ربما يقابل الحديث والكتابة عن المثقف، غالباً، بعدم الاكتراث واستبعادهما من طاولات الحوار، وهذا لم يأت من فراغ، إنما، هو شأن من شؤون السلطة، فيما إذا كشفنا السياق التاريخي لتمرحل هذا المصطلح ودلالته المرفوضة-بعد التجربة الواقعية الملموسة، سنجد غرس بذوره، ثماراً في جيب السلطة. ومن المتعارف عليه، إن مصطلح "المثقف" أصبح "سائلاً" كي تتعدد مَهامه، وتختلط أوراقه، لتضييع الفرصة عليه وتشويه صورته-أياً كانت-بالطريقة تلك أو بغيرها، لذا، ينبغي أن نبين ملامح ومَهمة المثقف، تحسباً للجدل المرافق لذلك المصطلح: لن نؤطر أو نُقولب ونحصر مَهمة المثقف بموضع واحد، ولن نستعير النموذج الغرامشي-المزعج للسلطة، أو النموذج الفوكوي، حتى لا نقع في غربنة المفاهيم وتمثلاتها وتطبيقها على بقعة مختلفة، أو حتى نموذج إدوارد سعيد. وليس في استبعاد تلك النماذج ما هو مخزٍ أو غير مقبول، إنما الحرص على توسيع مساحة المفهوم والابتعاد عن ربطه بالسياق التاريخي لتلك النماذج المذكورة. وغالباً ما تُخندق صورة المثقف، بإنتاج المعرفة: كتابة أدب وغيره وحضور أنشطة وفعاليات ومؤتمرات وغيرها، أي سيكون دوره مثل دور المهرج على عتبة المسرح، اقتصاره على تضحيك الناس والترفيه وما شابه، وذلك ما لا يمكن القبول به وغض الطرف عنه، فإذا ما انحصرت مَهمته بذلك النشاط، سيكون نوعاً من أنواع المخدرات ويداً خفية لتعزيز سطوة السلطة، وإن كانت-تلك العملية- غير مرئية وليست واضحة، عندها، ستكون المعرفة سلبية ورجعية وغير صالحة لاستمرارها، فوجودها دون فاعليتها في الواقع ومن دون موقف أخلاقي، يقتل المعرفة، وواقعنا خير شاهد. كما إن تأطير وجود المثقف بالمعنى الواقعي، بالكاتب والأديب والراوي والشاعر والمسرحي، غير صحيحة برأيي على الأقل. إذ ليس من المعقول أن يفتقد المعلم والأستاذ والطبيب والمهندس والقاضي والشرطي، للحس الأخلاقي والشعور بالمسؤولية تجاه مجتمع شعبهم والانتماء له. وتلك الظاهرة-حصر صورة المثقف ودوره، بالكاتب المبدع-ليست نتيجة اعتباطية أو جاءت بفعل المؤسسات التي يشتغل فيها، وابتعاد باقي النخب عن ارتيادها، إنما وليدة سياسة مخطط لها ومعمول بها منذ سنوات. ولن نبالغ إذا ما قلنا منذ سقوط صدام وحزبه، وما عكس ذلك، والذي ينبغي الانخراط به: أن يشترك بالموقف والحس الأخلاقي، ابتداءً من عمال البلدية والكهرباء وغيرهم من الموظفين كل على شاكلته، حتى أعلى منصب في الحكم، إذ أن وزير التعليم الحالي في فرنسا، جون ميشيل بلانكر، سبق له وأن ناقش إدغار موران وجهاً لوجه، وهو يناقش فلاسفة فرنسا طولاً وعرضاً وفي مختلف المنابر الإعلامية سواء المكتوبة أو المسموعة أو المرئية. كما أن وزير التعليم في حكومة جاك شيراك كان هو لوك فيري، الفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت. ما حدث في العراق عام 2018 في حكومة المجرم عادل عبد المهدي، استقدموا المثقف المهم عبد الأمير الحمداني والذي جاء بخلفية معرفية واسعة جداً، أبسطها "عالم ومترجم في حقل الأركيولوجيا/الآثار والسومريات" ليكون وزيراً تكنوقراطياً للثقافة، وتلك الوزارة، من حصة مليشيا العصائب، وحتى مجيء حكومة الكاظمي المؤقتة، استوزروا حسن ناظم الغني عن التعريف وزيراً لنفس الوزارة ومن الجهة نفسها، ومن ثم نبيل جاسم لإدارة شبكة الإعلام العراقي؛ وسنقف عند ذلك بشكل مفصل.
برزت ظاهرة وتوسعت، وأصبحت أشبه بالخطاب السلطوي الناعم، والتي تعمل من منطقتها، بشكل مباشر أو غير مباشر في العمل السياسي والمشاركة فيه، تلك الظاهرة أسميتها (المثقف الصامت) وهي ليست صنيعة اليوم، أو تولدت، نتيجة للوضع الراهن وأحداثه التي تخيف المجتمع وتجعله يبعد نفسه عن الخطر المحيط به، وإذا ما أردنا الوقوف وتبيان جذور تلك الظاهرة، ينبغي لنا أن نفترش تمرحلات المثقف، الواقف مع السلطة أو نقيضه، وكشف سياق التاريخ لتلك العلائق، وما سببته فيما بعد: عدة شروخ ومشكلات، تجذرت وترسخت، حتى أصبحت هوية فرعية يؤطر بها دور المثقف ومساحته واشتغالاته، سواء، مشغله الفردي، مجتمعه، أو السلطة.
بالإضافة إلى-السكوت علامة الرضا-وابعد عن الشر وغنيلُهُ، وموروث المجتمع بالقناعة والقبول بالحظ والقدر والمقسوم، يتجذر مفهوم الصمت داخل سيكولوجية المثقف، إذ أن المجتمع وأطيافه غير مبالٍ بالراهن الخرب، فالصمت، لن يكون عيباً أو رضوخاً، إنما، حاله من حال الناس، كما تقول الناس. وبحسب ما أرى، إن للصمت أشكالاً وفئات، وأكثر من صورة، ليس فقط الصمت عن القول والكلام، بل تتعدى ذلك، لتكون أشبه بالمؤسسة وإن كانت دون اشتراطات ومهام محددة، وتختلف صورة الصمت، بالفعل والممارسة والمنطلق، أو حتى المنصب والانتساب لجهة ما، لذا سنناقش جملة من صور الصمت بمجموعة من النقاط لكشف أحد أهم وجوه الفساد الذي له اليد الطولى بالخراب.
من الثقافة إلى تقمص الصلافة:
إن ثقافة الصمت أو السكوت-كما أشرنا أعلاه-هي ظاهرة مترسخة في طبيعة المجتمع العراقي، إلا أن وقوع المثقف فيها واستمراء تأثيرها، أمر مرفوض، فالمثقف الصامت، ينتمي لتلك الجماعات كي تكون غطاء شرعياً لعمله السلبي، ومما قلته، إن ثقافة الصمت تتعدد صورها: لا نعني ولا نشمل، أن كل مثقف صامت، مصموت بشكل مباشر من السلطة، إنما الأخيرة بمعونة بعض المتثاقفين، سعت لتحجيم دور المثقف وصورته بالأنشطة الإبداعية فقط، دون الفاعلية في العمل الثقافي السياسي وتعرية المشهد وفضح أقنعته، أما مثقف السلطة المباشر الصامت، هو نموذج من نماذج ما نحاول كشف صورته، فواقعنا يشهد بالنماذج الكثيرة التي ابتاعت السلطة أقلامها وضمائرها بمبالغ بخسة، وأبعدتها عن الواقع والمعيشة اليومية للشعب، أو المثقف الانتهازي، الذي يستغل الفرصة لمنصب ما، كي ينأى بنفسه، فيبتعد عن المجتمع، ذلك أنه ذاق المرارة وجاءت الفرصة السانحة لتغيير جلده، وما عذر هؤلاء: محاولة تصحيح لمسار العمل السياسي، وفتح نافذة في جدار الخراب، والتقليل من توحش الفساد، بينما الخواتيم وما شهدناه ولمسناه، جاء بعكس ما كانوا يدعون به، لتكون غايتهم، انتهاز الفرصة من أجل الوصول والتمتع بالامتيازات والأموال والمنح، أما، صورتهم السابقة، تم غسلها ومحو تاريخها بالأموال. ذلك، واحد من أشكال الصمت الوضيع، وإذا طولبنا بأمثلة: لا أحد ينسى الخلفية العلمية التي جاء منها عبد الأمير الحمداني، فهو الباحث والمترجم والدكتور والأستاذ الجامعي والمتبحر بحقل الأركيولوجيا/الآثار، كل ذلك، تم رميه بلحظة خاطفة، ومباشرة، تم اسيزاره للثقافة بسياسة تحاصصية لمليشيا العصائب، وما كان من محبيه، إلا أن يستبشروا خيراً ويستشرفون العمل المنهجي الذي يشعر بما يكابده الفرد العراقي، فما كان من الحمداني، إلا أن يحتفل بعودة أحجار الحضارة للبلاد، تزامناً، مع مجزرة الناصرية الأولى في حي أور على يد مليشيا العصائب، وثانيها، حضوره لمأتم المجرم وسام العلياوي وأخيه في ميسان، فهل هناك أشنع من هذا الصمت!
باقي الأمثلة: حسن ناظم، إذ جاء بنفس خلفيته الطائفية، التي ترأس بها كرسي اليونسكو، ليحل وزيراً للثقافة لجهة مليشيا العصائب أيضاً، والدليل موجود على تطييف المؤسسة الثقافية ووضع الطائفة من ضمن الضوابط التسجيلية، أما عمله المهني، فهو يقول بلسانه: يوجد لدينا في الوزارة، إثنان وأربعون بيتاً ثقافياً لا أعرف ما عملهم، والناصرية بحمولتها الثقيلة، لا يوجد فيها بيت واحد. هذا كلامه بعد ستة أشهر من استيزاره، وإذا ما أراد ناظم أن يزيد من صمته، أصبح الناطق الرسمي لحكومة الكاظمي، ويقول: إننا تشاركنا العمل الثقافي قبل أن نتشارك العمل السياسي، فلا أعرف أي عمل كان الكاظمي يديره، وهو لا يستطع نطق جملة بشكل صحيح! وهلم جرا من الصمت، مثل صمت واختفاء نبيل جاسم من الشاشة التي كان يصرخ منها كل يوم، بعد تسنمه إدارة شبكة الإعلام العراقي، وصمت آخرين غيره والأمثلة كثيرة.
نبذ العصامية، ترسيخ الصمت:
إن سيرورة مثقف السلطة الصامت، نتيجته السلبية أكثر فساداً وتأثيراً، من المثقف السلطوي المجاهر بإيديولوجيته والمنافح عنها، ذلك أن الصامت، يمكن تسميته "الأخطبوط المحايد" والمحايد، وضعه دانتي، بكوميديته الإلهية، بأحلك قعرها المظلم. فَيَدُه يستطيع تمريرها لجيب السلطة ولعيون المجتمع، ذلك يتم باقتصاره على عمل الأنشطة الأدبية والفنية وغيرها من الفعاليات، وغض الطرف عن الفساد الذي يأكل الأخضر واليابس، ومن خطورته بموقفه المحايد، أن يستطيع دخول مجالس السلطة والعمل فيها ومعها دون أوراق مهنية، ويخترق المجتمع دون قلق من نبذه واحتقاره، لذا، من الممكن أن يكون عين السلطة داخل المجتمع، بطريقة مباشرة أو بأخرى، فما هي صورة الخذلان التي يرسمها المثقف الصامت إزاء شعبه وبلاده؟
ومن نتائج ذلك الصمت المخزي، أن الأجيال الجديدة، ما بعد السبعينيات وما تلاه، لم تفوت الفرصة على المثقف الصموت، إنما، تسربت إليهم كل براثن وأمراض وعقد الأجيال السابقة، فما كان منهم، إلا أن يسيروا كما قبلهم، من تحاشي السلطة أو العمل بحاشيتها، أو مهادنة وتبرير العمل في المؤسسات التي خرجت من رحم الفساد ومن أموال البلاد. تلك الصورة، تجعل المثقف النزيه في خانة ضيقة وتركه أمام رصاص السلطة عارياً، وإذا ما خلت مساحة المعارضة من الأصوات الحرة، ستبقى الساحة لمثقفي السلطة وحاشياتها، وذلك، صمت مضاعف، إذ أن خلو المعارضة من المعارضة، ستكون صورة المعارضة متمثلة بالمثقف المحايد السلطوي، فليس غيره، بمقدوره التصدي للعمل والنشاط والإفلات من سكاكين السلطة. صحيح إن العمل ضد سياسات ومنهجيات السلطة الفاسدة، لن يجد نفعاً أو يزعزع وحش السلطة المستفحل في العراق، إلا أن الصمت والسكوت، هو أشبه بتلقي الصفعات على الخدين دون الإحساس بالمهانة!
ثمة أمر آخر ينبغي الإلتفات إليه: مخاطبة المؤسسات السلطوية، لدعم الأنشطة المعرفية الكبرى والمهرجانات الدورية السنوية وغيرها، والغريب، أن السلطة تستجيب لذلك بمبالغ مهولة تتجاوز كلفة الأنشطة ومصاريفها، بينما البلد متخم بالفساد بكل مفاصله. ذلك يتم بمعية المثقف، فهو الذي يترجى السلطة مخاطباً إياها برمي دريهمات له كي يسد ما يحوجه. إن ممارسة مثل تلك العمليات، هو دعم لفساد السلطة واستمراره، وهو صمت وضيع عن بقية ممارسات الحكومة الظلامية واعطاءها الضوء الأخضر بالتربع على السياسات التي تنخر عمر البلاد ومقدراته ومجتمعه.
أستعير، هنا، صمت محمود البريكان (1931-2002) صمته الذي كان أنزه وأشرف صمت في زمن، كانت الأقلام تبيح ضميرها للسلطة، دون حاجة الأخيرة للقلم الرخيص، وصديقه وابن مدينته محمود عبد الوهاب (1929-2011) وهو يفصح بذكاء وفطنة، ملؤهما الحس الأخلاقي، حين يقول في واحد من حواراته "إن المثقف يمارس العمل السياسي عِبر العمل الجمالي" لا نريد أن نصادر تجارب وجهود شخصيات فاعلة في المشهد، وتتصدى لسياسات السلطة، إنما، نموذج المثقف عند عبد الوهاب، من الممكن تصنيفه وإن اختلف الزمن والمعطيات: هناك الكثير من الأدباء من عزفوا عن المشاركة بأية فعالية أو نشاط يخص البلاد، مقتصراً على كتابة الأدب ودبج النصوص والمتون، وهو يغيب أو يتغيّب عن ذهنه، أنه يكتب شخصياته ويخلقها من رحم محيطه، إنما، مبتعد عن الانخراط مع مجتمعه.
ختاًماً هناك عدد بسيط من الأقلام الحرة النزقة التي ينطبق عليها نموذج عبد الوهاب وأكثر منه، وكلٌّ، يمارس عمله من زاويته الخاصة. ولكثرة الصمت وقلة الأصوات، أصبح الحس الأخلاقي مزية يتفاخر بها من يحملها، في حين أنها من البديهيات، إنما، من جعلها موضع الفخر، هو شحة الحس الأخلاقي.
الروابط:
1. برنامج المحايد مع محسن ضمد. حلقة وزير الثقافة: حسن ناظم
2. لقاء الوزراء مع رئيس الوزراء الكاظمي وتملقهم له.