في عام 2020، ذهب أحد الشباب إلى منطقة التجنيد التابعة لمحافظته للفحص الطبي لأداء الخدمة العسكرية، ثم فوجئ أنّه استثنيّ من أداء الخدمة نهائيا لغرضٍ أمنيّ. أي أنّه بنظر المؤسسة العسكرية لا يصلح للخدمة الوطنية، لأنّه وببساطة ربما يحمل نفس أفكار شابٍ آخر تواجد في حادثة الفنية العسكرية منذ 46 عاما، تحديدا عام 1974، وهى الأفكار الدينية الأكثر راديكالية التي تنتهج العنف في تغيير النظام الحاكم. فما هو السياق التاريخي للاستثناء الأمني في الجيش المصري؟ وكيف يتم هذا الاستثناء؟ ولماذا تحرص المؤسسة العسكرية على استبعاد ذوي الأفكار السياسية أو الدينية من ارتداء أفرولها الميريّ والخدمة ضمن قواتها؟
أثر فراشة الانقلابات الفاشلة
صباح يوم 18 أبريل من عام 1974، لم يكن المخدر الذي وضعه الطالب بالكلية العسكرية سعد دربالة فعالاً، فلم ينم الجنود، وفشلت خطة الانقلاب والتي وُصفت بالخطة الساذجة، ومات على إثرها 17 فردا من التنظيم ومن حرس الكلية. وقُبض بسرعة على المُنقلبين، سواء المخططين أو المنفذين. وأعدم بعد ذلك قائد التنظيم، صالح سرية، ومساعده، كارم الأناضولي. في أحداث وتنظيم اشتهرت وعُرف باسم "الفنية العسكرية." [1]
كانت تلك أول محاولة للانقلاب على النظام المصري والنيل من رأس السادات بواسطة أناس من داخل الجيش المصري نفسه، ولكنها لم تكن الأخيرة. كانت المحاولة الأولى تتطلب الاستيلاء على الأسلحة والسيطرة على مبنى الفنية العسكرية ومن ثمّ التوجه إلى السادات للنيّل منّه في مقر الاتحاد الاشتراكي. أما الثانية فقد جاء لها السادات بنفسه، وقف وسط أولاده، هكذا كان يقول قاصداً أبناء الجيش. تبدّل صالح سرية بِعبد السلام فرج وهما خريجا الهندسة، ولكنّ خطة فرج لم تفشل كليا كما حدث مع سريّة.
كان الفارق الزمني بين الحدثين 7 سنوات تقريبا، يوم 6 أكتوبر من عام 1981، في مدينة نصر بالقاهرة، حيث يحتفل السادات بالذكرى السابعة لنصر أكتوبر المجيد وسط عرضٍ عسكري لم يكتمل بسبب طلقات رصاص ضابط الجيش خالد الإسلامبولي وثلاثة من زملائه، لم تكتمل خطتهم في الاستيلاء على مبنى الإذاعة والتلفزيون وإلقاء بيان الانقلاب. اعتقلوا جميعهم وفي العام التالي، بعد استكمال التحقيقات والمرافعات، نُفّذَ فيهم حكم الإعدام برفقة الأب الروحي للاغتيال، عبد السلام فرج، في قضية عرفت باسم قضية الجهاد الكبرى [2].
امتلكت المحاولتان نزعة إسلامية جهادية. كان منفذوها يريدون انقلابا عسكريا ومن ثمَّ إعلان نظامٍ جديدٍ يُؤسَّس على شريعة إسلامية. ولذا شرع النظام الجديد بإدارة حسني مبارك في أخذ الاحتياط باستبعاد كل منه له انتماءات فكرية سيّما إسلامية جهادية من الالتحاق بمهام عسكرية داخل الجيش. سواء تقدم الطلاب إلى كليات الحربية للتعلم، أو عند تجنيد الشباب عندما يأتي السن القانوني لتقديمهم أوراق التجنيد، وذلك لتجنب أي محاولات انقلابية على النظام المصري باستخدام قوة السلاح.
كيف يتم الاستبعاد؟
على مدار أربعة عقودٍ مرّت، من أواخر حكم السادات وتولي حسني مبارك نظام الحكم بداية الثمانينات إلى عامنا هذا، ذهب مئات الآلاف للتقدم للخدمة العسكرية في القوات المسلحة المصرية. يتقدم الشباب الأميّ، والحاصل على التعليم المتوسط أو على التعليم فوق المتوسط إلى خريج البكالوريوس أو الليسانس. كلٌ منهم له مدة معينة لتقضية الخدمة العسكرية حسب قانون الخدمة.
بعد أن يستوفي الشباب المتقدم إجراءات الالتحاق من تقديم أوراق كَشهادات الميلاد وفيش وتشبيه جنائيّ وشهادة التخرج من عدمها إلى آخره، بعد ذلك يحدد له القسم التابع لمحافظته ميعاد الذهاب لإجراء الكشف الطبي في منطقة التجنيد.
يذهب الشاب مع المئات من المتقدمين، ويجلسون في قاعةٍ واسعة، وقبل، وأحيانا بعد أن يُجري المتقدمون الكشف الطبي الذي يحدد تأهيلهم للالتحاق بالخدمة من عدمها، يأتي إليهم ضابط أو صول من المخابرات الحربية يرتدي بدلة ميريّة لونها أخضر داكن "زيتي"، ويطلب منهم التركيز والإجابة على السؤال بكل مصداقية حتى لا يتعرض أحد منهم بعد ذلك إلى العقاب. السؤال هو؟ هل من أحد هنا (من المتقدمين) له موقف أمني؟ ويبدأ في شرح الموقف الأمني. أي هل من أحد له سابقة اعتقال سياسيّ، أو زار أمن الدولة/الوطني من قبل، أو ينتمي إلى أي جماعات فكرية سواء دينية أو سياسية؟ أو كان له أي مظهر ديني كتربية اللحى مثلا؟ ليس هو فقط، بل هو أو أقاربه من الدرجة الأولى والثانية والثالثة. هناك مواقف أمنية اُخرى ليست محل طرحنا مثل الحصول على جنسية بلد آخر أو السفر إلى بلد آخر من قبل، وهذا أيضاً يشمل الأقارب من الدرجة الأولى حتى الثالثة. وينتهي ذلك المشهد بأنّ يقف من له موقف أمني ويتحرك لِيقف مرّة أُخرى في جانب القاعة.
بعد أن يكرر الضابط/الصول هذا السؤال مع الشرح أكثر مِن مرّة، يطلع عدد من الشباب وهم من تنطبق عليهم تلك المواقف، ليمر هو عليهم ويسألهم ما هو الموقف؟ ويأخذ بطاقاتهم، ويطلب منهم أن يذهبوا إلى مكتب الأمن داخل المنطقة بعد انتهائهم من الكشف الطبي.
يتوجّهون إلى مكتب الأمن، فيأخذون ورقة بها عدة طلبات يأتون بها في الميعاد المحدد لهم. يكون الميعاد بعد بضعة أيام. يأتي صاحب سابقة الاعتقال السياسي هو أو أقاربه بصورة من محضر اعتقاله وبها المدة التي قضاها في السجن، وصاحب النشاط التنظيمي أو المظهر الديني هو أو أقاربه يأتي بصورة له أو لهم توضح هذا المظهر، وغالبا ما تكون صورة الشخص وهو ملتحي.
في الميعاد المُحدد، يذهبون ومعهم الأوراق المطلوبة، ويقدمونها ثم يملأون عدة استمارات مثل الاستمارة التي تسمى "شجرة العائلة" ويتطلب كتابة أسماء العائلة بالكامل وأعمارهم ومحل إقامتهم وعملهم إلى الدرجة السادسة أو السابعة فيها . ثم يرسمون في استمارةٍ أُخرى خريطة الذهاب من منطقة التجنيد حتى محل إقامتهم فضلا عن بيانات شخصية مُفصّلة عنهم وعن أقاربهم إن كانوا هُم محل الاشتباه. بعد استكمال الأوراق وتسلميها، يُطلب منهم المجيء مرّة أُخرى في يومٍ محدد للذهاب إلى العرض.
يسمى بيوم العرض، إذ يُعرض فيه أصحاب المواقف الأمنية على ضابطٍ بالمخابرات الحربية، إما في مقرات المخابرات التابعة للمحافظة المتواجد فيها منطقة التجنيد، وهذا هو الغالب حيث يصطحبهم عسكري مجنّد من داخل المنطقة إلى المقر، وأحياناً قليلة يعرضون في مقر منطقة التجنيد حيث يأتي الضابط إليهم.
ينتظرون خارج المكتب حتى يدخلوا واحدا واحدا للاستجواب. يعطيهم عساكر وأمن المقر عدة تعليمات بشأن ذلك، حيث يطلبون منهم عند الدخول أن يقفوا في المربع/المساحة التي يطلبها منهم الضابط ولا يتحركون منها أبدا إلا للخروج عند الانتهاء، أيديهم بجانبهم لا تتحرك أبدا، لا يتكلمون إلا عند السماح لهم. أي عند إعطاء الإجابة على السؤال الموجّه لهم.
يدخل صاحب موقف الأمني، وينفذ التعليمات الهندسية للجسد المطلوبة منه. يفتح الضابط ملفه، وينظر له ويبدأ في استجوابه، تكون الأسئلة لصاحب سابقة الاعتقال السياسي؟ لماذا اعتقل؟ وهل هو من الإخوان أو من أي تنظيم فكري أو سياسي؟ هل شارك في أي تظاهرات/ اعتصامات سيما اعتصام رابعة؟ هل ربى لحيته من قبل؟ وما سبب التربية؟ ما هو النشاط الديني الذي يمارسه؟ من الشيوخ الذي يستمع إليهم؟ هل أقاربه لهم أي نشاط أو مظهر فكري ديني أو حركي مثل اللحى، لا سيّما أقارب الدرجة الأولى؟ مثل ارتداء النقاب للأمّ أو الأخت وتربية اللحية للأب أو الأخ
يُفضل بعض المتقدمين الإجابة بالنفي "لا" لأي سؤال، وعن سؤال الاعتقال يجيبون أنّه حدث بالخطأ، وأنّهم مظلومون، وفي أحيانٍ أُخرى يجيب المتقدمون باستفاضة ممّا يجعل الضابط أكثر تعمقا في الأسئلة، فيسألهم عن رأيهم في أحوال البلد الحالية، وعن النظام السياسي، والانتخابات والرئيس الحالي، وعن مواقف بعينها، وربما يتطرق لموضوعات تتعلق بالجهاد والحركات الإسلامية المسلحة ليعرف ما يدور في أدمغتهم ورأيهم بشأن تلك التنظيمات (سيما داعش).
ما يدفع الشباب أحيانا للإجابة والتورط في مزيد من الأسئلة هو الاطمئنان بشأن المقابلة، إذ يقول الضابط لهم في أول الحديث أنّه مسؤول عن دخوله الجيش من عدمه فقط، وهو ليس جهة تحقيق، ولا جهة عقاب، ولا يعنيه إن كان للشاب موقف سياسي يعادي النظام أم ليس له، وربما يُخوّفه بشأن أنّه معه تحريّات كاملة بشأنه فلا داعي للكذب وإلّا تعرض للعقاب.
في نهاية المقابلة، يطلب الضابط من الشاب البصمة بإصبعه على ورقة تثبت أنّ لديه موقف أمني، ويطلب منه الذهاب بعد 6 أشهر إلى منطقة التجنيد التابع لها لسؤالهم عن موقفه، هل استثنيَّ من الخدمة أم لا. غالبية من تعرضوا لهذا الإجراء ومن ختموا بأصابعهم وذهبوا بعد أشهر (6 أشهر أو يزيد) أخذوا شهادة الاستثناء النهائي من الخدمة العسكرية طبقاً للقانون 127/لعام 1980
في أحيانٍ أُخرى لا يُعلن المتقدم إلى التجنيد أنّه من أصحاب المواقف الأمنية، لأسباب عدة منها خوفه من الإجراءات الأمنية ومن العرض الأمني على المخابرات، وأيضا من شهادة الاستثناء الأمني أن تضرّه بعد ذلك سواء في وظيفة حكومية أو الدخول إلى نقابة معيّنة أو حظر في سفرٍ ما، لأن ترديد الشائعات من المحيط الاجتماعي بشأن شهادة الاستثناء الأمني تكون مخيفة، أما من يدخل ويجنّد داخل القوات المسلحة وهو كذلك، ربما يقضي جيشه كلّه دون أي مشاكل وربما تأتي تحريّات عن المجنّد تفيد أن له موقف أمني سابق ولم يُعلن عنه، ومن ثمّ ذلك تستدعيه الكتيبة، وفي الغالب يُعرض على المخابرات الحربية، وتنتهي خدمته على الفور، ويأخذ شهادة إنهاء خدمته العسكرية ويرجع إلى حياته المدنيّة مرّةً أُخرى.
أيديولوجية الولاء
بقيَّ ذلك الاستثناء الأمني من الخدمة العسكرية متواصلا بلا انقطاع قبل ومنذ تولي مبارك الحكم وإلى الآن، حتى بعد ثورة يناير عام 2011 إلى الانقلاب عليها يوليو 2013، وفي ظل حكم الإخوان المسلمين، فقد ذهب أحد الشباب في تلك الفترة وعند الفحص الأمني أخبرهم أنّه ابنا لقياديّ في الإخوان المسلمين، وتماشت الإجراءات الأمنية كما هي واستثنيَّ هذا الشاب من الخدمة [4].
تحرص المؤسسة العسكرية في مصر على استبعاد أي جندي أو رتبةٍ أُخرى يحمل أي أفكارا سيما إن كانت دينية جهادية، تخاف من محاولات التمرد المسلح سواء بشكلٍ جماعي كما في حادثتين القرن الماضي والتي انتهت الأخيرة باغتيال رأس الدولة، أو حتى على المستوى الفردي عن طريق أي عملية منفردة تضر بالجيش المصري، تحرص على تبنّي فكرة الولاء للقيادة العسكرية العليا والتي بدورها هي القيادة الوطنية، فامتزاج الولاء للجنود لها لا ينفكّ عن الولاء للوطن، إذ هي تُحقق الهيمنة، ولكن ليس عن طريق القوة، بل بالإقناع والقبول، حيث تستطيع إقناع العقول المجنّدة بأي أيديولوجية هي تريدها عن طريق محاضرات ممزوجة بالدين والوطنية كما في الندوات التثقيفية والمحاضرات وغير ذلك [5].
بعد يوليو 2013. بلغ الاستثناء الأمني للجنود أقصى دقّة، وحرصت القوات المسلحة لتبني وفرض حالة استثناء على عقول وأجساد الجنود، وذلك بعد تبني السلطة السياسية العليا والتي بالضرورة لا تنعزل عن السلطة السياسية للقوات المسلحة خطاب الاستثناء والحرب على الإرهاب، وذلك بعد اشتباكها بالقوة مع المعارضة الإسلامية للانقلاب العسكري، والذي أسفر عنه مزيد من العمليات المسلحة ضد قوات الشرطة والجيش من قبل إسلاميين جهاديين لاسيما في شمال سيناء وغير جهاديين بالمعنى الأيديولوجي في مناطق مختلفة من الجمهورية، فضلاً عن بروز ظاهرة الانشقاق والانتقال من أحضان المؤسسة العسكرية إلى جماعات التمرد الإسلامي مثل ضابط الصاعقة الشهير هشام عشماوي وزميله عماد عبد الحميد، واللذان انشقّا من صفوف الجيش المصري والتحقا بعدة جماعات جهادية مسلحة وقاما بتنفيذ عمليات قتل ضد قوات الجيش والشرطة في مصر.
وتلك هي أيديولوجية الدولة التي بالضرورة تظهر في إحدى أهم مؤسساتها من حيث القوّة والحكم، وكما يصفها الفيلسوف الفرنسي ألتوسير أن وجودها يعني "الأيديولوجية" لابد أن يظهر داخل المؤسسات، لتحقيق غرضها في بث فكرتها وروحها في ذات الإنسان/المجنّد حتى وإن كان تبني تلك الأيديولوجية بشكلٍ لاشعوري في ذات الإنسان/المجنّد، ولكنّه يتماهى معها وفقا للتماشي الاجتماعي المتواجد ضمنه لفترةٍ من الزمن، وهذا بالفعل ما يحدث للمجنّد فإنه يتبنى أيديولوجية الاستثناء ويعيش في مِخيال الخطر القائم من أهل الشرِّ والذي لا ينتهي، ولكنّ ربما ينتهي في اللاشعور لديه بانتهاء مدة خدمته في الجيش ورجوعه لحياته المدنية مرّةً أُخرى فتتغير نظرته للواقع من حوله طبقا لتلاشي الفضاء الاجتماعي الذي كان فيه من قبل، وأصبح في فضاء آخر ربما هذا الآخر يؤدلجه بأفكار متناقضة تماما لما كانت عليه ذاته من قبل [6].
المصادر
1- للمزيد حول تنظيم صالح سرية وحادثة الفنية العسكرية.
وثائقي تنظيم الفنية العسكرية الجزء الأول - الجزيرة الوثائقية
وثائقي تنظيم الفنية العسكرية الجزء الثاني - الجزيرة الوثائقية
2- للمزيد حول محاولة انقلاب عام 1981. انظر. عبد المنعم منيب، دليل الحركات الإسلامية المصرية، ط1 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2009) ص 80 - 101
3- أجرى الكاتب عدة مقابلات مع شباب لهم مواقف أمنية في محافظات مختلفة، سردوا في تلك المقابلات كواليس الإعفاء الأمني الذي حصلوا عليه في سنوات ماضية مختلفة، المقابلات تمت في أشهر مختلفة عام 2020.
4- المصدر السابق - المقابلات.
5- آن شوستاك -مداخل إلى غرامشي- السيطرة السياسية والثورة والدولة - المركز القومي للترجمة. ترجمة سحر توفيق.
6- لوي ألتوسير - الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية. الجزء الأول - موقع قراءات - ترجمة عمرو خيري.
لوي ألتوسير - الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية - الجزء الثاني - موقع قراءات - ترجمة عمرو خيري