كتب الشاعرُ الأميركي ويستن هيو أودن (1907-1973) هذه القصيدة في 1939 بعد وفاة الشاعر الإيرلندي ويليام بتلر ييتس (1865- 1939) في كانون الثاني من ذلك العام. تتحدث القصيدة عن وفاة الشاعر في منتصف الشتاء في وقت تجمدتْ فيه الجداول وغمر الثلج التماثيل العامة وشوّه ملامحها، واشتد البرد إلى درجة أن الزئبق انكمش في موازين الحرارة.
إن القصيدة مرثاة للشاعر لكنها في الوقت نفسه تأمّلٌ في دور الشعر ومكانته في العالم الحديث. يرى أودن أن الشعر عاجزٌ عن فعل أي شيء كأداة للتغيير السياسي والاجتماعي ويعيش في وادي اللغة التي يبدعها بعيداً عن العالم الواقعي النفعي. لكن هذه ليست دعوة إلى التشاؤم، صحيح أن الشعر لا يجعل أي شيء يحدث لكنه هو نفسه ”طريقة في الحدوث“، وقادر على تغييرنا وتغيير نظرتنا إلى الوجود على المستوى الداخلي العميق.
تنعي القصيدة ييتس لكنها أيضاً تبعثه إلى الحياة في قرائه مؤكدة أنه صار هو نفسه المعجبين به والمحبين له. لقد تبعثر شعره في جميع المدن وبين قراء مختلفين وكل يعاود تفسيره بطريقته الخاصة. سيعثرُ القراء في شعر ييتس على عواطف غير مألوفة، كلٌّ بحسب زمانه ومكانه. وهنا يصبح موت الشاعر أو ”موت المؤلف“ نوعاً من الانبعاث في القراء على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، لأن معنى وقيمة كاتب يكمنان في القارئ وليس في المؤلف، أي في إعادة الخلق المستمرة للنص. وكما تشير القصيدة: إن كلمات الميت تُعَدَّل في أحشاء الحي ويتغيّر معنى ما كتبه الشاعر ويفسره كل قارئ بحسب أزمنته وثقافته. وهكذا فإن الشعر الذي يعيش في وادي كلماته ليس شيئاً يجعل التاريخ يحدث بل جزء من التاريخ، أو ربما الحياة،
وقادر على جعل الينابيع تنبجس في صحارى القلب وعلى إغناء الإنسان في سجن حياته القصيرة. (جزء من القصيدة بصوت أودن)
إحياءً لذكْرى وليام بتلر ييتس
-1-
قضى في عزّ الشتاء:١
كانت الغدرانُ متجمدةً،
المطاراتُ شِبْهَ مَهْجورةٍ،
والثلوجُ تُشوِّهُ التماثيلَ العامة.
انكمشَ الزئبق في فم النهار المُنْجلي،٢
وأجهزة التنبؤ بالطقس التي لدينا أجمعتْ
أن يوم موته كان داجياً وقارساً.
بعيداً عن فراش مرضهِ
عدتْ الذئابُ في غاباتٍ دائمة الخضرة،
نَفرَ النهرُ الريفيّ من الأرصفة العصرية،٣
وحجبتْ ألسنةُ النادبين
موتَ الشاعر عن شعره.
في الأصيلِ الأخير الذي كان فيه حيّاً،
أصيلِ الممرّضات والشائعات
تمردتْ أقاليمُ جسدهِ،
خَلَتْ أحياءُ ذهنه،
غزا الصمتُ الضواحي،
انقطعَ تيارُ مشاعره، وصارَ هو نفسه محبّيه.٤
يَتجوَّلُ الآن في مائة مدينة
بعد أن مُنحَ لعواطف غير مألوفة،
وانطلق كي يعثرَ على السعادة في غابةٍ من نوع مختلف
كي يُعاقَبَ وفق إملاءات ضميرٍ أجنبي.
ها هي كلمات الميت
تُعدَّلُ في أحشاء الأحياء.
غداً، في يوم آخر صاخب ومهمّ
يزأرُ فيه السماسرةُ كالوحوش في البورصة،
ويعيش الفقراء معاناتهم التي اعتادوا عليها جيداً
ويكون كل شخص مقتنعاً داخل زنزانة نفسه بأنه حرّ،
سيفكّر بضعة آلاف بهذا اليوم
كيومٍ يُنْجزُ فيه المرءُ عملاً خارقاً للمألوف قليلاً.
إنّ أجهزة التنبؤ بالطقس التي لدينا أجمعتْ
أن يوم موته كان ظليماً وبارداً.
-2-
كُنْتَ سخيفاً مثلنا، موهبتكَ نجتْ من كل هذا:
من أبرشية النساء الغنيات، والتحلّل الجسدي، ومن نَفْسِكَ.
آلمتْك إيرلندة البلهاء فلجأْتَ إلى الشعر،
ما يزال لإيرلندة جنونُها وطَقْسُها،
أما الشِّعرُ فعاجزٌ عن فعل أيّ شيء،
إنه يحيا في وادي كلماته حيث لا يرغبُ التجار
أبداً بالتدخل والعبث، ويتدفقُ جنوباً
من مزارع عزلتنا وأحزاننا المنشغلة،٥
من بلدات غير مكتملة نؤمن فيها ونموت،٦
إنه يحيا،٧
كطريقةٍ في الحدوث، كفمٍ.
-3-
استقبلي أيتها الأرض ضيفَ شرفٍ:
إن ويليم بتلر ييتس دُفِنَ هنا.
دعي الإناء الإيرلندي٨
يرقد فارغاً من شعره.
في كابوس الظلام٩
تنبحُ كلُّ كلاب أوربا،
تنتظرُ الأُمَمُ الحية،
وكلٌّ منها منعزلٌ في حقده،
العارُ الفكريُّ
يحدّقُ من جميع وجوه البشر
وبحارُ الشفقة
مسجونةٌ ومجمدةٌ في جميعِ الأعين.
واصِلْ طريقكَ، أيها الشاعرُ، واصلْهُ
إلى قاعِ الليل
وبصوتكَ المُحرِّر
واصلْ إقناعنا بوجود الفرح.
وأنت تزرعُ الشّعر
اصنعْ كرمةً من اللعنة١٠
وأنشدْ للإخفاق الإنساني
في نشوة المحنة.
فجّرْ النبع الشافي
في صحارى القلب
وعلّمْ الإنسان الحرّ
كيف يُسبّحُ بالحَمْد في سجن أيامه.
هوامش المترجم
١. بالإنجليزية In the dead of winter وتعني في منتصف الشتاء حين تكون برودته على أشدها.
٢. إشارة إلى مقياس الحرارة الزئبقي والذي ينكمش فيه حجم الزئبق عند انخفاض درجة الحرارة.
٣. في الأصل peasant river، وكلمة peasant تعني فلاحياً وريفياً، أي النهر الذي يتدفق في المناطق الريفية، حيث لا يوجد له ضفاف معبدة كالتي في المدن.
٤. إشارة إلى أن الشاعر بعد الموت يواصل حياته في قرائه والمعجبين به، والذين يعاودون خلقه بالقراءة كل حسب سياقه وتجربته.
٥. قدم شراح شعر أودن تفسيرين لـ busy griefs التي تعني الأحزان المنشغلة: الأول هو أننا نحزن على أشياء كثيرة وبالتالي تكون أحزاننا مشغولة، بمعنى أنها كثيرة جداً، والثاني هو أننا نحن أنفسنا مشغولون رغم أحزاننا.
٦. بالأصل raw towns، وتعني كما قال شراح القصيدة unfinished، بمعنى غير المكتملة، وفي هذا السياق يحصل الموت فيما نكون في حركية البحث عن المعنى.
٧. إشارة إلى الشعر والذي بالرغم من أنه عاجز عن فعل أي شيء إلا أنه بحد ذاته يشكل حدوثاً، واختراقاً إبداعياً يتجلى قي حدوثه عبر الفم الناطق.
٨. Vessel، تعني هذه الكلمة الإناء والقارب في اللغة الإنجليزية. يميل شراح القصيدة إلى كلمة إناء، وقد اقترح الشاعر الإيرلندي بيتر أونيل ترجمتها إلى ”إناء“، في نقاش جرى بيني وبينه حول القصيدة.
يجب التنويه هنا أن ييتس توفي في 1939، العام الذي قاد إلى الحرب العالمية الثانية، حيث كانت كل الدول تعوي على بعضها كالكلاب وكلها تغلي بالحقد في عزلتها وانفصالها عن بعضها بعضاً.
٩. إشارة إلى لعنة السقوط في سفر التكوين.
[الترجمة عن الإنجليزية: أسامة إسبر]
المصدر: Selected Poetry of W.H. Auden, Random House, The Modern Library, 1933