مثلما تنعدم الألوان بانعدام الضوء؛ كذلك تنعدم القدرة على استمرارية الحياة بانعدام العزلة والخلوة. لذاك، اطرِدْ كُلّ ما يجبركَ على الوقوف في تجمّع. الإبداع عملية فردية، وليست جماعية، والإنسان أهمّ من الفكرة عكس ما هو شائع (أن الإنسان لا يهم بل أفكاره). الكلمة لها قوة مختلفة، أكثر قوة من الصورة والصوت، وأسرع باختراق العاطفة من الضوء، تنشب ناراً في خلايا الدماغ، لإنارة العتمة الحالكة المحيطة بالفرد كما الأوكسجين، العزلة كفيلة بولادة كلمات تفعل ذلك.
الوقوع في شرك التقليد أمر لا بد منه، إلّا إذا كنت ذو فكرٍ فردي وعزلة صاخبة، التقليد والمألوف جسدان دون شكل، لا أحد يعرف لهما وجهًا ولا طولاً، لكنّهما أكثر فتكاً من كل الأسلحة، ينسلان إلى داخل روح الإنسان فيضطر إلى أن يسلك الطريق الوحيد، لا ضير في أن تسلك طريقاً شائكاً أو ترابياً أو لعيناً، ما يهم، أن تفعل ذلك بطريقتك، باختلافك، بمكانك خارج دائرة التكرر.
سيحاول معك الجميع -لظنِّه-أن الاختلاف خروج عن المسار الصحيح، وانحرافٌ وكفرٌ وعربدة. حتى سيصل الأمر إلى الأذى الجسدي، عليك أن تحتمل، لكيلا تحترق روحك تحت حمم الندم من بركان الوقت فيما بعد.
كل فعل إبداعي هو نتيجة العزلة، حسب نوع العزلة، الجسدية أو الروحية أو القلبية، تختلف نتائجها حسب اختلاف نوعها، لكن في النهاية هو فعل إبداعي، لا يوضع ضمن خانة التكرار اليومي للدورة الخرائية.
يظل المرء بعيداً عن الاستمتاع حتّى يجُنَّ، حتى يفقد التحكم بنفسه، وبمفهوم العقل السادي، أن (العاقل) حسب الجميع، هو مَن يولد ويدخل في معمل (الأبوية) إلى أن يصبح باباً خشبياً يفتحه مَن يشاء ويغلقه من يشاء، يقلد من يرى لملء الفراغ في داخله.
ثم يدخل معمل (المدرسة) حتّى يفقد طريقته في الحياة، ويصير لزومًا عليه -بدءاً بقَصَّة الشعر، إلى طريقة الوقوف والجلوس- بتقليد ما يقارب ألف شخص.
ثم يدخل معمل (المجتمع) ومفهوم العيب والخجل والسريّة والثرثرة. يصل به الأمر إلى التفكير في الأنتحار هربًا من قطيع الذئاب، ثم يستسلم للأمر الواقع، ويصبح (عاقِلاً).
ثم أخيرًا، يدخل معمل (الدين) والّذي يجد أمامه ألف طريقة تؤدي به إلى نفس النتيجة (الهاوية).
هذا لا يعني أنني ضد الأديان. ولكنني ضد حمل الدين كحاجة شخصية وإدخاله في كل التفاصيل، حتّى صار تبادل الكلام يجب أن يكون مع شخص من دينك، تبادل الطعام، تبادل الغرفة و و.
لأسبابٍ لا تنتهي، ونتيجة واحدة (انعدام الشخصية الفردية الإبداعية) يحتاجُ المرء إلى العزلة.
يقول كازنتزاكيس في نيتشه:
"ما الذي قام به هذا النبي؟ وما الذي طلب منَّا أن نفعله بالدرجة الأولى؟ طلب منَّا أن نرفض العزاءات كلَّها: الآلهة والأوطان والأخلاق والحقائق، وأن نظلَّ منعزلين دون أصحاب ورفاق، وألا نستعمل إلا قوتنا، وأن نبدأ في صياغة عالم لا يُخجِل قلوبنا."
كازانتزاكيس، انعزلَ، ثُمّ قدّم للبشرية رواية تستمد قواها من عذاب الإنسان فيها، وتواصل طريقها الشاق؛ بقطع طرق السطحية والتفاهة المحتلة للمشاهد في كل الأزمنة والأمكنة.
(إن كان ما نملكه من المال يضعنا في خانة الأغنياء فما أفقرنا يا ولدي!)
أقول ذلك لنفسي، لا أنكر حجم سذاجة الجملة، ولكنني أيضاً لا أنكر العقلية المتكررة التقليدية التي تتحكم بمشاهد المسرحية الهزلية التي تسمى (الواقع)، صدفٌ عبثيةٌ تتحكم بمسارات حيواتنا، كأن الخجل والأدب والفن صار عيبًا. صار عيباً ألا تملك المال لتذليل من لا يملكه. صار عيباً ألا تضرب زوجتك لكي تصبح (رجلًا). صار عيباً ألا تخدم النساء وألا تعملن طوال النهار والليل في الفراش. صار عيباً أن يختار الإنسان قراراته؛ لوجود أكثر من عشرين شخصًا حول كل إنسان لأتخاذ قراره.
الليل حديقة تطلُّ على الفراغ، الذي يحتاج المرء لملء ذاته، يحتاج الفراغ؛ لأنّ الفراغ له قدرة استيعابية تُمَكِنه من استقبال الفن، أو الاختلاف.
(لظلام يتشوَّفُ أوان غياب الشمس، حتّى يبدأ ببسطِ شبكته على جسد العالم. كُنْ مِثل الظلام يا ولدي؛ أنتظر فرصتك. وحين توهب لك: دع روحك تنفجر كما الظلام. كُن متأهبًا أبدًا لأستغلال الموقف، وإن لم تفعل، كما الليالي القمراء، التي يفقد فيها الظلام هويته، ستفقد كينونتك، ومعنى وجودك).
أقولُ ذلك لنفسي، كيف يمكنني أن أنال ما أسعى له؟ إلى ماذا أسعى؟ لستُ أدركُ حقًا، لكنني أدركُ؛ أنني حتّى لو لم أفعل شيئًا(مهمًا) بالمعنى الشائع، فإنني لن أدخل في المعامل.