تبدأ إشكالات نص «أنوم ألش» (حينما في العُلى) قبل قراءته. يُقدَّم النص أحيانًا بكونه «قصة خلق» أو «سِفر تكوين»، ويُقدَّم غالبًا بكونه «ملحمة خلق»، مع أنّه ليس ملحمة أو مرتبطًا ارتباطًا مباشرًا بالخلق. ما من تعريف صارم للملحمة، قديمًا أو حديثًا، ولا يقتصر التّعريف على القصائد الشعريّة بطبيعة الحال أيًا يكن طولها؛ «إلياذة» هوميروس ملحمة، وكذا هي «موبي دك» ملڨل، أو «قصر المطر» لممدوح عزّام: نص پانوراميّ شاسع يرتبط بالضّرورة بوجود «أبطال»، قد يكونون بشرًا أو مكانًا أو سردًا. ولكنّ هذا التّعريف، وأيّ تعريف آخر على الأرجح، قاصر. ما الپانوراميّة؟ ومتى يكون النص شاسعًا؟ ليس الطول وحده مقياسًا، إذ إنّ «الحاج مراد» أو «النّهايات» لا تقلّان ملحميّة - برأيي - عن «الحرب والسّلم» أو «مدن الملح». لعلّ أسلم تعريف للملحمة هو نبذ تعريفها، إذ سنعرفها حين نلقاها، ستهيمن علينا حين التلقّي. ولعلّ هذه الهيمنة هي ما تجعل الملحمة ملحمة، حين نقارنها بغيرها. «أنوم ألش» ليست ملحمة حين نقارنها بـ «گلگامش» مثلًا، أو «لوگلپاندا»، لو بقينا ضمن سياق الأدب الرافديّ، وإن كان باحثون عديدون يفضّلون عدّها ملحمةً مغايرةً للمفهوم الملحميّ السائد، ولكن بتبريرات ليست شديدة الإقناع، من ناحية أنّها هي أيضًا نص شفهيّ يتناول الآلهة. ولكنّ الفارق الحاسم بين «أنوم ألش» و«گلگامش» يكمن في آليّة ترنيم هذا النص أو ذاك. لا نعلم سبب تأليف «أنوم ألش»، إلا أنّه بات لاحقًا محصورًا باحتفالات عيد رأس السنة البابليّة في نيسان/أبريل، حيث يُحتفى بالملك ويُعاد تجديد عهوده، بخلاف «گلگامش» مثلًا التي كانت أقرب إلى مفهوم «السيرة الملحميّة» التي تُرنَّم في احتفالات مختلفة، لا ترتبط بالضرورة بماهيّة الحُكم أو عهود الملك، بصرف النّظر عن وجوده فيها، وانتقلت لتصبح «ملحمةً شعبيّة»، مثلها في هذا مثل قصائد هوميروس، أو السير الشعبيّة العربيّة مثل «الزير سالم» و«سيرة بني هلال». وهي غير مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالخلق، لأنّ ثيمة الخلق ليست حصريّة فيها. ليست قصةُ الخلق إلا تفصيلًا واحدًا (مهمًا بلا شك) من بين تفاصيل أخرى كثيرة تبدأ وتنتهي بمردوخ الذي يُعرِّف نص «أنوم ألش» بالمطلق، لأنّ النص، في حقيقة الأمر، أقرب إلى كونه توصيفًا لـ «سيرة» حياة الإله مردوخ، ونَسَبه الإلهيّ، وصولًا إلى تكريسه ملكًا على الآلهة البابليّة، بالتزامن مع خلقه للكون وإشرافه من ثمّ على خلق الإنسان. لم يكن التقديم الملتبس لهذا النص مقتصرًا على القرّاء العاديّين غير المتخصّصين، إذ إنّ معظم الترجمات (الأكاديميّة) تُقدِّم النص بكونه «ملحمة الخلق البابليّة»، بألف ولام التعريف، بحيث يُفهَم خطأً بكونه النص الوحيد المتعلق بقصص الخلق، بينما هو، في واقع الحال، نصٌّ واحد من بين نصوصٍ عديدة تناولت مسألة خلق الكون وخلق الإنسان، إما كليًا أو جزئيًا. تتسع هذه النقطة فتصل إلى خطأ سائد آخر في التعامل مع هذا النص. تُرجم النص وقُدِّم، في الغالب الأعم من الحالات، لا من أجل قيمته بذاته، بل من أجل مقارنته مع «سفر التكوين» في الكتاب المقدّس، وكأنّ المطلوب من النص وترجمته مجرّد تسجيل نقاطٍ ضد الأديان الإبراهيميّة التوحيديّة لإثبات خطأ أو زللٍ أو سرقةٍ فيها، بينما المفروض أن يُعامَل هذا النص، كغيره من النّصوص الأدبيّة، بكونه نصًا جماليًا قبل أيّ شيء آخر، من دون تجاهل السياقات السياسيّة والاجتماعيّة التي نشأ فيها النصّ وتطوَّر. وسأحاول هنا مقاربة النص من الزاوية الجمالية الصرف ومن زاوية أخرى ترتبط بمفهوم «خلق الطاغية» وامتدادات المفهوم ثيولوجيًا وسياسيًا.
تبدأ جماليّة أنوم ألش من الافتتاحيّة. كانت عناوين معظم النّصوص القديمة (بما فيها القصائد العربيّة، على سبيل المثال) تُوضَع بناءً على أول علامتين (صوريّتين أو صوتيّتين أو كلمتين لاحقًا) في افتتاحيّاتها. «أنوم ألش» تعني «حينما في العُلى»؛ وهي متمايزة عن افتتاحيّات كثيرٍ من النصوص الرافديّة الأخرى ذات الافتتاحيّات التقليديّة:
حينما في العُلى ما سُمِّيت السّماوات بعد
ولا الأرضون في الدُّنى أسماؤها نُطقتْ
يبدأ النص من المجهول المطلق، حيث لا أسماء ولا كون. الأسماء، هنا، تُعادِل الخلق. لا خلق بلا أسماء، حيث النُّطق والجهر بالاسم هو ما يجعل الخلق خلقًا ويعطيه بدايته. ولن تكون السماءُ سماءً، ولا الأرضُ أرضًا إلا حين تُنطَق الكلمة بخلقها لاحقًا. الاسم هنا يعني التّمايز، وكلّ ما لا اسم له لا قيمة متمايزة له، بل سيكون مجرّد رقمٍ آخر في ألواح الأرشيف، كما نجد بالنسبة إلى الجبال التي بقيت بلا اسم، بينما عُرِّف نهرا الفرات ودجلة ومُيِّزا حينما نبعا من عَيْنَيْ الإلاهة تيامة وهما يحملان اسميهما وأهميّتيهما، بل قدسيّتيهما. وبالمقابل، كلّ اسمٍ جديدٍ يعني صفةً جديدةً، والصفة بدورها تعني قوّةً إضافيّةً، بحيث تتعاظم المكانة بتعاظم تراكم الأسماء. ولهذا كان من الطبيعيّ أن يترافق تتويج مردوخ ملكًا على الآلهة بمنحه خمسين اسمًا. لم يكن اختيار الرقم اعتباطيًا، لأنّ الرقم ذاته هو رقم الإله إنليل السومريّ الذي كان يتسيّد الپانثيون السومريّ؛ فالمعنى هنا: انتقال قوّة وسلطة إنليل (والسومريّين) إلى مردوخ (والبابليّين)، أو إلى آشور (والآشوريّين) في النسخة الآشوريّة من النص. تلك الأسماء الخمسون هي المصدر الجوهريّ لقوّة مردوخ ولشرعيّته، إضافةً إلى الشرعيّات الأخرى التي اكتسبها بطرق عديدة، كما حدث حين قتل تيامة، ومن ثمّ خلق السماء والأرض والأنهار والينابيع والجبال من جسدها، أو حين شهد تكوين الإنسان من دم كِنْگو (وهنا أيضًا لم يصبح الإنسان إنسانًا إلا حين نطق مردوخ: «فلأهيِّئ الإنسان الأوّليّ: الإنسان سيكون اسمه»)، أو حين قسّم السنة والفصول ونظَّم مسار النجوم والأشهر والأيام. وتتعاظم قوّة الاسم مع تعاظم قوّة ناطقه، لذا كانت بابل أعظم المدن (في أنوم ألش) لا لأنّها «مركز الدين» أو مركز الكون، بل - بالذات - لأنّ مردوخ هو من جعلها مركزًا، وأسبغ عليها اسمًا.
تتعزّز فكرة أنّ النص متعلّق بمردوخ أكثر من كونه قصة خلق في أنّ مردوخ لم يكن قبل هذا النص إلا إلهًا صغيرًا مغمورًا في الپانثيون البابليّ. وبهدف تكريس أهميّته كان لا بدّ من فعلٍ يبرّر تتويجه، وهذا الفعل كان القتل الوحشيّ لتيامة. هذا ما يتّفق عليه جميع الباحثين والقرّاء، غير أنّ الاختلاف يتفرّع بشأن سبب هذا القتل. يمكن لنا أن نقرأ هذا الصراع، كغيره من الصراعات المماثلة في الميثولوجيات اللاحقة: صراع فرويديّ نموذجيّ بين جيلين من أجيال الآلهة، ينتهي بانتصار الجيل الجديد الذي يقتل آباءه أو يكتفي على الأقل بتنحيتهم من مكانتهم العليا، وإحلال أنفسهم محلّهم، مع الحرص على عدم تكرار هذا الانقلاب العائليّ. وهنا، لم يكن قتل تيامة إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة إنهاء الحُكم القديم للآلهة انطلاقًا من قتل أبسو زوج تيامة وبداية حُكم الآلهة الجدد الذي اختُتم بتتويج مردوخ ملك الآلهة وأصغرهم سنًا. هذا ما نجده في «ثيوگونيا» هسيوذوس أيضًا، مع تقلُّب السُّلطة من أورانوس إلى خرونوس إلى زيوس، مع فارق أنّ الإلاهة الأم كانت الحامي الجوهريّ لهذه الانقلابات، حين سعت بقوّة إلى تكريس سُلطة الأبناء، من دون مواجهةٍ صريحةٍ للآباء. بمعنى ما، كانت «ثيوگونيا» هسيوذوس أوّل تجسُّد من تجسُّدات السُّلطة الخفيّة لنساء الحُكم، حيث تسعى النّساء إلى التخلّص من الطاغية الأكبر لتكريس سُلطة طاغية أصغر يكون أحد أبنائها على الأغلب. تيامة هنا، كانت تحمي أبناءها أيضًا، إلا أنّ الفارق هو أنّ الإلاهات الأخريات سعين إلى تكريس سُلطة الأبناء بالتّحريض على قتل الآباء، بينما كانت تيامة الحامية السِّلْميّة للأبناء من بطش الآباء. كانت تسعى إلى إقامة توازن مستحيل بين سُلطتين، وعملت جاهدةً على تبديد مخاوف الأب من تعاظم سُلطة الأبناء، و- في الوقت ذاته - على تهدئة تمرّد الأبناء الذي لم تكن تعلم أنّها ستكون ضحيّته الكبرى. اكتفت الأرض ورِيا عند هسيوذوس بالتّحريض على الانقلابين، ثمّ انسحبتا من الصراع كليًا الذي بات مقتصرًا على الآلهة الذكور، بينما أُرغمت تيامة على الدخول في الصراع (الذي تجنّبته بالمطلق)، ومن ثمّ على الخروج منه بالقتل. ونكاد نظنّ أنّ قتلها كان السبب الجوهريّ لهذا الصراع، إذ كانت تمثِّل الرمز الأنثويّ الإلهيّ الذي كان يتوجّب التخلّص منه لتكريس ألوهيّة ذكوريّة مطلقة على يد مردوخ الذي كانت ولادته نتيجة المضاجعة بين إيا ودمكينا داخل جسد أبسو المقتول. يدلّنا مردوخ بنفسه على السبب الأساسيّ لقتل تيامة حيث يخاطبها أثناء مواجهتهما الأخيرة: «جعلتِ كنگو عشيقًا لكِ/ نصَّبْتِهِ كي يأخذ سُلطة آنو/ التي لا يجدر به تقلُّدها». لم يكن الهدف تكريس أيّة سلطة ذكوريّة، بل تكريس سُلطةٍ ذكوريّة بعينها: سلسلة النَّسَب التي ستُختَتَم بمردوخ حصرًا، أما كنگو فدخيل على هذا النَّسَب الإلهيّ، تحديدًا لأنّ إلاهة أنثى قلَّدتْه السُّلطة، متمرّدةً بالتالي على سُلطة التوريث التي كانت وما تزال تسم جوهر سُلطة الطاغية. مردوخ هنا، أحد التجسُّدات الأولى لسُلطة الملوك/الآلهة من البشر اللاحقين. زعماء يُورِّثون سُلطتهم لأبنائهم حصرًا، لأولياء عهدهم، حيث نحتفي بديمقراطيّة الملوك والسلاطين حين تنتقل السُّلطة بسلاسة من الأب إلى الابن، أو حين يمنّ السلطان على شعبه بتعيين وليّ عهد هو ابنه طبعًا. يستمدّ الملوك سُلطتهم من الآلهة، مع فارق أنّ السلطان ليس قائدًا خالدًا بالرغم من ارتدائه زيّ سُلطة الخلود، بينما كان مردوخ خالدًا حين سعى عامدًا إلى إنهاء سلسلة السُّلطة به هو فقط. صحيح أن لدينا نصوصًا تعتبر نَبُو ابنًا لمردوخ، ولكنّ معظم النصوص الأساسيّة تشير صراحةً إلى أنّه وزيره، أو أنّه كان وزيره ثم أصبح ابنه. وحتى لو أدرجنا تلك النصوص التي تكرّسه ابنًا، سنلاحظ أنّه لم يرث قوّة مردوخ وأسماءه (على عكس ما يحدث في «أنوم ألش» صراحةً، حين يكون أيّ إله ابن أقوى من أبيه)، بل بقي مختصًا بالكتابة عمومًا؛ وحتى حين توسّعت اختصاصاته، بقيت متمحورةً حول الكتابة، حين يكون حاميًا للقلم أو الكتّاب (لا، ليس مثقّفي السلطان حصرًا، وإنْ كانت الفكرة شديدة الإغراء حين يكون «وزير الثقافة» الابن الأوحد للملك/الإله). أما الولد الآخر لمردوخ فهي تشمِتُم، وهي إلاهةٌ ثانويّةٌ لم تتعدّ أهميّتها استدعاءها في بعض الترانيم الدينيّة الصغيرة.
تغرينا فكرة ارتباط الكتابة بالسُّلطة لقراءة الپروپاگاندا التي استند إليها مردوخ في حربه ضد تيامة وفي تكريس عرشه بالنّتيجة. تطوَّع مردوخ، من بين جميع الآلهة، لقتال تيامة وجيشها المرعب، مستخدمًا السّلاح الذي لا يخيب لدى السُّلطة: المؤامرة. حشد مردوخ لقتال تيامة مستعينًا بتلفيق أسباب هذه الحرب التي لم تكن تيامة أول من أشعلها، بل كانت تنتقم لزوجها أبسو. وبالرغم من أنّ «أنوم ألش» عُدلِّت بحيث تلائم توصيف سيرة مردوخ البطل الحقّ الذي لا يُقهَر إلا أنّها غفلت عن تفاصيل صغيرة في اللوح الأول تتناقض مع الأسباب التي لجأ إليها مردوخ في الألواح الستّة التالية (الأربعة فعليًا، لأنّ اللوحين الأخيرين لا يرتبطان بالحرب، عدا عن كونهما إضافتين لاحقتين على النص كما يشير باحثون عديدون). نعلم من اللوح الأول أنّ تيامة سعت جاهدةً كي تُطفئ غضب أبسو على أولاده، إلا أنّهم قتلوه. فكان لا بدّ من الانتقام. اللافت أنّ مردوخ، في اللوح الثالث، يختلق كذبة گوبلزيّة كبرى كي يُحرِّض باقي الآلهة على التعاون معه لقتال تيامة، إذ ادّعى أنّها هي - لا هم - من انقلبت ضدّهم؛ ويدّعي، في اللوح الرابع، أنّها لم تمنحهم العطف الأموميّ مع أنّ كلّ ما فعلوه كان إقلاق راحتها وراحة زوجها، مع أنّ المستمعين يعلمون من اللوح الأول أنّ تيامة بالذات هي من كانت تعطف على أبنائها ورفضت خطط أبسو لقتلهم. ولكنّ پروپاگاندا المؤامرة ذاتُها لدى جميع السُّلطات الإلهيّة وشبه الإلهيّة: اكذب الكذبة الكبرى واحشد جيشك، وسينسى الناس في خضمّ الحرب وبعدها سبب تلك الحرب أصلًا. ولكنّ المفارقة الجوهريّة هي أنّ مردوخ واصل تلفيقاته حتّى بعد انتصاره وتربّعه على العرش؛ ادّعى، مثلًا، أنّه سيمنح بركته لطلب الآلهة كي يبنوا بابل، مع أنّنا وأنهم وأنّه نعلم أنّه هو كان صاحب قرار بناء بابل. وبذا يحوّل مردوخ أوامره الحربيّة القديمة إلى سماحة السِّلم حيث لا بدّ للملك الآن من منح بركته لاقتراحات أبناء شعبه الذين كانوا آلهة في ما مضى، وتحوّلوا إلى جنود، وواصلوا انمساخهم الأخير الآن إلى رعيّة تلتقط إشارات وليّ نعمتهم وتحوّلها إلى اقتراحات، كي يرضى عليهم ويعيدهم إلى سيرتهم الأولى، أو إلى مكانة تلائم مكانتهم القديمة أو ما يشبهها. الآلهة آلهة في نهاية المطاف حتّى حين يتحوّلون إلى رعيّة أمام ملك الآلهة. كان لا بدّ أن ننتظر قرونًا كي نصل إلى الوحدانيّة الحاسمة التي تفصل فصلًا صارمًا بين حيّز الآلهة، وحيّز البشر. «أنوم ألش» توصيف تاريخيّ للانتقال من التعدّديّة الإلهيّة، إلى التراتبيّة. بقي الآلهة آلهة من دون نسف صلاحياتهم بالمطلق. لم يَعْنِ تتويج مردوخ انتفاءً لأدوارهم بقدر ما كان تنظيمًا لها، ورسم هرمٍ سلطويٍّ يتربّع مردوخ على قمّته بلا مُنازع. أما الإنسان، وهو غائبٌ في هذا النص على عكس نصوص رافديّة أخرى كان فيها ندًّا للآلهة، فليس إلا بيدقًا سيأتمر بأوامر الآلهة، ولن يكون له أدنى دور في هذه الهرميّة، إلا بكونه خُلق ليحمل أعباء الآلهة ويعمل عنهم، حيث تتكرّر دورة السُّلطة، وتتحوّل رعيّة اليوم إلى أسياد الغد حين تُخلَق البيادق. تغرينا، هنا أيضًا، فكرة تأمّل ماهيّة الإنسان الذي خُلِق من دم كنگو، القائد العاصي، قائد جيش تيامة. تغرينا فكرة الخلق من دماء المقتول بأن نراها إشارةً إلى علاقة أزليّة مضطربة بين الإنسان العبد والإنسان المتمرّد الساعي إلى التشبّه بالآلهة. إلا أنّنا أذكى من الوقوع في هذا الفخ الساذج. الإنسان بيدق أمام السُّلطة الإلهية، أكانت تعدّديّة أم وحدانيّة. عمل مردوخ بذكاء على تجنُّب تكرار قصص آبائه: لا ينبغي ترك أيّ مجال للتمرّد. لا تمرّد للإنسان حتمًا، غير أنّ ذكاء مردوخ شمل البشر والآلهة. لا ينبغي لنا نسيان أنّ مردوخ أدرك أنّ تيامة ستبقى مصدر خطرٍ حتّى بعد قتلها، لذا سعى إلى تبديد اسمها وتبديد قوّتها حين حوَّلها (وهي المياه، أصل الحياة) إلى أمواه صغيرة متفرّقة في ينابيع وأنهار وأمطار وغيوم، ولكنْ بعد التأكّد الحثيث من ضبطها وتعيين حرّاس عليها كيلا تتسرّب المياه من مسارها المضبوط، فتتمرّد من جديد.
يُجسّد نص «أنوم ألش» صراع آلهة، تلاه تنظيمٌ و«مأسسة». ولكنّ الهرميّة ذاتها انتقلت لاحقًا إلى البشر حين تكرّس دور الحاكم المطلق الذي يكتسب شرعيّته من الآلهة، إما لكونه أحد أبنائها أو مُفوَّضًا منها (وهنا قد يتعزّز تاريخ كتابة النص في ظل حُكم نبوخذ نصّر). بات هذا الحاكم صورةً مُصغّرةً عن مردوخ، إلهًا صغيرًا يلقي أوامره كي تُطاع. وليس من قبيل المصادفة أن تزدان أختام وشعارات كثيرٍ من الحكّام بإشاراتٍ صريحة أو ضمنيّة إلى «شرعيّةً إلهيّةً» بكونهم يمثّلون سلطة الإله على الأرض، فنسمع أصداءً بلغاتٍ مختلفةٍ لصوت واحد هو صوت مردوخ:
كلامي سيُقرّر القَدَر بدلًا منكم
كلّ ما أخلقه لا يُبدَّل أبدًا
الأمر الذي تنطقه شفتاي لا يُلغى، لا يُغيَّر مطلقًا.