السؤال ليس ما تأخذه الحرب، بل ما تعطيه؟ ماذا تعطي الحرب؟ يومذاك، يوم هبوب رياح الحرب، ماذا حملت غير الخريف والبياض؟ الخريف للأشجار، والبياض للمخيمات.
وقفتَ بوجهِ الريح الهاربة، لم تبح بأي أسرار، هزّت أغصانَكَ وأسقَطَت بعض أوراقك، قبل الخريف، ظننتها تزيلُ عنك الأقنعة لتواجهك بالصِدقِ، لكنّها همست في أذنك بصوتٍ خافتٍ "الغيوم المحتشدة فوق سوداء، هلّا اتسعت روحك لي؟"
دبيبُ خطواتِ المارّة يخترقُ صمتك البحري. أغلقتَ أذنيكَ بليلٍ استعارَ الظلام من قلوب أقرانك البشر. هل تسكتُ؟ أم أنَّكَ تختارُ الترحال عمّا يؤرقك؟
الريحُ ودَّتْ لو أنَّها حملتْ محبّة الغيوم لحقولِ القمحِ، لكنّها بلا أيدٍ، والمحبة ثقيلة، فالتجأت لك، عصفتْ من جانبَي روحك، وهطل المطرُ بغزارةٍ منك.
صارت سماؤكَ صافية، ابتسمتَ لفراشةٍ لقّحت زهرة في بستان الوطن، وددتَ لو تحملها إلى بيتك، لكنّك لم ترضخ لطلباتك وتركتها، حتّى ذبلت، رياح الحرب غلبَت رياحك، وأعادتِ الغيوم السوداء إلى السماء، صار المطر أسود، يُعير الليل من سواده إذا ضعف الليل، ويلوِّحُ للنورِ تلويحة الوداع.
لم تبح رياح الحرب بالأسرار. حملتْ على ظهرها صدى الرصاصة، وهزَّتْ مهد الحياة، كصبيٍ حديث الولادة بكتِ الحياة وصرخت. المهدُ يهتزُّ بقوة بفعل الريح، والمرايا لا تجدُ شيئاً تعكسهُ. فتصيرُ عدمًا يحتارُ أي صمتٍ يختار: صمتَ السماء أم الآلهة، أم صمت المتفرجين من المدرجات؟ هناك من يجلس في المدرجات، يشرب شامبانيا معتّقة، ويتبادل القهقهات مع أقرانه. يتابع صراخ الحياة بلهفةٍ. تتسع عيناه حتى يكاد ألا يكفيها المحجران، ثم يرحل.
لم تذرف دمعًا على ما أقصته الحرب من الوجود. لم تعثر على ما تبكيه. أتبكي وطنك؟ أو بيتك؟ أم عليك أن تبكي أجزاءك المأخوذة من روحك قسرًا بلا نيّة لإعادتها.
جففتَ دموع البيوتِ على حركة الحياة الغائبة فيها. مسدتَ على شعرِ الطرقاتِ لتهدئتها بعد غياب دبيب خطوات المارة. ولوَّحتَ تودِّع الربيع لمغادرته باكياً خاشعاً ذليلا. نخلة بسعفٍ أصفر تقف في وسط الطريق. ترجلت من السيارة واقتربت منها. غطيت أنفك لتحول دون وصول الرائحة النتنة إليه فسمعتها تقول لك بألمٍ في صوتها:" ليس بمقدورك البقاء لدقيقتين دون إظهار الأشمئزاز، أنا هنا منذ ولادتي."
تسقيها ماءً معدنيًا بعشر قنان من السيارة، علّها تغفر لك، فيميل سعفها، بدت لك النخلة تطرق أرضًا دون أن ترفع راسها، تتنهد وتستأنف طريقك في المدينة تقع أمام ناظريك كنيسة مهدمة، عليها صليب مصنوع من عمودَي خشب، الأفقي أكبر من العمودي. تتأمله للحظة وتفكر" كم يحتاج الإنسان من سنوات في السلام ليبني مدينة، ربما قرن، أو قرن ونصف قرن؟ وكم تحتاج الحرب إلى تدمير المدينة؟ عشر دقائق، أو أقل، نعيش كل حياتنا، لنبني بيتاً في مدينة جميلة، نربي حيوانًا لطيفًا ونتخرج من المدرسة، ندخل وظيفة بمرتب جيد، ونتزوج. نفعل كل ذلك لسبب واحد: لاستقبال الموت بطريقة لائقة." تتحسّر على الموتى في المقابر الجماعية، حين زارهم موتهم، لم يجدهم في بيوتهم، هل حزنَ موتهم لأن موتًا آخر سرق أرواحهم؟ حياة من أنهى حين لم يجد المخصصين له؟ الفوضى شملت الموت أيضاً.
نفضت غبار الهجرة عن أرواح المحاطين بك، مخترعاً جمالاً لا أحد يصدقه سواك. أوحدك من ترى؟ أم أنك وحدك لا ترى؟ أوحدك نسيت الحرب؟ أم أنك وحدك من تعيش في وقتٍ سبق الحرب؟ في "الهدوء الذي يسبق العاصفة"، حكيت للأطفال عن خضرة مدينتهم، واصفًا إياها بأبدع الكلمات. تقص عليهم قصصًا عن النوم على السطح. عن عملية المساج الروتينية لجدتك، وكيف كانت تنام أثناء ذلك. وعن المرجوحة التي علّقها لك أخوك بغصن قويٍ من شجرة التوت في باحة المنزل. عن البيت المكون من صفي غرف متقابلة. عن الرمّان الذي سرقته مع أطفال الحي في نهارات الصيف، والكستناء والبلوط. تريهم ندبة على ظاهر يدك اليمنى، وقعت عليها ثمرة بلوط حارة. تحكي لهم عن أشجار شنگال قبل أن تهزها رياح الحرب. الأشجار التي صارت مائدة يجلس عليها الخريف دون أن يدعو الفصول الأخرى. لا تقع أوراق الأشجار حين تهزها رياح الحرب. بل تجف جذورها، تفقد صلتها مع الأرض، تصبح باردة كما الجثة. حتى الذبائح التي يسكبون دماءها قرب الجذع لتدفئه، لا تكفي لتتخلص من برودتها. هناك شيء لا مرئي، خصوصية لكل شيء حي أو غير حي، يستمد منه قوة البقاء. لا يعرف مكنون هذه الخصوصية أحد، ما أن تصبح هذه الخصوصية أمرًا عامًا يفقد الشيء قدرته على البقاء. زد على ذلك، أن الوقت، والحياة، والأحداث تُكتب بقلم الحبر، لا بقلم الرصاص. ما أن يخط حرف، حتّى تُفقد القوة على تغيّر ما جرى، وحين وقعوا تحت غفوة الكلمات، ابتسم لك الخيال الكذوب، وعلّى من شأنك في الكذب.
أنت تعيشُ في غرفةٍ بلا بابٍ أو سقف من دقيقةٍ سابقة، تطلّ نافذتها على الحاضر، ترى، دون أن يكون لك دور، لا يمكنك سوى أن ترى.
دخلت مدينة من الخيم، 5600 خيمة، وصارت الأشجار في حكاياتك أكوام قمامة تجثم على صدر شوارع المخيم، وصار الأوكسجين المريح للرئتين في حكاياتك، دخان قمامة تُحرق كل ليلة حول المخيم، وصارت فراشاتك التي تلقح الزهور، طيناً يلتصق بأحذية الاطفال في المخيم، وصارت ينابيع جبلك المهجور، فيضانات أمطار تعبر شوارع مخيمكم، كم حاولت عبثاً تجميل ما مضى في عيون من لم يروه، أنت أصغر من الحقيقة، وأكبر من الأرتجاف برداً.
عوضاً عن حكاياتك، دبّر سترة لارتدائها، وعوضاً عن حكاياتك، دبر نفطًا للمدفئة. الوطن والبيت والديار والحرية والحقوق، كلمات مُحيت من قاموسك، طغى عليها بياض الخيمة. غيّر الواقع لو أمكنك، يمكن للجميع أن يتخيل، لكن ليس الجميع يمكنه قضاء ست سنوات في خيمة. أنت صرت لاجئًا في ما أسميته وطنك. تمد يدك لمنظماتٍ أجنبية لتهب لك ثيابًا ونفطًا وخيمة جديدة كل ثلاث سنوات. أنت فتى المخيمات، ومتسلق أكوام القمامة، والمرتجف بردًا في بلد النفط. لا تتأمل أكثر من ذلك، لكيلا تصاب بخيبة أمل أخرى. أنا أعرف قلبك، لم يبقَ فيه موضع لخسارة أخرى. صار جبلًا من الخسارات وخيبات الأمل. خذلتك حتى الشمس، فما حاجة كل هذه الحكايات والخيال؟
صرت تمشي كل ليلة في المخيم. تترك القيادة لقدميك لتقودك حيث تشاء، لا تتفادى برك مياه المطر. وصرت معتادًا على رائحة القمامة، لم يعد يزعجك وجودك مع سبعة أشخاص في خيمة لا تتجاوز خمسة أمتار. صرت تعتاد لبس سروالين، وبلوزة قطنية وسترة ثقيلة. صارت الخيمة تسمى بيتًا. وصرت كلما سألك أحدٌ ما "من أين أنت؟" تجيب "من مخيم جم مشكو." أي حياة تحتار كيف تعيشها؟ ماذا يحتاج العيش في المخيم؟ فقط عليك الانتظار في طابور طويل ليتم تسجيل اسمك مشردًا، حتى إذا أراد أحد التبرع، تحصل على حصتك. المشرد ابن المشرد، أخ والمشردة، حفيد المشردة، ابن عم المشردة، من السلالة المشردة في وطن المشردين، في أرض المشردين، تحت سماء المشردين، تتناول طعم المشردين، وتستلم حصتك من التشرد بلهفة، لأنك ببساطة، مشرد.
ترسو سفينتك لبلوغ الساحل، تدفعها للأمام رياح الحرب. ألمك هو نقطة قوتك، قوة البقاء، البقاء للاستمرار. تحفر في روحك، تتجاوز جبالًا من الألم السرمدي، علَّ ابتسامة اختبأت وراء أحد الجدران في قلبك، ابتسامة طفل نجت من الريح، كل ما تراه، بستان يحترق، لا تخمد ناره، ولا تنتهي أشجاره.
أرقٌ دائمي أصابك. تقضي لياليك تحدق في الظلام الحالك. هل يجيب اللاشيء عن الأشياء الكثيرة التي تحدث؟ هل هناك إجابة في الضوء؟ في الضجيج؟ في الصمت؟ في المشي؟ في الوقوف؟ وقفتَ في مواجهة انعكاس صورتك في المرآة، تبحث عن إجابة لربما كشفتها عيناك، لربما أعادت لك التوازن لحياتك. رفضتَ فكرتك، وجلست على الأرض الرطبة، ماذا توازن؟ ليتم التوازن تحتاج قيمتين، لا شيء لديك، سوى بستان يحترق، لا تخمد ناره، ولا تنتهي أشجاره.