"هذا الموتُ مسعورٌ
أقسَمَ يُطاردنا
أراهُ مِن شُباك حُجرتي
نَحيلاً عارياً بلحيةٍ رَمادية
يلهثُ حافياً وراء جدائل الفتيات
الصغيرات على أرصفةِ الشَوارع
ينتزعُ لعبةً من ذلك الطفل
وقلباً من تلك الأُم
رؤوسُ الأطفال الرضّع
تملأُ كيس خيشٍ على ظهرهِ
يقطرُ دماً علّم على كل
دروب المدينة
يلمحُني، بمحجرين خاويين
فأراهُ هنا
يتقرفصُ في زاوية الغرفة
ويقلبُ سجلاً بجلدٍ أبيض
أسألهُ، هل أنتَ نبي؟
يحملقُ بي
ولا يُجيب"1
وأسيرُ في بغداد، وحيداً، صامتاً، كقطٍ شاردٍ بين رجال الأمن وعَجلاتهم الرابضة على أرصفةِ أبو نؤاس، حيثُ يتقياُ باب بيتٍ حُطام البيت الذي لم يبق منه غَير البابِ، أسلاكٌ شائكةٌ تتدلى من السياج الخارجي، و"لا نأمةٌ. هل ماتَ من كانوا هنا؟"2 (أين الأزهار؟ أين قَمريات العنب؟)، أسيرُ، وفي رأسي تدوي انفجاراتٌ بعيدةٌ في حُجُراتِ الذاكرة المُدلهمة، شَظايا مَسعورةٌ تتطايرُ بين الصَّدغيّ والقَذالي، طنينٌ في أُذُني، شذراتٌ من أبياتٍ لسركون بولص: "جئتُ إليكَ من هُناك!"3، هُنا، هُناك، حيثُ تُرفرفُ بيارقُ الجلاوزة، يهيمُ الأطفال في الشَوارعِ يَبيعون ما لايُشترى: "لله يا مُحسنين!"، ويتبَولُ العرگچية قرب تمثال أبو نؤاس. يا ناس، يا عالم، الحسن بن هانئ الحكمي في بغداد مجهولُ الهُوِية!
ومن خَلفهِ النهرُ صارَ ساقيةً، كلابٌ سائبةٌ تتمرغُ في الطين، قنينةُ "فريدة"4 مطمورةٌ في الغَرين، رائحةُ البول، دخانٌ يأتيكَ مُتراقصاً من كومةِ أزبالٍ يتدفّأُ بها شيخُ سِكّير، "كالمُستجيرِ بالرمضاء من النار"5، وعلى الضفّة الأُخرى "الطاغيةُ في الحَمَّام، يُغني"6، أجئتُ في غيرِ موعدي؟
"ثقيلٌ بالماءِ شَعرُ الغريق
الذي عادَ إلى الحفلة
بعد أن أطفأوا المصابيح
وكوّموا الكراسي على الشاطئ المقفر
وقَيّدوا بالسلاسلِ أمواجَ دجلة"7
"خُذ نفطك أيُها العالم!" تقول الرسمةُ عندَ جِسر الجمهورية، هُناك، "على النهر مظاهرةٌ تسطعُ فيها قاماتُ لبنادقَ فجأةً لكن
لتهبطَ هذه المرّة
ثقيلةً كمرساة السلطة"8:
أرأيتُم كيفَ ذبحوا المساكين في الشوارعِ حتى لا تزيغَ العمليةُ السياسية عَنْ مسارِ البِناء والإعمار؟ أولئِكَ البَهاليل، سيدخلون الانتِخابات القادمة كالفاتحين، وبمُباركةِ المُجتمعِ الدَولي!
مَنْ يُحاسبُهم؟ مَن يُحاسبُ الأمُم المُتحدة على تجويعِ مئات الآلاف من أطفال العراق وحِرمانهم مِنَ الدواء حتى المَوْت؟ لماذا يَسرقُ سَليلُ المُستعمرين البيض لُقمتي؟ وهَلْ لَنا أن نَكتُب ونحنُ نخوضُ في هذا الرُغام، يا سركون؟ هل نَسلم مِن ضَربِ السَكاكِين؟
"إقتلعْ، أنتَ أيضاً
فَمَكَ أللَّعين...
ألقِ من النافذة بهذا القلّم "الرَّزين""9
ومن سيكتبُ إذاً، إنهم يُجيعون الأطفال حقاً، والكُوَيتبُ عِندنا يدأبُ على َفردِ الساقين لِمَنْ يَدفعُ أكثرْ؟
"وإذا ما صرخنا، إذا
ما أفصَحنا عن أصواتنا الأخرى
فحتّى الملائكة
ستُخفي رؤوسَها تحتَ أجنحتها الثقيلة
لئلا تسمع الصرخة".10
مُسمرٌ هنا، في عتمةِ حُجرتي، أمامَ شَاشة الكومبيوتر، أُحْصي أعداد مُنتحرين لا أعرفُ أسمائهم، "صامتاً وفي نيّتي أن أصرخ"11.
"عبوةٌ صوتيةٌ تستهدفُ دارَ مواطن".12
"إنقاذُ فتاةٍ حاوَلَتْ رَمي نَفسها مِن أعلى جسرٍ وَسطَ بغداد".13
هذا ما تزفّهُ لنا العناوين هذا المساء.
"أطفئ هذا الصندوق المليء بقيء "الأخبار"
تسقطُ فيه أمَمٌ كاملةٌ، وتنهضُ في مكانها الأشباح.
جياعُ إفريقيا، هياكلُ العظم، الذُباب والصُبّار.
أطفالُ العراق في أراجيح الموت
تُهدهدهُم يدُ التنين الآتي
ليشرب الذهبَ الأسودَ النابع من قلب الأرض".14
وأبي ثابتٌ أمام شاشةِ التلفاز، يُدخنُ سيجارتهُ الألف هذا المَساء: "تُعرف شگد گصوا من راتبي هذا الشهر؟ ستميت ألف دينار!".
أيُها الأوغاد! والشَظايا؟ ومُطارداتُ البَعثيين؟
كَوَّموا حواجزَ الكونكريت على جِسر الأحرار، وصَادَروا مياه النهر مِن تَحته. النخلات يولولنَ على الشاطئ، حيثُ تسبحُ علبةُ سَردين معقوچة، ودائماً ما يستعدُ مُنتحرٌ ما للقفزِ إلى قاعِ النهر، أينَ عَلقتْ جُمجُمةُ جَارهِ التي ثُقِبَتْ بالـ Hammer Drill لأن أمريكا هكذا شائَت.
هذا ما فَعَلوه بنا، ويَجزمُ مَجنونٌ سادرٌ يَقطعُ شارع الرشيد أنَ اللُّصوص قَد شَمَّروا عَنْ سَواعدهمِ، والوَيل لنا في قادمِ الأيام.
هذا العراق، "إنه الليل. نَمْ، أيّها الشاعر. نَم، أيّها الصديق".15
***
1- قصيدة للكاتب، "ضيفٌ على المدينة".
2- سركون بولص، قصيدة "أنا الذي"، من ديوان "عَظمة أخرى لكلب القبيلة" (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
3- سركون بولص، "جئتُ إليك من هناك"، المصدر السابق.
4- بيرة محلية الصنع.
5- سركون بولص، "التوطئة"، من ديوان "الحياة قرب الأكروبول" (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
6- سركون بولص، "جسدٌ قريبٌ"، نفس المصدر السابق.
7- سركون بولص، "مرثيّة إلى سينما السندباد"، من ديوان "عَظمة أخرى لكلب القبيلة" (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
8- سركون بولص، "حياة الميكانيك عبد الهادي من باب الشيخ"، من ديوان "الحياة قرب الأكروبول" (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
9- سركون بولص، "جسدٌ قريبٌ"، نفس المصدر السابق.
10- سركون بولص، قصيدة "لغة نحيا عبرها"، ديوان "عَظمة أخرى لكلب القبيلة" (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
11- سركون بولص، قصيدة "لحظات في الحديقة"، من مجموعته الشعرية، "عَظمة أخرى لكلب القبيلة" (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
12- https://www.almirbad.com/detail/78095
13- انقاذ فتاة حاولت رمي نفسها من أعلى جسر وسط بغداد
14- سركون بولص، قصيدة "نيران"، من ديوان"عَظمة أخرى لكلب القبيلة" (منشورات الجمل، كولونيا وبغداد، 2008).
15- سركون بولص، قصيدة "محمود البريكان واللصوص في البصرة"، المصدر السابق.