(دار نشر جامعة أوكسفورد، 2021)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟
فاطمة شمس (ف. س.): هذا الكتاب نتج عن كل من تجربتي الشخصية، كشاعرة نشأت في إيران، ومن حياتي الأكاديمية في المملكة المتحدة وفي الولايات المتحدة، طالبة والآن كأستاذة محاضرة في الأدب الفارسي. الكتاب بدأ كأطروحتي للدكتوراه في جامعة أوكسفورد. في الغرب، هناك تاريخ طويل من الأبحاث حول العلاقة بين الأدب والسياسة-على سبيل المثال، فقد استوحيت من الدراسات حول الكتابات السوفياتية-إلا إنني فوجئت لدى اكتشافي أن القليل جدا من الأبحاث دارت حول الدور الذي أداه الأدب، وخاصة الشعر، (ومازال يؤديه) في الجمهورية الإسلامية.
كوني شاعرة متمرسة، ولدت ونشأت في إيران، كان الاستيعاب الإيديولوجي للأدب ظاهرة مألوفة جدا بالنسبة لي. وقد اكتشفت العديد من الثغرات في الأبحاث الموجودة، ليس في مجال تحليل النظام في إيران ما بعد الثورة فحسب، بل أبعد من ذلك أيضا-في التعقيدات متعددة الطبقات للمحسوبية الأدبية، التي تشكل الأساس للتراث الشعري الفارسي. وهذا ما أثار شغفي لانجاز هذا الكتاب.
على الرغم من أن الكتاب يبقى موضوعيا و نصا أكاديميا بحتا، إلا أن مفاهيمي وآرائي من الممكن أن تكون مشبعة بتجربتي الشخصية مع السردية الأدبية الرسمية في إيران، وتعرفي المبكر على الشعر في الكتب المدرسية، ومشاهدتي لليالي الشعر الرسمية عبر التلفزيون التي يستضيفها المرشد (وهو نفسه شاعر) ، واكتشاف كتب محظورة، والاستماع لشهادات عن الحياة قبل الثورة والشعر الذي كان يستخدم كوسيلة للدعاية السياسية في الماضي.
قادني كل ذلك، في سن مبكرة حتى، للتركيز على سؤال واحد أساسي: لماذا وكيف نجح بعض الشعراء فقط في الوصول إلى الكتب المدرسية، والمهرجانات الشعرية وحلقات البث الوطنية، فيما غُيبَ آخرون (لهم مستوى أرقى بكثير) وجُعلوا غير مرئيين؟ لم أحصل على أي إجابات. الصمت هو ما قادني لتأليف هذا الكتاب.
ج: ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
ف. ش.: إن محاولة إنتاج بحث أكاديمي في موضوع يٌخاض للمرة الأولى يحمل تحدياته. هناك الكثير مما يجب أن يقال عن تطور الأدب الفارسي المعاصر وعلاقته بالسياسة والسلطة، مما تطلب وقتا طويلا كي أقرر من أين أبدأ وما الذي يجب إغفاله. وكما يبين العنوان، فإن ثورة العام 1979 هي المحور المركزي للموضوعات والمسائل التي اخترت أن استكشفها، ضمن إطار زمني مرن هو ضروري لإثبات كيف أن الحاضر شكّله الماضي.
وكما في كل مجال جديد من مجالات البحث، يتعين تحديد وتفسير المصطلحات والمسميات. ما معنى "الأدب الرسمي" و"الشعراء الرسميون"؟ كيف يمكن استكشاف المدونة الرسمية وإعادة تقييمها بطريقة أكثر تمثيلية وإفادة؟ بعد كشف هذا الموضوع المغلق حتى الآن، كنت حريصة على التعبير عن الفروقات الصغيرة والتحويرات بين شعراء المدونة وشعرها – بأن هناك طاعة ولكن هناك أيضا مقاومة، استمرارية ولكن أيضا انقطاع، وأن الدولة ذاتها تتنازعها الاضطرابات السياسية والتحولات.
إن فصول الكتاب ترسم تصاعد الأمواج الثورية، وتأسيس الأيديولوجية الجديدة، والحرب الإيرانية العراقية (وهي منعطف أساسي بالنسبة للشعر الرسمي)، موت الخميني، والنزاعات التي تلت ذلك ضمن كل من الدوائر السياسية وتلك الأدبية.
من وجهة نظر أدبية، يقدم الكتاب عرضا عاما شاملا لمبادئ الأدب الفارسي وتقاليده، من أنماطه وموضوعاته الكلاسيكية وصولا إلى الرعاية، التي يلقاها والنشر والإداء. وقد اخترت عشرة شعراء رئيسيين من المدونة الرسمية واستعرضت الرحلة الإبداعية والشخصية لكل منهم، قبل الثورة وبعدها، لأظهر التقلبات والانقسامات في بنى كل من السلطة وأبيات الشعر. اخترت أن افتتح الكتاب وأن أنهيه بقصيدتين معاصرتين متباينتين لشاعرين من خلفية أيديولوجية ومصير متناقضة، لأظهر الأهميّة المستمرّة لأنماط الشعر الكلاسيكي في ايران المعاصرة.
الموضوعات التي يتناولها الكتاب تضع الجمهورية الإسلامية إلى جانب كل من الصين وروسيا السوفياتية، ودول شمولية استبدادية أخرى كنموذج مهم عن "إدارة الفكر" و"الهندسة اللغوية"، التي تستحق الاهتمام الأكاديمي. ومع ذلك، هناك ضمن ذلك العديد من الطبقات المدهشة من الخلافات والانقسامات تتعلق بالالتزام الأيديولوجي والأساليب الشخصية لكل شاعر. لذلك، يصبح من الأدق وضعهم على سلم معايير، يبدأ بأولئك الأقرب لكرسي الحكم وينتهي بالذين يسائلون أحيانا الهيمنة أو يقوضونها.
في العموم، يسعى الكتاب إلى إظهار أن الشعر لم يكن خيارا رجعيا مرافقا للثورة، بل أن الشعر قاد الثورة وساهم في انتصارها. إن رسوخ الشعر بعمق في الروح الفارسية، ومدى حضوره وأثره في الحياة العادية سمح له بالاستمرار في أن يكون أداة أساسية في يد السلطة وقوة سياسية تنويرية.
ج: كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
ف. س.: هذا الكتاب هو، بطريقة ما، ثمرة عشر سنوات من الاستغراق – أكاديميا وابداعيا-في استكشاف العلاقة بين الأدب والسلطة. كشاعرة في طهران، كنت دوما مهتمة في ملاحظة كيف تعمل ديناميات السلطة على صياغة المجال الأدبي وتحويله، وبالعكس. وكنت أريد البحث في هذه العلاقة بين الأدب وبين السياسة، والشعر والسلطة، والسلطة والمجتمع، والتي صاغت على امتداد عقود مسيرتي الشخصية والمهنية. إن الأدب والسياسة متشابكان بعمق في إيران اليوم لدرجة أن التفكير أو الكتابة عن أحدهما دون الثاني هو أمر شبه مستحيل. إن بحثي الذي سبق هذا الكتاب كان يتمحور حول مسألة السيطرة الثقافية وتأثيرها على المجال الأدبي-أي مسائل وموضوعات مشابهة لهذا الكتاب ولكن مدفوعة في اتجاهات مختلفة.
ج: من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب وما هو الأثر الذي ترغبين أن يخلّفه؟
ف. س.: الكتاب يتوجه أساسا إلى جمهور أكاديمي: طلاب وباحثون في الأدب، وإيران المعاصرة مع اهتمام بالأدب والسياسة والدراسات الثقافية. هو يقدم مقاربة من حقول متعددة لتناول نقطة التقاطع بين الأدب والسياسة-علم الاجتماع، التاريخ، والعلوم السياسية إلى جانب النظرية الأدبية-التي تسمح لاهتمامات القراء أن تصل إلى ما هو أبعد من النقد الأدبي الصرف.
أملي هو أن يتمكن أي شخص يملك معلومات عامة أو اهتماما بإيران، بالشعر والتطورات الاجتماعية- السياسية أو الأدبية خلال العقود الأربعة الماضية ، من الاستفادة من هذا العمل. وكونه الكتاب الأول من نوعه، آمل أيضا أن يلهم أكاديميين وباحثين وصحافيين آخرين كي يقوموا بإثراء هذا المجال من الدراسة بأعمالهم وأبحاثهم. هكذا، أتمنى أن يصبح كتابا تأسيسيا يوفّر أرضية جديدة ويفسح المجال لمناقشات وتحريات واسعة حول هذا الموضوع.
ج: ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟
ف. س.: أعمل حاليا على إنجاز كتابي الثاني، والذي نتج بشكل طبيعي عن كتابي الحالي. كما قلت من قبل، كان عليّ أن أقرر كيف أرسم حدود هذا الكتاب الأول، واخترت أن أركز على نطاق الشعر الرسمي مع إحالات قليلة إلى الكتّاب الذين أصبحوا ضد السلطة. في هذا الكتاب الثاني، ننتقل إلى الهوامش الخفية للإنتاج الأدبي في الجمهورية الإسلامية لاستكشاف سبل الكتابة المحفوفة بالمخاطر، أو تلك المكتوبة من المنافي.
أريد البحث في السبل التي لجأ إليها الشعراء المحظورون، والمهمشون، والمسجونون والمنفيون ليكتبوا عن فضاء ومرحلية وجودهم عبر الزمن. ما هي أساليب الكتابة التي استخدمها الشعراء "غير الرسميين" و"غير المطيعين" لتناول حقيقة حيواتهم؟ كيف تؤثر عوامل مثل الجندرية، والجنسانية (الهوية الجنسية)، والدين والعرقية واللغة (اللغة الأم في مواجهة القاموس الرسمي) في هذا المجال الشعري؟ سأمضي أربعة عشر شهرا في برلين كباحثة في هامبولدت (أيار 2021 حتى تموز 2022) للانطلاق في هذا المشروع. وأنا حاليا أجمع وأترجم أشعار السجن الفارسية من الماضي والحاضر كي أستكشف المزيد من أساليب الكتابة المحفوفة بالمخاطر وتلك التي من المنافي.
مقتطفات من الكتاب
في حين أن الشهية للشعر في العديد من الثقافات المعاصرة قد انكمشت وكأنه من العصر القديم، مازال الشعر في قلب الحياة والحكم في إيران. يواجه الشعب الإيراني الشعر كل يوم- في الصحف، في الصفوف المدرسية، والمواعظ الدينية، والنشرات السياسية، واللوحات الإعلانية، والتلفزيون والإذاعة، بالإضافة إلى المنازل. فالشعر راسخ داخل البنى الحاكمة الإيرانية وفكرها السياسي لدرجة أنه أصبح من شبه المستحيل فصله عن الخطاب الرسمي للسلطة على امتداد العقود الأربعة الماضية. ومرشدا الجمهورية الإيرانية الاثنان، روح الله الخميني وعلي خامنئي، هما نفسهما شاعران. مازال هناك الكثير مما تتعين كتابته عن تأثير الشعر في إضفاء طابع رومانسي على الفكر السياسي في إيران، كما حصل في ثقافات أخرى مثل روسيا السوفياتية، واسبانيا تحت حكم فرانكو، وكوبا خلال حكم كاسترو، أو إيطاليا في عهد موسوليني، حيث تم التحقيق بشكل نقدي في دور "الشاعر-المستبد".
ومع ذلك، يمكن إثبات التقاطع بين الشعر وبين السياسة في الجمهورية الإسلامية بسرعة وبشكل عملي، عبر إلقاء نظرة على دليل المؤسسات الأدبية التي يمولها النظام، ووجود قطاع خاص لمجالس العزاء، والبرامج التوجيهية في المدارس والجامعات، والمراسم الاحتفالات الشعرية السنوية للمرشد، والتي تبث مباشرة في كافة أنحاء البلاد. ويمكن للمرء أن يتساءل، لماذا يبقى الشعر في قلب الحياة اليومية للإيرانيين؟
(....) ان استخدام اللغة والأدب لتشريع السيطرة الشمولية عبر التاريخ في العديد من الأنظمة في كل أنحاء العالم، وهو بالطبع ليس بالأمر الجديد. تماما مثل فكرة وجود أدب يموله النظام. وقد كتبت دراسات كثيرة عن هذا المفهوم في أطر مختلفة. والتفسيرات الموجودة لمصطلح "أدب رسمي" تجعل منه توجها أدبيا قائما في المجتمعات الشمولية المعاصرة. ويصف الناقد الأدبي دومينيك توماس الأدب الرسمي بأنه نوع أدبي "لا يمكن فصله عن مسار السلطة وموجبات جدواها أدواتها الإيديولوجية". بالإضافة إلى ذلك، في دراسات الأدب والأيديولوجيا في الصين، مثلا، يستخدم الباحثون مصطلحات كمثل "الإدارة الفكر"، و"الهندسة اللغوية" في الإشارة إلى "النشاطات الهادفة إلى جعل فكر الناس يتوافق مع الأيديولوجية الطاغية في وصف جهود الحكومة"..
الدراسة المهمة لدريوس تولسزيك حول الأدب السوفياتي، مثلا، تقدم بنى لتجربة المعسكرات في الأدب السوفياتي الرسمي لإظهار كيف يمكن لـ "أدب المعسكرات السوفياتي كسلسلة من الجهود المستوحاة من الأيديولوجية السوفياتية" أن "تتحدى، وتعيد تصميم وتسيطر على الانطباعات المعنوية الأخلاقية حول المعسكرات من قبل الجمهور السوفياتي."
إن اعتماد تسمية "الشعر الرسمي" في نطاق الجمهورية الإسلامية يجعل وجود هذا النوع بحد ذاته ممكنا في شكله الهادف والأوسع، مع تجنب تصنيفات مضللة ومقيدة مثل "الشعر الإسلامي" أو الشعر المسلم" أو "الشعر الثوري"، وكل من هذه التسميات يحمل معه مجموعة من المضامين الخاصة به، وفيها كلها قصور سببه مفهوم ديني مغلوط وفي معظم الأحيان مضلل.
(...) من الفصل الثالث ( ص 124 إلى 125)
ان "الأطراف" هي توصيف مناسب (للمناطق) حيث نُشرت الرموز الرعوية في شعر الجمهورية الإسلامية، التي تنطلق وتمتد من طهران إلى الولايات. منذ البداية، سعى الخميني لإيقاظ روح ثورية في الأرياف، عبر خطاب جذاب حول تمكين المحرومين والفقراء في بيئات الأرياف والمدن، في وقت كان عدد كبير من الشعب بعيش في المناطق الريفية.
وكان مصطلحا "الريفي" والمستضعف" يستخدمان غالبا في الخطاب الثوري للخميني حول تغيير النظام، يعززهم بمشاعره الدينية للأصالة والمساواة الاجتماعية في سبيل إضعاف أرستوقراطية الشاه الملكية. وفعلا، أعيد تصنيف الزراعة والفلاحة كمهام مقدسة. بعد الثورة، وجنت الأرياف مكافأة جوهرية، وكما يقول الاقتصادي السياسي جواد صالحي أصفهاني، فإن "التحسن في نوعية الحياة في المناطق الريفية كان مهيبا، ويحتمل أن يكون قد أزال مصدرا مهما من اللامساواة الشاملة".
وهو يشير إلى أن "التوجه إلى الفقراء كملهمي الثورة ساعد بقوة الريفيين الإيرانيين للبدء بالإحساس بأنهم مواطنين فعليين".
(...) من الفصل الرابع (ص 183، 200-201، 214)
من أجل تحقيق نشر واسع وفعال للأيديولوجية النضالية الشيعية، كان يتعين نشر أنماط شعرية مناسبة للتأثير على عقول الجمهور الإيراني وقلوبه. . وبصفته أحد أقدم الأنواع الشعرية الفولكلورية في التقاليد الفارسية، انتشر "النويح" (المرثية) في أعقاب الحرب كسبيل لتمجيد الجنود الموتى. وكان العديد من هذه المرثيات ينتج بكثافة وينشر عبر التلفزيون والإذاعات الرسمية، لا سيما في الأفلام الوثائقية التي تتناول الحرب والتي كانت تنجزها الحوز الدينية. بالنسبة للكثير من الإيرانيين الذين عايشوا الحرب، يبقى الصوت المُعذّب لرجل يدعى الحاج صادق أهانغاران (ولد سنة 1957) تذكير حيّ للأذى النفسي الجماعي الذي سببته الحرب. وعلى الرغم من أنه لم يكن ينتمي إلى مدونات شعراء الجمهورية الإسلامية، إلا أن صوت أهانغاران أدّى دورا محوريا في تدوين عدد كبير من الشعر الحربي الرسمي، لنشر الخطاب الشعري الشيعي المناضل..
(....) في مقابلة في وثائقي حول انتاج "الموسيقى الحربية"، يتذكر الموسيقي حسين علي زاده (ولد 1951) زيارته للجبهة مع موسيقي آخر مشهور، محمد رضا لطفي (توفي 2014) ، واصفا الجو هناك بأنه روحاني و مؤثر لدرجة أن يحولك (إلى شخص آخر): "عندما عدنا، لم نكن كما كنا من قبل".
كانت المشاعر الروحانية في شعر الحرب تبدو شاملة بما فيه الكفاية لتلبي مجموعة متعددة الأيديولوجيات في مواقفها إزاء الحرب. حتى الذين رفضوا مفهوم "الحرب المقدسة" أو الجهاد، بقوا منفتحين للتفسير الروحاني للشهادة وأنتجوا أغان تمجد الشهداء كـ "عاشقين" على طريق "المعشوق الإلهي".... وينبع الشبه بين الموت وبين الحب في كونهما يحلان فجأة من دون توقّع. إن الاستعارة الروحانية الراسخة التي تساوي بين الساعين إلى الحق وبين العشاق، والتي استخدمت تكرارا في أعمال كل من الساناي والعطار والمولوي، تم تملكها تماما للإشارة إلى المحاربين القدامى الذين قتلوا في الجبهة في سبيل الوصول إلى الخلاص.
وتسمح الكتابة بأسلوب الأبيات الحرة للشاعر أن يتوقف قليلا كي يسود الصمت لدى الحاجة لذلك. ويترافق الوصف الصادق العنيف والوحشي لمشاهد الحرب، مع حرية الأسلوب ومرونته. تصبح القصيدة فوضوية وعشوائية كما مشهد الحرب، بأبيات يختلف حجم كل منها عن الآخر. ولذلك، يصبح وصف العنف طبيعيا عوضا عن أن يكون مصطنعا، كما كان في الإصدارات السابقة لصور العنف التي تتبع بنى محكمة وتُضفى عليها الروحانية. هنا، فإن البنى المجزأة للقصيدة تشبه الذاكرة المشتتة المتجزأة لشعب صدمته الحرب. في تحليله لشعر الحرب، بعنوان "الإعتداء"، الشاعر الحرب البريطاني روبرت نيكولاس (توفيّ 1944)، يناقش هاورث أن "الشعر الحر واللغة المبطنة المختصرة يستحضران حرارة الموقف العاجل، من دون أي مسعى لتسريع المسار". هذه الملاحظة المتعلقة بالأسلوب تنطبق أيضا على "قصيدة للحرب" لأمينبور، ففي الأبيات الأخيرة من الجزء الثاني كما في ما يلي في الجزء الثالث من القصيدة، يستحضر أمينبور ببلاغة حس من الصمت القسري الذي تفرضه على "لسانه المربوط" أشكال الشعر الحر النخبوية.
(...) من الفصل الخامس (ص 227)
تظهر القصيدة على نقيض صارخ مع "الاستحضار الشعري" للخطاب الروحاني-النضالي الذي بُحث في الفصول السابقة، رافضة اتباع قراءة زيزيك لبيان أدورنو الشهير عن بربرية كتابة الشعر بعد أوشفيتس. عوضا عن ذلك، يبدو سفر زادة متوافقا مع موقف أدورنو، ليس فقط في ما يتعلق بالأثر المخفق للشعر وللغة في الفترة التي تلي الأحزان البشرية الكبرى، وإنما أيضا في الاعتقاد المناهض للوحي بأن "الفن لا يعترف بالحقيقة عبر إعادة انتاجها فوتوغرافيا (حرفيا)، بل عبر التعبير عما تحجبها الأنواع الواقعية للحقيقة". وتعبر قصيدة سفر زادة الحسية عن حقيقة الحرب المرّة عبر رعونة الأحرف، والتي تتحول لاحقا في القصيدة إلى مرض معد وتهاجم الجسد أيضا.
العظمة المصابة بالرضوض الكدمات
الألم في العظمة
وسببه تحمّل الحياة مع الكفرة
هشمتنا أرضا على ترابها
تطير أعلى من أي طيران
أنت الطيران ذاته
(....) من الفصل السادس ( ص 267)
إن الحجم الكبير من قصائد الغزل النيوكلاسيكية والأشكال الكلاسيكية الأخرى في مجموعة من 300 مرثية كتبها الخميني هي قطعا ليست عبثية. فتفضيل الخميني للغزل كنوع شعري كان معروفا أصلا من قبل العديد من الشعراء. مع استعارات مباشرة من شعراء كلاسيكيين مثل حافظ، كان غزل الخميني-الذي لم ينشر إلا بعد عام من وفاته- يجمع بين التوق للإثارة وبين الموضوعات الروحانية. ووجود قصائد الغزل هذه يعكس بالفعل تناقضا في حياة فرد بدا أحيانا على خلاف تام مع دوره السلطوي كرجل دولة ثوري.
(....) من الفصل السابع (ص 30)
خلال موسم النوروز في العام 1990، دعا الخميني مجموعة صغيرة من الشعراء المتشابهين في التفكير، إلى اجتماع رسمي، ومن بينهم حميد سابزيفاري، علي معلم- دمغاني، ومهرداد أفيستا. كانت تلك هي بداية توجه جديد للشعر في الجمهورية الإسلامية، وزراعة البزرة التي ستنمو للتحول إلى ليالي المرشد الشعرية الرسمية السنوية. في البداية، لم يكن عدد الشعراء في تلك اللقاءات الرسمية يتجاوز الأربعين شاعرا. ولكن، بحلول نهاية التسعينات ارتفع حجم تلك الحلقة الوثيقة من الشعراء كثيرا، وأضحى تنظيم الليالي الشعرية أكثر تعقيدا. في العام 1998، تطورت لتتحول إلى مراسم تتوسع بشكل متزايد ومحورها هو الخميني. وقد أطلق منصة أداء إعلامية وطنية، هدفها نشر المبادئ الثقافية والأدبية للجمهورية الإسلامية، وبث متكرر للياليه الشعرية الرسمية في زمان ومكان محددين- وهو حدث يبقى رئيسيا في الجدول الثقافي للدولة حتى اليوم. وسوف أناقش أن الهدف الظاهر لتلك المراسم كان تعزيز سلطة الخميني في ثلاثة محاور: السياسي والديني والثقافي في سبيل الحفاظ على قيادته للجمهورية الإسلامية.
[نشر الحوار في جدلية. ترجمة هنادي سلمان]