بشير بشير وليلى فرسخ (محرران) "المسألتان العربية واليهودية: جغرافيات الاشتباك في فلسطين وما يتجاوزها (دار نشر جامعة كولومبيا ، 2020)
جدلية (ج): ما الذي دفعكما إلى نشر هذا الكتاب؟
بشير بشير وليلى فرسخ (ب. ب. و ل. ف.): هذا الكتاب هو أحد النتائج الرئيسية لمشروع فكري وبحثي مستمر، عنوانه "الاشتباكات اليهودية بالمسألة العربية" و "الاشتباكات العربية بالمسألة اليهودية" والذي يستضيفه "منتدى برونو كريسكي للحوار الدولي" في فيينا. وقد جمع هذا المشروع مفكرين دوليين وعرب ويهود بارزين لإجراء نقاشات نقدية حول تلك الأسئلة الأساسية ضمن حلقات دراسية صغيرة. وكشفت هذه الحلقات سبل اشتباك المفكرين العرب مع المسألة اليهودية-أي مسالة الحقوق اليهودية وتاريخ الاضطهاد في أوروبا-على امتداد العقود الأخيرة، مبرزة كيف وفرّت وسائط الأدب والنظريات السياسية والدراسات الثقافية، سبلا خصبة لكشف السجلات التاريخية غير المروية والاشتباك في مسائل الحقوق والمساواة السياسية.
كما ألقت حلقات الدراسة الضوء على كون الباحثين العرب واليهود يشددون على الروابط بين معاداة السامية وبين رهاب الإسلام، وبين الاستعمار وبين الاستشراق، متحدّين إنكار الصهاينة للحقوق العربية. وشعرنا بالحاجة لنشر ما تعلمناه عبر جمع بعض الأبحاث التي تم تقديمها في الحلقات الدراسية، وفتح نقاش آني وضروري حول معنى حق كل من الفلسطينيين واليهود بتقرير المصير في القرن الحادي والعشرين – وكيف يمكن التوفيق بينها.
ج: ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(ب. ب. و ل. ف.): يقدّم الكتاب آراء جديدة ومثيرة للجدل عن الروابط بين معادة السامية وبين رهاب الإسلام، كما أنّه يسائل القوميات الأوروبية والعربية واليهودية بسبل جديدة. إن أكثر ما يقدمه الكتاب من حجج مستحدثة هو أن ثلاث قضايا تبدو غير مرتبطة، وهي القضية الإسرائيلية الفلسطينية، والقضية العربية الإسلامية، والقضية اليهودية، ليست منفصلة عن بعضها البعض. بل هي في الواقع متشابكة بعمق وتنتمي إلى التاريخ ذاته – تاريخ يستمر في تغذية التوتر في كل من الشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة.
أحد نقاط قوة هذا الكتاب هو أنه يرتكز على أكثر من حقل دراسي، تشمل الفكر السياسي كما الدراسات الثقافية، والتاريخ كما الأنثروبولوجيا (علم الإنسانيات). وهو يسعى إلى سد ثغرة في أدبيات الاستعمار الأوروبي، والقوميتين العربية واليهودية، وقضية إسرائيل\فلسطين، عبر دراسة استحالة الفصل بين النضال العربي والنضال اليهودي لتقرير المصير والمساواة السياسية.
ج: كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملكما السابق؟
(ب. ب. و ل. ف.): هذا الكتاب متصّل بشكل وثيق باهتماماتنا المشتركة في استكشاف سبل إنهاء الاستعمار في فلسطين وخارجها. هو يلائم اهتماماتنا البحثية الأوسع التي تتمحور حول كل من: بدائل التقسيم، وإعادة النظر بفكرة الدولة والوطنية الفلسطينية، والدولة الثنائية القومية، والمحرقة والنكبة.
ج: من تأملان أن يقرأ هذا الكتاب، وما هو الأثر الذين ترغبان أن يخلّفه؟
(ب. ب. و ل. ف.): نحن نعتقد أن الكتاب سيهمّ الباحثين والطلاب المعنيين في فهم الرابط بين رهاب الإسلام وبين معاداة الساميّة، عبر شرح الفشل في إنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. كما أنه سيهم القراء الذين يريدون فهم حدود ومخاطر القومية العرقية، يهودية كانت، أو عربية، أو أوروبية. هو يشجّع المساعي لكشف القصص غير المروية عن اليهود العرب، مثلا، ويدعو الباحثين للتحري عن تاريخ مختلف للشرق الأوسط، تاريخ يتسع لمجتمعات مختلفة حرمت من مكانتها في الشرق الأوسط، أو قوّضت بسبب سرديات الهيمنة الكبرى أو الوحدة الوطنية.
نأمل أن يساهم الكتاب في فتح حوارات جديدة حول معنى الحقوق الجماعية والفردية، وحق تقرير المصير، والمساواة في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى إطلاق العنان لنقاشات حول سبل التصالح مع الماضي من خلال بناء حاضر مبني على المساواة والعدل.
ج: ما هي المشاريع الأخرى التي تعمل على إنجازها الآن؟
ب.ب.: يركزّ بحثي الحالي على مشروعي بحث أساسيين. أولا، وفي ظل العودة الأخيرة إلى المبادئ والقيم الليبرالية وإلى إعادة إحيائها، مثل الدستوريّة، وحكم القانون، والهوية المدنية المشتركة، وحياد مؤسسات الدولة باعتبارها حراسا في وجه القبلية والتشتت وغيرها من مخاطر سياسات الهوية، بدأت مشروع بحث يستكشف مساع متعددة لإعادة إنعاش الفكر الليبرالي الديموقراطي. ثانيا، وبعدما وقد اشتركت في إنجاز ثلاثة مجلدات محررة هي: "البديل عن التقسيم"، "المحرقة والنكبة"، و"المسألة العربية اليهودية"، فإن خطتي هي تأليف كتاب أقدم من خلاله، بشكل مكثّف ومتماسكك، نظريتي السياسية حول القومية الثنائية المتساوية.
ل. ف.: يركز بحثي الحالي على معنى الدولة في القرن الحادي والعشرين، عبر النظر بشكل خاص على ضرورة إعادة التفكير بمفهوم الدولة في إسرائيل\فلسطين، وفي الشرق الأوسط بشكل أعمّ. ومنطلقي المركزي هو أنه لا يمكن تجاوز الدولة ولكن هناك حاجة لتطويعها عن طريق إعادة النظر في البنى والوعود القانونية التي تحدد الحقوق العامة والخاصة (المشتركة والشخصية)، وبناء سبل جديدة للمشاركة السياسية، وفهم الاقتصاد السياسي المتغير في المنطقة.
وأعمل أيضا على مذكّرة ترتكز على معنى فلسطين، معنى يستكشف الروابط بين الشتات وبين أرض فلسطين والذين يعيشون فيها اليوم، ويكشف كيف ولماذا تهم فلسطين الذين يعيشون خارجها والذين يعيشون داخلها بما يتجاوز مجرد مفهوم رومانسي عن الانتماء والعودة.
ج: يقترح العنوان الفرعي للكتاب "جغرافيات الاشتباك في فلسطين وما بعدها" أن تركيزكما يتجاوز فلسطين. كيف ذلك؟
(ب. ب. و ل. ف.): يدعو الكتاب إلى نقاش حول كيف أنّ فلسطين لا تهم فقط دول الشرق الأوسط الأخرى بل هي مازالت مركزية أيضا بالنسبة لمسعى أوروبا للتعاطي مع ماضيها الاستعماري الخارجي والداخلي ومشكلاتها المتعلقة بمعاداة السامية، والاستشراق ورهاب الإسلام. وهو بالتالي يُشرك القارئ في تحدّي هيمنة أوروبا الفكرية وقدرتها على الإسكات، كما يدفعنا إلى كشف السبل التي لجأت إليها القومية العربية لإنكار أو إضعاف تنوّع العالم العربي وتراثه الكوزموبولي. يدعونا الكتاب جميعا للتفكير بأننا نحتاج إلى، وبإمكاننا، إعادة إحياء هذا التراث الكوزموبولي وتعزيز حس مواطنة شامل عبر مواجهة ذلك التأريخ الإدماجي بصدق وشجاعة.
مقطع من الكتاب
على امتداد العقدين الماضيين، تأثرت السياسات الشرق أوسطية والأوروبية بثلاثة تطورات حاسمة تستدعي مساءلة المفاهيم الطاغية حول القومية، والمواطنة، وإنهاء الاستعمار. أولا، إن مسألة فلسطين لم تحل بعد. إن استعمار فلسطين الشرس والمستمر خلق وقائع لا تمكن الرجعة عنها) تلقي شكوكا جدية على إمكانية تحقيق التقسيم و "حل الدولتين". في الوقت ذاته، أدى استعمار فلسطين إلى تعميق التداخل بين حيوات الإسرائيليين والفلسطينيين، بما يجعل مسألة حقوق الحاضر والمستقبل للفلسطينيين واليهود متلازمة لا يمكن فصلها.
ثانيا، إن الانتفاضات العربية التي اندلعت في عدد من الدول في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا في العام 2011، دلّت على تفكك الإيديولوجيات الإدماجية الكبرى مثل العروبة، والبعث، والإسلاموية ، معيدة النظر بالـ "نحن" الجامعة التي توطد المواطنة. أولئك الذين تمرّدوا ضد أنظمتهم الشمولية حملوا أيضا إلى الواجهة حقائق التنوع العرقي والثقافي في مجتمعاتهم، وهو تنوع يطالبون به إلا أن أنظمتهم الشمولية أنكرت وجوده عبر قمع، أو اضطهاد العديد من الأقليات، مثل الأكراد، الأيزيديين، واليهود العرب، والكلدانيين، أو البربر.
ثالثا، أضحى الإسلام والمسلمون هم تجسيد "الآخر" الداخلي لاسيما في الغرب، ما يطرح تحديات جدية على المفاهيم القائمة للمواطنة والديموقراطية في الغرب. إن بروز مفهومي المركزية الأوروبية ورهاب الإسلام في المواطنية مرتبط بالذكريات المكبوتة لـ "الماضي" الاستعماري الأوروبي بالإضافة إلى عولمة السياسة الاقتصادية النيوليبرالية والهبوط المصاحب لها لدول الرفاه الاجتماعي. هي تعكس، مع ذلك، رابطا فكريا وتاريخيا وثيقا بين رهاب اليهود وبين رهاب الإسلام في أوروبا، وهو رابط لم يتم دائما تقصيه بما يكفي.
وقد درس الكثير من الباحثين الأسباب التي أدت إلى هذه التطورات. جيلبير أشقر، مثلا، يناقش أن الجذور العميقة للانتفاضات العربية تكمن أساسا في سمات اقتصادية محددة تميز هذه المجتمعات، وليس في تفسيرات سياسية أو ثقافية تبسيطية. أما شولتو بايرنز فيؤكد أنه يتم تطبيع رهاب الإسلام في أوروبا من قبل مثقفين يحتقرون الإسلام والمسلمين على أنهم غرباء ودخلاء على أوروبا. من جهتها، تعارض فيرجينيا تيلي تقسيم الأراضي كالوسيلة الأفضل للاستجابة لطلبات تحديد المصير لمشروعين عرقيين-وطنيين متنافسين، وتدعو في المقابل إلى نماذج سيادة مبنية على توحيد سياسي لا إستعماري مستندة إلى الحقوق الفردية. وتقدّم وجهات النظر هذه تحليلا نقديا ضروريا جدا، يتجاوز الخطابات السائدة حول الانتفاضات العربية، ورهاب الإسلام في أوروبا، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني. إلا أنّها أغفلت الروابط الأساسية بين هذه التطورات المفترض أنها غير مترابطة، والتي تحدث في ثلاثة مواقع جغرافية.
ليس من دراسة قامت باستكشاف التقاطعات بين صعود رهاب الإسلام في الغرب، والفشل في حل الصراع العربي الإسرائيلي، والمعاني السياسية للانتفاضات العربية. كما لم يقم العديد من الباحثين ببحث كيف تتصل هذه التطورات بثلاثة أسئلة يمكن أن تبدو غير متعلقة ببعضها البعض، وهي مسألة إسرائيل- فلسطين، والمسألة العربية- الإسلامية، والمسألة اليهودية. ويجادل هذا الكتاب أن هذه المسائل ليست متشابكة فحسب، بل هي تنتمي إلى التاريخ ذاته – تاريخ يستمر في إثارة التوتر في الشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة. ويسعى الكتاب إلى تسليط ضوء جديد على هذا التاريخ عبر تقديم تحقيق جديد ونقدي "للمسألتين" العربية واليهودية. وعلى وجه التحديد، يطمح إلى مراجعة الروابط العربية المعاصرة مع مسألة الحقوق السياسية اليهودية (كأفراد، ومجتمعات دينية، و\ أو مجموعة وطنية)، في ضوء الصهيونية ومعاداة السامية الأوروبية.
ويبحث الكتاب أيضا الاشتباكات اليهودية بالمسألة العربية، وأساسا كيف تعاملت الأصوات اليهودية الصهيونية وتلك غير الصهيونية مع الوجود الفلسطيني والحقوق السياسية في فلسطين التاريخية. وقد نوقشت هاتان القضيتان السياسيتان الأساسيتان تاريخيا، إلا أنه لم تتم مواجهتهما ببعضها البعض، على الرغم من حقيقة أنهما أصبحتا متداخلين بشكل وثيق
[ترجمة هنادي سلمان]