قضية الصحراء الغربية والضغوطات المغربية على إسبانيا

قضية الصحراء الغربية والضغوطات المغربية على إسبانيا

قضية الصحراء الغربية والضغوطات المغربية على إسبانيا

By : Arabic Editors

إغناسيو سيمبريرو

تود الرباط أن تحذو الدول الأوروبية حذو الولايات المتحدة الأمريكية، التي اعترفت بالسيادة المغربية على المستعمرة الإسبانية السابقة للصحراء الغربية. ولا تتردد المغرب في استعمال كل الوسائل لهذا الغرض، بما في ذلك ربما فتح المجال أمام الهجرة غير الشرعية نحو جزر الكناري الإسبانية. خاصة وأن الرأي العام في إسبانيا يميل إلى حد ما لجبهة البوليساريو.

انتقل ناصر بوريطة فجأة من العربية إلى الفرنسية. مع أنه خلال هذا المؤتمر الصحفي ليوم الجمعة 15 يناير/كانون الثاني 2021 بالرباط، لم يُطرح أي سؤال على وزير خارجية المغرب بهذه اللغة. تغيير اللغة يعود إذن دون شك لإرادته تبليغ رسالة إلى أصدقاء الرباط الأوروبيين.

“على أوروبا أن تخرج من منطقة الراحة وتتبع ديناميكية الولايات المتحدة” التي اعترفت في 10 ديسمبر/كانون الأول 2020 بسيادة المغرب على الصحراء الغربية مقابل إقامة علاقات دبلوماسية بين الرباط وتل أبيب. وقد أضاف بوريطة: “يجب أن يكون جزء من أوروبا أكثر جرأة لأنه قريب من هذا النزاع”، ليختتم هكذا مؤتمرا ترعاه وزارته بمعية الخارجية الأمريكية لدعم خطة الاستقلال الذاتي للصحراء الغربية تحت السيادة المغربية. وهو مخطط تقترحه الرباط منذ 2007 لحل النزاع. شاركت في هذا اللقاء الافتراضي حوالي 40 دولة من بينها دولة أوروبية واحدة هي فرنسا.

بعد أن اعترفت القوة العظمى بالسيادة المغربية وبعد أن أعلنت حوالي 20 دولة إفريقية وعربية عن فتح قنصليات لها في الصحراء الغربية، تريد الرباط استكمال نجاحها بمطالبة القادة الأوروبيين بالسير على خطى الرئيس السابق دونالد ترامب أو دعم مشروع الاستقلال الذاتي على أقل تقدير. المستهدفة الأولى بهذه المطالبة هي إسبانيا، القوة الاستعمارية السابقة.

وتنطوي هذه المطالبة التي يقدمها المغرب على مفارقة. فقد اعترفت الرباط -ولو بشكل مبطن- بكونها ليست سيدة الصحراء الغربية، إذ وقعت اتفاقيتي صيد وزراعة جديدتين في مارس/آذار ويونيو/حزيران 2019 مع الاتحاد الأوروبي تضمنت تمديد التطبيق لهذا الإقليم الذي ليس جزءا من المملكة. غير أن محامي جبهة البوليساريو من مكتب دوفار الفرنسي اعتبروا أن الصحراويين لم يمنحوا موافقتهم. وهكذا طالبوا بإلغاء هاتين الاتفاقيتين لدى محكمة العدل للاتحاد الأوروبي، وكان على هذه الأخيرة أن تصدر حكمها قبل نهاية السنة.

قمة مؤجلة إلى أجل غير مسمى

بدأ الضغط على إسبانيا قبل تلميحات بوريطة من الرباط بكثير. ففي 10 ديسمبر/ كانون الأول، أي في اليوم نفسه الذي قام فيه ترامب بالبادرة نحو المغرب، أجّلت السلطات المغربية القمة الثنائية مع إسبانيا إلى أجل غير مسمى بتعلة وباء كورونا، مع أن رئيس الحكومة المغربي سعد الدين العثماني هو من طالب باستدعائها، حتى أنه أعلن عنها في نوفمبر/ تشرين الثاني عبر التويتر. وبعد 12 يوما من هذا التأجيل، لم يمنع الوباء الملك محمد السادس من أن يستقبل بالقصر وفدا أمريكيا-إسرائيليا يقوده جاريد كوشنر، مستشار وصهر الرئيس دونالد ترامب.

كما وجهت الصحافة المغربية المرتبطة بالقصر الملكي المغربي أصابع الاتهام نحو إسبانيا، إذ كتب موقع “360” -الجريدة الرقمية الأقرب إلى القصر- بخصوص الندوة: “لاحظ العديد من المراقبين بأن غياب إسبانيا كان ملفتا، وهو ما تأسف له العديد من الدبلوماسيين المغاربة”. وأضاف “الكوليماتور”، أحد المواقع المغربية التي لا يقرؤها أحد ولكنها تستعمل أحيانا لتمرير رسائل، بأن الدبلوماسية الإسبانية وبوديموس، حزب أقصى اليسار المشارك في الائتلاف الحكومي، “اتفقا على القيام بحملة لدى إدارة بايدن ضد الاعتراف [من طرف الولايات المتحدة] بمغربية الصحراء”.

حرج الحكومة الإسبانية

تجد الحكومة الإسبانية نفسها في حرج أمام الطلب المغربي، فهي تخشى تصعيد الرباط الذي قد يتسبب في أزمة هجرة كبيرة أو توقف التعاون في مكافحة الإرهاب كما فعلت ذلك في أغسطس/آب 2014. وقد دعم الاشتراكيون الإسبان لمدة طويلة ضمنيا حل النزاع المقترح من طرف الرباط حتى وإن كان الاستقلال الذاتي الذي تمنحه للصحراء محدودا جدا مقارنة بذلك الذي تتمتع به المقاطعات في إسبانيا. ولكنهم لا يجرؤون على قول ذلك علنا، لأن الرأي العام الإسباني ما زال متعاطفا مع جبهة البوليساريو، كما يواصل حزب بوديموس دعمها، ويؤكد قائده بابلو إيغليسياس بانتظام على حق الصحراويين في تقرير المصير.

غادرت إسبانيا على عجل الإقليم الذي هو بحجم المملكة المتحدة في عام 1975، عندما اجتاحت الصحراء “المسيرة الخضراء” التي نظمها الحسن الثاني في وقت كان فيه الجنرال فرانكو يحتضر بمدريد. وقد سلمت ثلثي الإقليم إلى المغرب والثلث المتبقي إلى موريتانيا. لكن هذه الأخيرة انسحبت تحت ضربات البوليساريو سنة 1979 وقام الجيش المغربي بسرعة بالاستيلاء على الجزء الموريتاني. وبعد 16 عاما من الحرب، أبرم المغرب والبوليساريو اتفاقا تحت رعاية الأمم المتحدة سنة 1991، ينص على وقف إطلاق النار وإجراء استفتاء على تقرير المصير. لم يتم هذا الأخير لأن الرباط لم تعد ترغب فيه واستأنفت الحرب منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ولكن على نطاق ضيق.

بعد أن اعترفت القوة العظمى بالسيادة المغربية وبعد أن أعلنت حوالي 20 دولة إفريقية وعربية عن فتح قنصليات لها في الصحراء الغربية، تريد الرباط استكمال نجاحها بمطالبة القادة الأوروبيين بالسير على خطى الرئيس السابق دونالد ترامب أو دعم مشروع الاستقلال الذاتي على أقل تقدير. المستهدفة الأولى بهذه المطالبة هي إسبانيا، القوة الاستعمارية السابقة.

تعتبر مدريد أنها تحررت من كل مسؤولية لها في الصحراء منذ الرسالة التي سلّمها سفير إسبانيا لدى الأمم المتحدة في 26 فبراير/شباط 1976 إلى الأمين العام كورت فالدهايم. وقد ذكّرت الحكومة الاشتراكية بذلك مرة أخرى في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 في رد مكتوب على النواب. غير أن وكيل الأمين العام للشؤون القانونية هانس كورل ناقض في 2002 الموقف الرسمي الإسباني. ففي رأي قانوني أصدره بناء على طلب من مجلس الأمن، أكد بأن إسبانيا لا زالت السلطة المديرة للإقليم.

مهاجرون عالقون في جزر الكناري

بدأت المفاوضات الثلاثية بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل عند نهاية الصيف الماضي، وفقا لمصادر دبلوماسية، تماما في الوقت الذي تفاقمت فيه الهجرة غير الشرعية إلى جزر الكناري. ففي عام 2020، وصل إلى الأرخبيل 23 ألف و23 مهاجرا غير شرعي عن طريق البحر، وعلى الخصوص خلال الثلاثي الأخير. يزيد هذا الرقم بنسبة 757 % مقارنة بـ2019. ويمثل المغاربة الأغلبية البسيطة منهم. وقد غادروا -مثل عدد لا بأس به من سكان جنوب الصحراء- انطلاقا من سواحل الصحراء الغربية، وهي ظاهرة غير مسبوقة، بينما كانت قوارب المهاجرين غير الشرعيين تبحر في الغالب من موريتانيا والسنغال خلال أزمة الهجرة السابقة في 2006.

وتختلف مواصفات المهاجرين المغاربة الذين نزلوا بالجزر عن أولئك الذين يعبرون مضيق جبل طارق (3850 مهاجرا سنة 2020) ليلتحقوا بشبه الجزيرة الإيبيرية. فهم أكبر سنا بقليل وغالبا ما تجدهم عملوا في المغرب في المطاعم أو القطاع السياحي ويمتلكون أحيانا جواز سفر لامع جديد. هم عاطلون عن العمل منذ عدة أشهر بسبب الأزمة الناجمة عن الوباء وقد خاطروا بالمغامرة في عبور الأطلسي. وقد كانت الداخلة في جنوب الصحراء نقطة انطلاق 68% منهم في نهاية ديسمبر/كانون الأول، بحسب الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود فرانتاكس.

يتساءل الدبلوماسيون الإسبان الذين يتابعون الملف المغربي عن قرب عما إذا كان لا يجب إضافة سبب آخر إلى التفسير الاقتصادي البحت للهجرة نحو جزر الكناري. وق هذه القراءة، تكون الرباط هي التي تسمح لمواطنيها بالذهاب انطلاقا من الصحراء قصد انتزاع التفاتة دعم لعرضها بالحكم الذاتي من إسبانيا. ومهما يكن، يعد هذا الإقليم الصحراوي المتربع على مساحة 266 ألف كلم² إحدى المناطق الأكثر مراقبة في العالم. إذ ينتشر فيه ثلثا الجيش المغربي، يضاف إليهم الدرك والشرطة والقوى المساعدة التي تستعمل لإخماد أي بادرة احتجاج من قبل الصحراويين.

تطرح الهجرة غير الشرعية الضخمة إلى جزر الكناري ثلاث مشاكل للحكومة الإسبانية. ففي غياب مخيمات الاستقبال ـوتلك التي أقيمت على عجل لا تمكن من احنتواء سوى 600 حالياـ، تم إسكان 7500 مهاجر في فنادق خالية بسبب غياب السواح. وهذا من شأنه أن يخلق توترات مع السكان المحليين بتشجيع في بعض الأحيان من رؤساء بلديات شعبويين.

من جهتها تحاول وزارة الداخلية الإسبانية قدر المستطاع أن تبقي المهاجرين في جزر الكناري، وهو ما يتعارض مع رأي كتابة الدولة للهجرة. فمنع المهاجرين من مغادرة الجزر له أثر رادع على المهاجرين المحتملين في المغرب الذين يحلمون بالوصول إلى أوروبا القارية. وفضلا عن ذلك، هناك بلدان أوروبية -مثل فرنسا- تلح على إسبانيا كي تحتفظ بهم في الأرخبيل، لأنه بمجرد وصولهم إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، سيسعى جزء كبير منهم إلى عبور جبال البرانس، الموجودة على الحدود الإسبانية-الفرنسية.

فرنسا تغلق جبال البرانس

ليس المغاربة هم من يحاولون بأعداد كبيرة الالتحاق بفرنسا بل الجزائريون. ففي سنة 2020، وصل 11450 منهم -وهو رقم قياسي آخر- إلى إسبانيا عن طريق البحر، منطلقين من سواحل وهران ومستغانم. وهم ينزلون بشكل رئيسي بألميريا ومورسيا. وفي محاولة لمنع المهاجرين غير الشرعيين من الدخول إلى فرنسا، قام محافظا منطقتي غارون العليا والبرانس الشرقية بغلق خمس نقاط عبور مع إسبانيا في بداية يناير/كانون الثاني. وبرر إيتيان ستروستكوبف، محافظ البرنس الشرقية، قراره قائلا إنه “يتم يوميا اعتقال ما بين 30 و50 شخصا في وضع غير شرعي منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني (2020)”. وقد انتقل الرئيس إيمانويل ماكرون خلال ذلك الشهر إلى بلدية لو برتوس بمنطقة البرانس الشرقية ليعلن أنه سيتم مضاعفة أعداد الشرطة والدرك وأفراد الجيش المنتشرين على الحدود ليصلوا إلى 4800 عنصر.

لمدة تقارب التسعة أشهر، رفض المغرب إعادة توطين ولو واحد من مواطنيه الذين حلوا بصفة غير قانونية بإسبانيا. وبعد أن انتقل وزير الداخلية الإسباني فرناندو غراندي ـ مارلاسكا إلى الرباط في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، أعطى نظيره المغربي عبد الوافي لفتيت الضوء الأخضر بعودة شحيحة جدا. يتم إعادة توطين بين 60 و80 مهاجرا مغربيا كل أسبوع عبر رحلة طيران منتظمة من لاس بالماس مع مرافقة شرطيين إسبانيين لكل واحد منهم. وهو عدد قليل جدا بالنظر إلى أولئك الذين وصلوا أو يستمرون في الوصول، غير أن وزارة الداخلية تأمل في أن يؤدي التداول الشفهي لهذه الترحيلات القسرية إلى تغيير رأي أولئك الذين يستعدون للإبحار.

[ترجمة هذا المقال من الفرنسية حميد العربي.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬