام يعتمد على استراتيجية "البحث عن الحل من داخل التصعيد"، ويدبر هذه الأزمة باستراتيجيتين متوازيتين ومتزامنتين تتراوحان بين التصعيد الأمني على الأرض من خلال تعنيف التظاهرات وسجن المحتجين طمعا في إيقاف الاحتجاجات، بالموازاة مع بعث بوادر التهدئة عبر الإعلان عن التسريع بإنجاز المشاريع التنموية. وظهر أن سقف تنازلات النظام لن يتجاوز التحقيق في أسباب تأخر إنجاز المشاريع التنموية في الحسيمة وإقالة بعض المسؤولين الحكوميين أو الإداريين بحسب ما يمكن أن نفهم من آخر اجتماع للملك مع الوزراء قبل العيد، وهو سقف جد منخفض ولا يلبي مطالب الحراك الاحتجاجي الذي بدأ قبل ثمانية أشهر، يبدو إذن أن النظام يلعب حتى الآن الورقتين معا مع تأجيل الحسم في إحداهما خصوصا أن المناخ الدولي ليس ضاغطا كما كان الحال سنة 2011.

أمام فشل المقاربة الأمنية في القضاء على التظاهرات بدأت تظهر بعض المبادرات الفردية والجماعية –من بينها مبادرات مقربة من السلطة- التي تدعو إلى الحوار بين الدولة والمحتجين ( مبادرة إلياس العماري مثلا). فيما كان يبدو وكأنه عملية تمهيد لحل قريب في الأفق، بالتزامن مع تصريحات حكومية متتابعة تؤكد تسريع وتيرة إنجاز المشاريع التنموية المتأخرة في الريف، وتشدد على كون المتابعات تتم وفق القانون مع وجود ضمانات ملكية بالتحقيق في مزاعم التعذيب. وزاد استدعاء عدد من عائلات المعتقلين في الحسيمة ومطالبتهم بتوقيع طلبات للعفو الملكي بالإضافة إلى تمكين المعتقل المرتضى اعمراشا من السراح المؤقت بعد وفاة والده وإعلان عامل الحسيمة الجديد عن وجود تعليمات ملكية بتخفيف التواجد الأمني من الاعتقاد بترجيح احتمال رغبة الدولة في إنهاء الأزمة. 

لكن هذه الإشارات الإيجابية لم تكن إلا ذرا للرماد في العيون، إذ ظل الواقع على الأرض مناقضا لمؤشرات التهدئة التي كان يلقى بها بين الفينة والأخرى. حيث استمرت الاعتقالات و قمع التظاهرات بشكل عنيف.  فبعد يوم واحد فقط بعد أن أعلن الديوان الملكي أن الملك قام بالتعبير عن غضبه من تأخر إنجاز المشاريع الكبرى التي التزمت بها الدولة في الريف وإعلان تشكيل لجان تحقيق في أسباب تعثر هذه المشاريع كان تعامل القوات الأمنية مع تظاهرات يوم العيد في الحسيمة عنيفا بشكل غير مسبوق. وأظهرت لقطات الفيديو التي تداولها ناشطون عمليات ضرب وتنكيل قامت بها القوات العمومية في حق المتظاهرين بالإضافة إلى حملة اعتقالات واسعة. كما أن حركة تنقيلات الولاة الأخيرة لم تحمل تغيير الوالي محمد اليعقوبي الذي يعتبر مطلب إعفائه على رأس المطالب، وهو ما يمكن تفسيره برضا النظام عن تدبيره للملف منذ حادثة مقتل محسن فكري.

تكشف هذه الإشارات المتناقضة التي يبعثها النظام في تدبيره للأزمة في الريف( والتي كان آخرها المنع العنيف الذي تعرضت له الاحتجاجات في الحسيمة يوم 20 يوليوز) انعدام جواب جاهز في الوقت الراهن على الأزمة ومحاولة لكسب الوقت في انتظار تبلور حل بأقل الأضرار مع الرهان على إنهاك المتظاهرين واستنزاف طاقة قادة الحركة الاحتجاجية المسجونين وإجبارهم على تقديم تنازلات. فالدولة تدرك خطورة الأزمة وكلفة استمرارها وتمددها زمنيا لكنها تخشى في نفس الوقت تقديم تنازلات مؤلمة قد تفتح الباب أمام تصاعد المزيد من المطالب مستقبلا في بقية أنحاء البلاد خصوصا أن الحركة التي بدأت محلية تحولت لتصبح وطنية وبمضمون سياسي يستعيد نفس متن شعارات احتجاجات 2011 وهو ما يعلن نهاية صلاحية العرض السياسي الذي قدمه النظام في ذلك الوقت. علاوة على أن عقيدة النظام لا تؤمن بالتجاوب مع جماعات غير ممأسسة وسيكون بمثابة الهزيمة بالنسبة إليها قبول التفاوض المباشر على مطالب حركة احتجاجية تستمد شرعيتها بشكل مباشر من الشعب. 

كما كشف حراك الريف تضاربا في التقديرات بين أجنحة النظام حول كيفية التعامل مع الأزمة الأكبر في البلاد منذ عقود لكن هذه التناقضات ثانوية ومتحكم فيها وتعكس في الغالب طموحات شخصية  لرجالات النظام وتنافسا حول الحظوة بثقة الملك. حيث يظهر وكأن صراعات مواقع في مربع السلطة يجري حسمها بين عدد من شخصيات النظام المحيطة بالقصر و يبدو وكأن الجناح الأمني (الاستخبارات الداخلية، الأمن الوطني) ينحو أكثر نحو التصعيد وهو متمسك بخيار الحسم الأمني باستنزاف المحتجين من خلال استمرار تشديد القيد الأمني على المدينة و الاستمرار في الاعتقالات و المتابعات. ذلك أن حسم الأزمة أمنيا وإنهاء الاحتجاجات سيقوي من موقع المؤسسة الأمنية في هرم السلطة و يعزز ثقة القصر بقيادتها، وهو ما تعكسه ردة فعل إدارة الأمن الوطني المنفعلة بعد تسريب تقرير خبرة طبية للمجلس الوطني لحقوق الإنسان –وهو مؤسسة رسمية يديرها ادريس اليزمي وهو مقرب من القصر- يقر فيها بتعرض المعتقلين للتعذيب الجسدي والنفسي، والتدخل الأمني العنيف في وقفة تضامنية نظمت بالرباط  مؤخرا أصيب خلالها عدد من الصحفيين والحقوقيين، بالإضافة إلى تسريب فيديو يظهر ناصر الزفزافي قائد الحراك في وضعية مهينة من طرف إخدى المواقع المعروفة بارتباطها بالأجهزة الأمنية.

و حاول رئيس الدولة تفنيد وجود مثل هذه الصراعات في محيطه حينما نفى بشكل صريح وجود جناحين متشدد ومعتدل داخل النظام لهما رؤيتان متضاربتان لكيفية تدبير الأزمة في الريف. أو من خلال الاجتماع الذي ترأسه وزير الداخلية وحضره جميع المسؤولين الأمنيين والعسكريين والاستخباراتيين البارزين في محاولة لإثبات وحدة أجنحة النظام في مواجهة هذه الأزمة. 

وعلى خلاف ما كان منتظرا لم يشمل العفو على معتقلي حراك الريف إلا حوالي 40 معتقلا استثنى قادة الاحتجاجات الذين رفضوا توقيع طلبات استعطاف إلى الملك للاستفادة من العفو، بالموازاة مع ذلك حسم الملك الموقف بشكل واضح لصالح سيطرة الذراع الأمني على إدارة الأزمة داخل النظام وفي تكليف وزارة الداخلية والأمنيين بتنزيل مضامين توجيهات الخطاب الملكي دليل على رهان الملكية شبه المطلق على الأمنيين لتجاوز التوترات الاجتماعية الحاصلة في الريف أو تلك التي قد تحصل مستقبلا في مناطق أخرى من المغرب.