تستقبل مصر الذكرى العاشرة لثورة 25 يناير عام 2011 تحت حكمٍ شديد السلطويّة أحيا نفسه وقتل أحلام الكثير بالاحتفال بتلك الذكرى العظيمة وذلك بانقلابٍ عسكريٍّ في يوليو عام 2013. كالعادة أي كالذي يحدث كل عامٍ، كانت دعوات عشوائية للنزول والاحتجاج يقودها بعض الصحافيين والإعلاميين المقيمين في تركيا والعاملين في القنوات التابعة لجماعة الإخوان برفقة واستضافة المقاول المصري محمد علي. دعوات في واقعها باتت لا تثمر ولا تغني، بل على العكس تحدُث إثر ضجّتها حملات اعتقال واختفاء بحق الكثير من الناشطين والصحافيين والباحثين والمعتقلين السابقين، فتجد الخاسرين مرّةً أُخرى هم مَن خسروا سابقا باعتقالهم واختفائهم لشهور وسنواتٍ أُخرى.
في ذلك الظرف، ضمنيا لا أحد يستطيع أن يُحمّل هؤلاء نتيجة وازدياد تلك الضربات الأمنية. لكن يجب أيضا البحث والتساؤل عمّا وراء تلك الدعوات، عمّا وراء 7 سنوات من المعارضة ذاتها، وما هي فائدتها بالأساس؟ في هذه المقالة أحاول البحث على أسئلة تدور في أذهان الكثيرين عن كيف ولماذا تفككت وضعفت المعارضة المصرية بالخارج؟ لتصبح أطرافا كلٌ يعمل في واديه بين الوظيفة الإعلامية والدراسة الأكاديمية والتوثيق الحقوقي؟ وما الانتقادات التي يجب أن نوجّهها لتلك الأطراف مِن منظور الثقافة والفعل والدور الثوريّ لهم؟ وكيف نقرأ ظاهرة المقاول محمّد عليّ الاحتجاجيّة بعد أن حققت نجاحا قبل أن تفشل ربما للأبد؟ وهل من انفراجة سياسية قريبة أم أن استقرارية القمع باتت جزء رئيسيا من استمراريّة النظام الحالي؟
قراءة في عشوائية الإخوان
تجلّت ملامح فشل قيادات جماعة الإخوان مبكرا، بعد الانقلاب العسكري مباشرةً، حينَ وصلت شخصيات قيادية إلى تركيا وتم إنشاء قنوات إعلامية وإقامة تحالفات سياسيّة. كَتحالف دعمالشرعية، والذي ضمّ كيانات إسلامية أُخرى أبرزها تمثّل في الجماعة الإسلامية وذراعها السياسي حزب البناء والتنمية، والجبهة السلفية، وحزب الوسط الأقل إسلامويّة من الناحية الأيديولوجية. ولكن سرعان ما انشقّ الثلاثة وتركوا جماعة الإخوان وحدها. بيانات الانشقاقات عبّرت عن مدى ضيق الأفق السياسي لجماعة الإخوان، واستفرادها بقيادة التحالف دون الاستماع لآرائهم. استمرّ هذا التحالف في إدارة الحراك الشارعيّ حتى أحكم الأمن المصري قبضته على الميادين بحلول عام 2017، بالإضافة إلى بياناته الهشّة على وسائل التواصل الاجتماعي والتي انتهت عند موت الرئيس مرسي في سجنه وهو ممثل الشرعية في يونيو من عام 2019.
في أغسطس من عام 2013، أُسس ما يعرف بالمجلسالثوريالمصري، ليكون أكثر استيعابا لقوى سياسية مدنيّة. وتزعمت المجلس شخصيات أكاديمية وبحثية مثل مها عزام ووليد شرابي ومحمد عادل. لكنّ هذا التحالف لم تكن له قوّة فعلية على الواقع، بل تمثّلت نشاطاته في كتابة بيانات تعلّق على الأحداث، وتتضامن مع الحقوق والحريّات، وتعيد إحياء الذكريات الثورية.
بالعودة إلى الإخوان، فقد أدى انشقاقهم مطلع عام 2015 إلى جبهتين ومكتبيْن، إثر الخلاف بين المكتب القديم للإخوان بقيادة محمود عزت ومحمود حسين، وبين اللجنة الإدارية العُليا بقيادة القيادي المقتول بواسطة الأمن المصري محمد كمال على أحقّية إدارة ملفات الجماعة ومشروعية العنف في مواجهة النظام المصري، أدى إلى الضعف والتفكك وانعدام أي استراتيجية للمواجهة والخروج من الأزمة [1].
لم توجه لقيادات الإخوان طيلة فترة فشلها انتقادات إدارية حول ضعف التنظيم واستراتيجيات العمل في مواجهة النظام المصري فقط، بل زادت اتهامات أخلاقية بشأن المسؤولية تجاه رسائل آلاف المعتقلين التي تستغيث بهم لمحاولة حلّ الأزمة والتفاوض مع النظام المصري للإفراج عنهم. وقتئذٍ قال إبراهيم منير مسؤول الجماعة بالخارج أنّ تلك الرسائل هي ألعوباتٍ أمنية لضعف همّة المعتقلين. وحتى في حال صحتها أجاب أن الجماعة ليست مسؤولة ولم تُجبر أحدا على مواجهة النظام معها. هذا بالإضافة إلى تسريباتٍ عدّة من شخصيات إخوانية في الخارج تشير إلى التلاعب بأموال الجماعة وتوظيفها لمكتسباتٍ شخصية. بينما تستمر جماعة الإخوان بالخارج في إقامة أنشطة دعوية متمثلةً في لقاءاتٍ لمنتسبيها وإحياء الذكريات السنوية لها، مثل ذكرى تأسيسها ويوم فضّ اعتصاميّ رابعة والنهضة.
موظفون
امتدت للمعارضة المصرية أذرع ومساحات إعلامية وصحافية متعددة لها وجهان أيديولوجان. الأول هو الوجه الإسلامي المتمثّل في قنوات مثل مكملين والشرق والحوار. هذا الوجّه يُنتقد كثيرا من المتابعين والمتخصصين، وذلك لعدم مهنيّته في مهمته الإعلامية فهو يهاجم النظام المصري طيلة الوقت دون أي عقلانية أو موضوعية، ولا يستضيف أي آراء تخالفه، ودائما ما يُمجّد في النظام التركي ورئيسه الطيب أردوغان ويصل به إلى منزلة تشابه النّبوّة. بالإضافة إلى عدم امتلاكه لكوادر إعلامية من مذيعين ومُحاورين مُختصين بالشؤون المختلفة للوضع المصري، بل يعتمد على المذيع الذي يقدم حكايات يسمّونها "مقدمات نارية" مثل معتز مطر وسيد توكل ومحمد ناصر وصابر مشهور.
دائما ما يهاجم الوجه الإعلامي المحافظ سالف الذكر الوجه الآخر ذا التوجّه الليبرالي متمثلا في مجموعة "العربي الجديد" المُتموقعة في لندن وقطر. وتحاول الثانية أن تكون أكثر التزاما بواجبها الإعلامي والصحافي تجاه القضايا المصريّة، مبتعدةً تماما عن كونها أداة إعلامية تابعة للمعارضة مثل التوجّه الأول، بل ومنتقدة أحيانا بعض شخصياته في برنامجها السياسيّ الساخر جوشو الذي يقدّمه الشابّ يوسف حسين ممّا أدى إلى حالة شِجار دائمة بين الطرفين واتهام الطرف ذي التوجّه الإسلامي للطرف الآخر بأنّه يدير أجندة صهيونية بتمويلات ضخمة، حيث تساوي ميزانية المطبخ داخل التلفزيون العربي ميزانية قناة مثل مكملين على حدّ قول المذيع محمد ناصر، وذلك أثناء توبيخ ناصر للكاتب والسيناريست بلال فضل لانتقاد الثاني الطيب أردوغان في صورة كاريكاتيرية على فيس بوك كوّنه أحد كتّاب صحيفة "العربي الجديد".
مع الوقت وبفضل الهشاشة التنظيميّة، أصبحت جماعة الإخوان المسلمين بمثابة "جماعة ضغط وظيفيّة" تلعب دورا مستمرا عبر وجودها التنظيمي و ذراعها الإعلامي وكتّابها ووجوهها في تحشيد العاطفة العربية نحو تمجيد تركيا ورئيسها مستندين على العاطفة الدينية وذكريات الخلافة العثمانية، ناهيك عن مهاجمة النظام المصري في النزاعات المشتركة بينه وبين النظام التركي في ملفّات عدّة، كَالنزاعالليبي بين حكومة طرابلس وجيش حفتر، وملفّ الغاز وترسيم حدود البحر المتوسط. فَمصلحة النظام التركي برفقة مموّل أنشطة الجماعة هما اللذان يتحكّمان في المشهد ويوظّفان جهود الجماعة - وإن كانت ضعيفة - في ترسيخ سياسةٍ معادية للنظام المصري ربما تتغيّر مع الوقت.
أكاديميون
على مرّ السنوات العشر الفائتة، أُسست عدة مراكز بحثيّة ومنتدياتٍ تعليمية وغير ذلك من فضاءات تحتاج للعشرات من الأكاديميين في حقول العلوم الإنسانية المختلفة لترصد التحولات على مستويات مختلفة مرّت بها المنطقة العربية. بعد الانقلاب العسكري في مصر، غادر الكثير من الأكاديميين المصريين وطلاب الدراسات العليا إلى تركيا وقطر ولندن وبلدان أُخرى أملا في العمل والدراسة بتلك المؤسسات، ولأسبابٍ تتعلق بالمضايقات الأمنية المتوقّعة من النظام المصري بسبب معارضتهم للانقلاب العسكري.
نجد الصورة الآن خلال الذكرى العاشرة للثورة أكثر وضوحا. هؤلاء الأكاديميين لم يَشتبكوا مع العمل السياسي كمثقّفين معارضين، عليهم البحث والعمل لإيجاد مخرجٍ من الأزمة، بل عملوا كمثقفين أكاديميين يتنقّلون بين منصات منتدى الشرق والمعهد المصري للدراسات والمركز العربي للأبحاث وأكاديمية العلاقات الدولية وشاشات الجزيرة والتلفزيون العربي وغير ذلك من المنصات التعليمية والصحافية والبحثية، يعملون بها كرؤساء وباحثين ومُعلّمين. تلك الوجوه لا تكتفي حتى بمنصبٍ واحد للعمل، بل غرقت في المنافسة الأكاديمية وفي إصدار الكتب والحلقات وغيرها متجاهلين تماما دورهم الثوري كمثقّفين.
يضاف إلى ذلك إخفاق كلٍ من الكتلة الأكاديمية المثقّفة والكتلة السياسية التنظيمية متمثلةً في جماعة الإخوان أو حتى قوى مدنيّة أخرى -إن وُجدت- في التعاون لإيجاد مخرجٍ من تلك الأزمة السياسية في مصر. بل على العكس نجد تراشقات مستمرّة بينهم لا تتوقف، كالتي حدثت بين دكتور العلوم السياسيّة ومستشار الرئيس محمد مرسي سابقا، سيف عبد الفتاح وبعض مؤيّدي الإخوان عندما تحدّث مع الصحافي سليم عزوز على كواليس الرئاسة ذاكرا بعض أخطاء الرئيس محمد مرسي. بالعودة إلى دور المثقّف العضوي كما يسمّيه المناضل الماركسي غرامشي يجب على الأكاديميين مراجعة دورهم في الفاعليّة السياسية الواقعية والسعي إلى التغيير[2]، وألا يتيه أو يؤدلج هذا الواجب وسط تمويلات المشاريع البحثية الضخمة، وأن يوظّفوا ثقافتهم في الفعل الثوري وليس في الفعل الثقافي فقط، كما جاء في نصائح المفكر الأردني غالب هلسا لمنظمة التحرير الفلسطينيّة [3].
حقوقيون
بالنسبة للعمل الحقوقي، فقد شهد تطورا وانتشار سريعا في السنوات الأخيرة. انتشار يَعكسُ حجم انتهاك الجهاز الأمني في مصر لعموم المواطنين والفئات السياسية المعارضة له. وفّر العمل الحقوقي مساحةً كبيرة تضم كافة التيارات الأيديولوجية التي رفضت أن تتجمع يوما ما على الطاولة السياسيّة. فتجد منظمات حقوقية كثيرة، تجمع بين اليساريين والإسلاميين والليبراليين والصحافيين والناشطين المستقلّين، يعملون من أجل توثيق ورصد الانتهاكات في تقارير ودراسات دوريّة.
يعدّ العمل الحقوقي إنجازا كبيرا، حيث عملت منظمات مثل نحن نسجل we record، وجمعية من أجل العدالة Committee for Justice، والمفوضية المصرية للحقوق والحريات، والجبهة المصرية لحقوق الإنسان وغيرها على رصد كافة الانتهاكات التي تحدث للمصريين سيّما السجناء السياسيين، من وفيّات إثر التعذيب داخل مقرّات الاحتجاز، والتصفيات الجسدية، والانتهاكات الجسدية للسجينات . يحتلّ هذا العمل إلى الآن مكانة التقدير والامتياز نظرا للظروف الأمنية الصعبة التي يعملون في ظلّها، ولِصعوبة الحصول على الأرقام والمعلومات التي تفيد التسجيل الصحيح للانتهاكات.
مع هذا التقدير بشأن التوثيق والرصد إّلا أنّ العمل الحقوقي يُنتقد من سياقيّن، الأول وهو سياق تاريخيّ حركيّ يكاد يكون مُكررا، حيث نالت الانتقادات أوساط اليسار في مصر بسبب توجّههم إلى العمل الحقوقي مطلع الألفية الثانية حيث بداية ازدهار المنظمات الحقوقية في مصر وتركهم العمل السياسي والثوري المتمثل في تحشيد العقل الثوري في اجتماعات هي بالأساس قلب اليسار مثل العمّال والطلاب، ممّا أضعف اليسار وشتت برنامجه التنظيري والفعليّ في الإجابة على سؤال ما هو اليسار؟ وما هو الحل؟ ربما يتكرر حاليا ذلك التوجّه الحقوقي مصطحبا معه تيارات ليبرالية وإسلامية وسطية أو منشقّة، وذلك لوجود فضاءات حقوقية فارغة تحتاج إلى العمل الحقوقي لرصد توسّعات الانتهاك، بالإضافة إلى وجود ضفّة الحريات الفردانية كالحقوق الجندرية التي رست في منطقتنا العربية بقوّة والتي توجّه لقيادتها نشطاء أكثر تقدّمية من اليسار والليبراليين [4].
الانتقاد الثاني يتبلّور في سؤال ما بعد التوثيق؟ أي ما هو تحرّك تلك المنظمات بعد رصدها لكافة الانتهاكات والجرائم؟ ربما يجب على الحقوقيين التفاعل أكثر مع السياسيين المعارضين، لكي يشكّلوا جبهة ثنائية بدورها تتواصل مع صنّاع القرار وأصحاب السياسات في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا للضغط عليهم باتخاذ قرارات تضغط على النظام المصري لتخفيف قمعه على الحالة السياسية في الداخل، عِلمًا بصعوبة وجود ذلك التأثير في عالم أكثر شعبويّة لا يعرفُ سوى إدارة مصالحه لتحقيق المكتسبات بغضّ النظر عن أي حقوقٍ وحريّات.
محمد علي كظاهرة احتجاجية
لم يكن ظهور المقاول محمّد علي مجرّد شخص ينادي ويحرض بالثورة على النظام المصري الحاليّ، بلي مكن أن تقرأ الاستجابة له في حين والتخلي عنه في آخر واعتزاله السياسة وعودته مرّة أُخرى في عدّة سياقات. أولها في السياق الأيديولوجي، فعندما ظهر المقاول أوّل مرّة في أوائل سبتمبر عام 2019 ليفضح استغلال رأس النظام المصري عبد الفتاح السيسي في هدر أموال الدولة لبناء قصور رئاسية واستراحات عائلية بعشرات الملايين في ظل الفقر السائد وسط جموع المصريين، تحدّث على كوّنه خريج دبلوم الصنايع الذي لا ينتمي إلى أي جماعة ولا يتبنى أي فكرٍ سوى فكرة خلاص الناس من الجوع والاستبداد. حظِيَّ عليّ وقتها بتأييد جموع كثيرة من الشعب فضلا عن الاستجابة ونزول مظاهرات تطالب السيسي بالرحيل قبل السيطرة عليها بالقمع والاعتقال من قِبل قوات الأمن.
لكنّ حديث المقاول في المرة الثانية ودعوته للنزول والاحتجاج مرّةً أُخرى في 25 يناير عام 2020، قوبل بعدم الاهتمام والانتقاد وعدم النزول، لأسبابٍ منها تصدّر محمد علي كسياسيً يُحضّر أجندة ويكتب وثائق ما بعد السيسي، ويُحلل المشهد السياسي والاقتصادي في مصر بطريقة ساذجة وعشوائيّة. أيضا أعلن المقاول تحالفه مع الإخوان المسلمين وظهر يوميًا على شاشات القنوات الإعلامية التابعة لهم كَقناة مكملين والشرق ممّا أغرقه في طابع أيديولوجي لا يخاطب مطالب المواطن المصري بشكلٍ صريح، هذا الظهور أعطى للإعلام المصري التي تسيطر عليه الدولة حجّةً لأخونته واتهامه بالتمويل والأدلجة من قبل جهات خارجية.
أما الاحتجاجات البسيطة التي خرجت في سبتمبر الماضي في عدد من القرى المصرية التي تضررت بسبب هدم المناطق المخالفة لقانون البناء، بالإضافة إلى رسوم التصالح المفروضة على الأهالي، عبّرت عن ضيق الأهالي من قرارات الحكومة المصرية أكثر منها استجابةً لدعوات المقاول. تُقرأ أيضا استجابة النزول للتظاهر والاحتجاج في السياق الأمنيّ، فلو خلت الميادين من تواجد قوات الأمن في أي وقت وحتى بدون دعوات للتظاهر، ستمتلئ تلك الساحات بالغاضبين كما حدث في 20 سبتمبر 2019 فَقوات الأمن المصرية هي التي سمحت للمتظاهرين بالتجمّع والهتاف عن طريق حيادها في أول الاحتجاج، ومِن ثمَّ بعد البدء شرعت قوات الأمن في فضّ الاحتجاج والقبض على آلاف المتظاهرين سيّما في المناطق المُصرّة على التظاهر كَمنطقة وسط البلد بالقاهرة ومحافظتيّ دمياط والسويس.
هل من ديمقراطية قادمة؟
في يوم 9 ديسمبر. صرّح رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي بالتوجه الرئاسي له بالانتقال إلى دولة ديمقراطية مدنية حديثة. أثار تصريح مدبولي الكثير من السخرية، اعتقادا وجزما بأن النظام المصري بالقيادة الحالية هو نظام شديد القمع بكلّ معارضيه. كما أن التحدّث عن نيّة تخفيف القمع طُرح بعد فوز الديمقراطي جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ممّا سيعني وجود إدارة أمريكية تتعامل بأقل يمينيّة من إدارة الخاسر دونالد ترامب في ملفات الحريّات والحقوق الخاصة بمصر والمنطقة. لكن قبل مناقشة إمكانية تخفيف القمع ووجود إمكانيّة سياسية قابلة للممارسة، يجب قراءة واسترجاع مبادرات الحلّ التي طُرحت من شخصيات مختلفة التوجّه والسلطة لحلّ وتخفيف الأزمة السياسية في مصر.
لم تهدأ المبادرات لحل الأزمة السياسية في مصر حتى موت الرئيس مرسي منتصف عام 2018، أسماء ومراكز مثل زياد بهاء الدين نائب رئيس وزراء حكومة حازم الببلاوي، والسياسيّ عبد المنعم أبو الفتوح قبل اعتقاله، أستاذ العلوم السياسية حسن نافعة قبل اعتقاله والإفراج عنّه مؤخرا، الأكاديمي سعد الدين إبراهيم، المحامي والمفكر محمد سليم العوا، زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي، القيادي السابق بالإخوان كمال الهلباوي، مرشد الإخوان الحالي إبراهيم منير، والسفيرين السابقين عبد الله الأشعل ومعصوم مرزوق قبل اعتقال الثاني والإفراج عنّه. شملت تلك المبادرات بنودٍ كثيرة كانت أهمّها نبذ العنف لدى الإخوان كشرطٍ للمصالحة السياسية، قبول النظام المصري تلك المصالحة ومن ثمّ وجود مجال سياسي للممارسة من كُل القوى السياسية، وإخراج المعتقلين غير المتورّطين في قضايا عنف وتخريب.
بالرغم من فرض النظام المصري قوّته من خلال تَحايُل تلك المطالب إلّا أنّه لم يستجب أو يَرد على أصحابها، بل بادر باعتقال البعض منهم مثل عبد المنعم أبو الفتوح وحسن نافعة ومعصوم مرزوق، في دلالة واضحة أن لا مصالحة سياسية سواء مع الإخوان أو غيرهم، تكمُن تلك الدلالة الرافضة في الخطاب الإعلامي الذي يظهر على ألسنة مذيعي النظام مثل عمرو أديب وأحمد موسى من ناحية، ومن ناحية أخرى في خطابات السيسي الحاضرة دائما والتي تتحدث بلسان التهديد والرفض الدائم أن لاتصالح ولا هوادة مع أهل الشر والإرهاب منوّها أن تغيير نظام الحكم الذي حدث إبان ثورة يناير لن يتكرر مرّة أخرى في مصر، ذلك الرفض الدائم أدى إلى عدم طرح مبادرات مجددا على مدار أكثر من عاميّن ونصف.
من المؤكد أن المشهد المصري الحركي بسياقه السياسي والأمني والاجتماعي أعقد من ذلك، ويُقرأ في عدّة سياقات، فحتى الإفراجات الجماعية التي تَصدر في أحيانٍ من دوائر المحكمات المختلفة، هي ليست انفراجة سياسيّة، بل سياقٍ قانونيّ يجري، ربما تلك الإفراجات لا يتمّ خروج أصحابها ويُعاد تدويرهم في قضايا أُخرى، أو حتى يتم القبض عليهم بعد فترةٍ من زمن ضمن سيرورة الاعتقالات التي لا تتوقّف. حتى القبض والإفراج عن نشطاء المبادرة المصرية مؤخرا، يقرأ في نظرة السلطة السياسية للمبادرة، وكيفية التعامل معها التي قد تتغيّر وفقا لرؤى دبلوماسيّة جديدة ينوي النظام تطبيقها، ولا تتغيّر بسبب مقطع فيديو لفنانة هوليوديّة.
من المؤكد أيضا أن ذكرى الثورة العاشرة أتت على الكثيرين من المخلصين وهم يتحسّرون على الفعل السياسيّ الماضي، وآملين في إيجاد فرصة لمخرجٍ واستعادة جزء من أماني الذكرى الأولى لثورة المصريين العظيمة.
المصادر
1- للمزيد حول انشقاق جماعة الإخوان انظر، ياسر فتحي، الإخوان المسلمون وثورة يناير، الجزء الثالث، الإخوانبعدفضّ رابعةمنالاستدراكإلىالانقسام، المعهد المصري للدراسات، نشر في 12 سبتمبر 2019.
2- للمزيد حول مفهوم المثقف العضوي انظر آن شوستاك ساسون ، مداخل إلى غرامشي: السيطرة السياسية والثورة والدولة، ترجمة سحر توفيق، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016.
3- ناهض حتّر، العقل السلبي والعقل الإيجابي، اختيار النهاية الحزينة، يوميات الصراع الطبقي في الساحة الفلسطينية في عقد الثمانينيات، الانتشار العربي، بيروت، 2008، ص 365.
4- عليّ الرجّال، اليسار في مصر، حدوده وآفاقه في عالم 2011، دفاتر السفير العربي ص 13.