نداء الأحمد، "الدولة والنفط والحرب في تكوين العراق"، في كتاب "اقتصاد سياسي نقدي للشرق الأوسط الحديث"، جويل بينن وبسام حداد وشيرين صيقلي (تحرير): (جامعة ستانفورد للنشر، 2020)
جدلية: ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الفصل؟
نداء أحمد (ن. أ.): الدراسات السابقة حول السياسة العراقية المعاصرة، غالبا ما أولت اهتماما بمسائل محددة في الاقتصاد السياسي. ولكن، أعتقد أن غالبية هذه الأعمال اعتمدت أساسا على مجموعة محدودة من المسائل والأطر التي، في سعيها للتطرق لاهتمامات سياسية آنية، أهملت غالبا العمق التاريخي لكيفية تحوّل الاقتصاد السياسي للعراق وكيفية تجلّيه. ولدى القيام بذلك، تغفل تلك الدراسات تعقيد قوة الفعل السياسية والتاريخية التي وجدت دوما في العراق. كما أنها تنتهي إلى إسقاط روابط سببية قوية في غير موضعها الصحيح، وتخفق بذلك في رؤية طواعية آليات السلطة والسيطرة.
يهدف هذا الفصل، جزئيا، إلى إزاحة مركزيّة الدولة والنفط والحرب في فهمنا للاقتصاد السياسي العراقي المعاصر، وفي الوقت ذاته، الإشارة إلى الأدوار التي أدتها كل منها. أحاول أن أظهر أن النفط والدولة والحرب، التي طالما اعتبرت مقولات أو فواعل مركزية في تكوين سياسة العراق واقتصاده السياسي، ليست إلا مؤشرات لثيمات تمكننا من رصد الآليات والصراعات التي جعلت إنشاء وإعادة إنشاء المكونات الاجتماعية مثل الطبقة (الاجتماعية)، والطائفة، وما إلى ذلك ممكناً. ويتعارض هذا مع كيفية تصوير هذه الثيمات في أغلب الأحيان، وكأنها أسباب واضحة لنتائج سياسية.
ج: ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الفصل؟
(ن. أ.): أحاول أن أظهر كيف أعيد التفاوض باستمرار حول العلاقات الاجتماعية مثل الطبقة، والطائفة والأمة والجندر داخل كل من محاور السلطة والحرب والنفط، وكيف تحولت تلك العلاقات باستمرار. وللقيام بذلك، اعتمدت على طيف واسع من الاختصاصات (التاريخ، العلوم لسياسية، الاقتصاد السياسي، وعلم الاجتماع).
ضمن محور "السلطة"، أُظهر من خلال أمثلة ملموسة كيف أن آليات مثل بناء الدولة الحديثة، والدمج، والتوسيع كانت قد بدأت أصلا في القرن التاسع عشر خلال الحكم العثماني. واستمرت الجهود لتدعيم سلطة الدولة، بدرجات متفاوتة من النجاح، منذ ذلك الوقت. وأعتمد على مجموعة من الحالات كي أُبيّن كيف أن الاقتصاد السياسي في العراق تداخل مع جهود تعزيز سلطة الدولة عبر أساليب مختلفة لتوسيع امتداد السلطة عبر البنى التحتية والمشاريع الإنمائية والأراضي والتنظيم السكاني.
وفي ما يتعلق بمحور النفط، أخوض في محدودية "نظرية الدولة الريعية" التي أضحت منذ الثمانينات الإطار الطاغي لفهم سياسات الدول التي تعتمد على النفط في المنطقة. وأبحث في أسباب بروز واستمرارية هذا الإطار النظري، وأقدّم فهما بديلا لدور النفط في فهم الاقتصاد السياسي للعراق. وأقترح أنه لا يمكننا الاكتفاء بالريعية النفطية كعامل وحيد لقدرة السلطة على استيعاب الحياة السياسية وقمعها كما تقول نظرية الدولة الريعية. وأُظهر كيف أن النفط قد مكّن-من دون أن يكون بالضرورة قد تسبب بـ_، كل من الآليات المحلية والدولية التي اتبعت في العراق لتغيير طبيعة السلطة السياسية كما العلاقات الاجتماعية فيه.
إن دور العنف والحرب محبوك في سردية هذا الفصل، ويُظهر مجددا عبر مجموعة من الحالات، أن تأثيرهما لم يكن يوما استثنائيا كما يُصور في الغالب. وعلى سبيل المثال، وفيما أدّت الحروب والعقوبات إلى انكماش سيطرة الدولة على المناطق الحدوديّة في التسعينيات، إلا أنها وفي الوقت ذاته فتحت الباب لأشكال جديدة من السيطرة الاجتماعية للدولة التي أثّرت على تعاملات الاقتصاد السياسي، ومن ضمنها دور ومعنى العلاقات العشائرية في العراق، مثلا.
ج: كيف يرتبط هذا الفصل أو يبتعد عن عملك السابق؟
ن.أ.: إن عملي حتى الآن كان معنيا بمسألة السلطة، كأداة للمعرفة وكتدخل. وقد كتبت عددا من الموضوعات المرتبطة بهذا المشروع، بما فيها مقالة حول إعادة إعمار الشبكة الكهربائية تحت الاحتلال الأميركي للعراق، وما يمكن لهذه التجربة أن تبيّنه حول بناء الدولة وكأنّها تكنولوجيا سياسية، بالإضافة إلى هذه المدونة التي تتناول دراسة عن السلطة العراقية بعد العام 2003. بهذا المعنى، فإن عملي يتناول العديد من القضايا التي تظهر أيضا في هذا الفصل، كمثل كيفية التنازع على السلطة وتحوّيلها في العراق بسبب مساع مختلفة لبناء السلطة وتدعيمها. إلا أنّ اهتمامي في هذا الفصل تركّز أساسا على مسائل الاقتصاد السياسي وكيفية تحديدها في مواقع مختلفة من السياسة العراقية المعاصرة.
ج: من تأملين أن يقرأ فصلك و\أو الكتاب، وما هو الأثر الذين ترغبين أن يخلّفه؟
ن.أ.: آمل أن يقرأ هذا الكتب (وفصلي فيه) الطلبة، والزملاء، وأي شخص معني بفهم السياسة والاقتصاد السياسي في العراق وفي الشرق الأوسط. كما آمل أن تشجع هذه المجموعة (من الفصول) على إعادة التفكير بالتصنيفات وأطر العمل التي تستخدم بشكل عام شائع لصوغ تأطير الأسئلة عن الشرق الأوسط.
ج: ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها حاليا؟
ن. أ.: أعمل الآن على مشروع كتاب بعنوان مبدئي هو : "شؤون الدولة: نحو نظرية للدولة وخبرائها من خلال التجربة العراقية." وهو يتناول مسائل حول بناء الدولة كنوع من خبرة المعرفة التدخليّة، وعلاقتها بأشكال الإنتاج المعرفي في الأكاديميا حول الدولة بشكل عام، والعراق ودول الشرق الأوسط بشكل خاص. أبدأ بهذا المشروع من نقطة تناقض. فغزو العراق بقيادة الولايات المتحدة في العام 2003 سعى لتعزيز قدرة الدولة وتحويل العراق إلى بلد ديموقراطي ليبرالي. والتجربة في العرق كانت مبنية على خبرة بناء الدولة، حيث استشير ووظف خبراء أكاديميون في مجالات نص الدساتير، والتحول الديموقراطي، والاقتصادات النفطية، للعمل على عدد من مشاريع بناء الدولة. في العام 2006، انهارت الدولة، مما أدى إلى اندلاع الحرب الطائفية الأولى في العراق. يتناقض فشل المشروع الأميركي مع قدرة النظام البعثي (1963-2003) على الحفاظ على الدولة كما هي، على الأقل ظاهريا، على الرغم من عقود من الحروب والقصف (1980- 1989، 1990-1991، 1998) بالإضافة إلى أكثر من عقد من العقوبات الاقتصادية الدولية الشاملة (1990-2003). كان يفترض أن تؤدي هذه الضغوط الخارجية إلى انهيار الدولة. هذا المشروع يقترح أن دراسة هذا التناقض يعني إعادة النظر في فهمنا للدولة وعلاقتها بالخبرة المعرفية والأنواع المعرفية الأخرى.
مقتطفات من الفصل
كان كتاب حنا بطاطو "الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق" لفترة طويلة العمل الأبرز في دراسات السياسة العراقية واقتصاده السياسي، على الأقل في العالم الناطق بالإنجليزية. والذي يتميّز بتحليله للحركات والصراعات السياسية المبنية على الطبقية. منذ نشره، باتت معظم الأعمال الأكاديمية حول العراق تتناول الدبلوماسية أو التاريخ السياسي، في حين هيمنت على دراسات الاقتصاد السياسي في العراق منذ مطلع الثمانينات نظرية الدولة الرعوية. دفع سقوط النظام البعثي في 2003 أسئلة تتعلق بالهوية الوطنية العراقية، والطائفية، وإذا كان العراق اختراعاً استعمارياً وبالتالي دولة مصطنعة أو لا، دفع هذه الأسئلة إلى الواجهة. وقام الباحثون أيضا بإعادة دراسة الحقبة البعثية في مجالات الحكم، وتدخل الحزب في الحياة اليومية للعراقيين، بالإضافة إلى مخلفات تأثير إرث الحرب الإيرانية العراقية. ولكن الاقتصاد السياسي للطبقات الاجتماعية الذي بدأه بطاطو قبل أربعين عاما لم تتم مراجعته منذ ذلك الوقت.
أضحى انجاز إفادات مفصّلة اجتماعيا حول الاقتصاد السياسي للعراق أكثر صعوبة بعد ظهور نشر كتاب بطاطو. وبالتالي، هيمنت نظرية كبرى تعمل على مستوى سياسات الدولة وتركز على دور الدولة، على تشكيل طبيعة الاستقصاء حول العراق واقتصاده السياسي. ولا يعود ذلك بالضرورة لدورها كـ "مركز للجاذبية" في السياسة العراقية، بل هو نتيجة لقيود الدولة على البحث الأكاديمي عن العراق ومنه.
ثلاث قضايا – السلطة والنفط والحرب-طبعت كلاً من السياسة العراقية والدراسات العراقية على امتداد العقود الماضية. وبرزت هذه القضايا من تاريخ العراق الحديث وكيفية تصويره في العالم الأكاديمي. ويمكن رصد التحولات في الدراسات العراقية من خلال عاملين مترابطين: إمكانية الوصول إلى مصادر أوليّة، والسياق السياسي في ذلك الوقت.
وأدت القدرة المحدودة على الوصول إلى مصادر أوليّة، كما القيود على الحرية الأكاديمية داخل العراق لاسيما خلال حكم البعث (1963- 2003)، إلى إنتاج تأريخ سياسي وديبلوماسي لا تستند بقوة على أبحاث اجتماعية عملية أو أرشيفية لتعذّر ذلك. وعلى الرغم من تلك الصعوبات، فقد قام عدد من الاقتصاديين العراقيين، لاسيما عصام الخفاجي وعباس النصراوي، بمعالجة مسائل الاقتصاد السياسي خاصة المتعلقة بالسياسات الحكومية وتشكّل الطبقات الاجتماعية خلال تلك الفترة.
لكن قضايا الاقتصاد السياسي أصبحت عموما تحت هيمنة بروز نظرية الدولة الرعوية كإطار لفهم الاقتصاد السياسي للدول التي تعتمد على النفط في الشرق الأوسط خلال السبعينيات والثمانينيات. وتجلى ذلك أيضا في الأبحاث حول العراق، لاسيما خلال الثمانينيات.
في مراجعاتهما المشتركة والمنفصلة لتأريخ العراق، يشير كل من ماريون-فاروق سلغليت وبيتر سلغليت إلى بروز أعمال أكاديمية لها غايات سياسية تؤيد نظام البعث العراقي. وكان الثنائي سلغليت من بين العديد من الباحثين الذين أنتجوا أعمالا تنتقد النظام. ولكن ربما كان كنعان مكّية هو أكثر معارضي البعث شهرة، وهو كاد يعكس الكتابات المؤيدة للبعثيين في تصويره لاستبدادية النظام. وبسبب استقطابه السياسي، "سعى الباحثون كما الساسة لتبسيط تعقيدات وغموض تلك الفترة (من حكم البعث) الممتدة على طول 35 عاما، معتبرا أن النظام السابق قضى على كل من المجتمع والسياسة، تاركا العراق ما بعد الغزو كلوح أبيض.
شهدت دراسات العراق تحولا رئيسيا في أعقاب الغزو الأميركي في العام 2003. وفي حين أتلف عدد كبير من المواد الأرشيفية أو ضاع خلال حرب 2003 ، أصبح جزء من أرشيف حزب البعث متوفرا الآن للبحث العلمي. لم تعد القيود الرسمية على الحرية الأكاديمية موجودة. ولكن، وخلال العقد الأخير، عانى العراق من ظروف عنيفة أبرزت تحديات جديدة. وتبقى فرص الوصول إلى مصادر أوليّة أو العمل الميداني، أو القيود التي تحد منه، مرتبطة جزئيا بالظروف السياسية ذاتها التي غذّت الأبحاث الحديثة عن العراق. وهي تتضمن: انهيار مؤسسات الدولة والفوضى الفوريّة التي تلت غزو العام 2003، اجتثاث البعث من المجتمع العراقي ، عنف طائفي وصل إلى حد حرب أهلية في العام 2006، تهديدات "الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش) بمحو حدود العراق التي كانت رسمتها، بحسب خطابها، قوى استعمارية، النظام السياسي الجديد القائم على الفدرالية والتوافقية، بالإضافة إلى المفاوضات الدائمة المتواصلة حول وضعالمناطق الكردية في حياة العراق السياسية والاقتصادية.
أحاجج بأن السلطة والنفط والحرب هي قضايا مترابطة عوضا عن كونها فئات محدِّدة بشكل حاسم تحدد بعض آثار الاقتصاد السياسي. إنها عوامل فاعلة في المسار التاريخي الذي تضمن، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، نشأة علاقات اجتماعية غالبا ما تكون منظمة بناء على مقولات مفاهيمية مثل الطبقة الاجتماعية، والطائفة، والأمة، والجندر. هذه العلاقات الاجتماعية غذت بعضها البعض وشكلت بعضها البعض ضمن أطر مادية وتاريخية معيّنة.
وفي ما يلي، ساتوسع في الروابط بين الدولة والنفط، وأتعقب تأثير الحروب والنزاعات المسلحة، وأناقش تحوّل العلاقات الاجتماعية، لاسيما الطبقية منها".
[نشر الحوار بالإنكليزية على جدلية. ترجمته هنادي سلمان]