مكتظٌ بالحيواتِ
أنا أنا، وأنا سواي
وفيَّ القليلُ مني، وكثيرٌ عَداي
وكم قال لي أبي: كن واقعيًا
فكنتُ
لكن واقعي ليس ما وقع لي، بل ما وقعتُ عليه
فتجسدتُ وتقمصتُ وتحولتُ ونُسختُ
وتبدّلتُ وتمظهرتُ ومُسِخْتُ
ولم أكتفِ
وتفرعتُ وتبرعمتُ وتقسّمتُ وتوزعتُ وتفتتتُ وتجزأتُ وتشظيتْ
وتعدّيتُ وانتشرتُ وتفشيتْ
فكنتُ الذي انتحبَ في المونيمنتال وهَسْتَرَ في البومبونيرا
وكنتُ الدركيَّ الذي واربَ بابَ القصرِ لابن زيدون
وأنا الذي قال للتي استنشقت الغازَ المسيلَ في جادة فوش في مايو 1968: سنُعطبُ كثيرا أيتها الغريبة
وأنا الذي تصبّبَ عرقًا مع بوليفار في الغابةِ الأخيرة
وأنا المحرّرُ المغمورُ الذي أجاز (الغريبَ) في غاليمار
وأنا الذي قال لدوبوفوار في المقهى خُلاسيّ الإضاءة: لنكن صديقين وحُرّين
وأنا الذي قرأ ستيفنسون لبورخيس
وأنا عمة توم سوير ومن تَبَنّى آن الحالمة
وأنا أليكسي كارامازوف وأنا شقيقاهُ
وأنا ابن زوربا ورقصتهُ العارمة
وأنا الذي كنتُ على بعدِ عشرةِ أمتار من توسكانيني وهو يزفُّ كمنجات السادسةِ لعُرسِ قلبي
وأنا الذي كنتُ على يسارِ خليل حاوي في تونس، ووحدنا كنا في قشعريرةِ الظلِ العالي
وأنا الذي دللتُ أبا مسلم على الطريق إلى بغداد
وأنا الصوتُ الذي قال للنوّاب في أمسيةِ الشامِ: أَعِدْ أعِدْ
وأنا الذي صفَّق طويلًا في السانتياغو، لثاني رونالدينو، وكان راموس مجرّد جرو صغير
وأنا أخت غريغوري سامسا، ورأيتُ كل شيء
وأنا الذي نسخ المثنويّ بتبريز بخطٍ فارسيٍّ حزين
وأنا الذي حجزتُ الحجازَ كله بحنجرتي عندما أذّنتُ في إِزمير
وأنا الذي أطلق النارَ على إسكوبار
وأنا خامسُ خمسةٍ من الذين صمدوا في عيتا الشعْب
وأنا فيرتر الذي قال لغوته: لقد بالغت كثيرًا
وأنا الذي بصقَ على موكبِ السادات في تل أبيب، وكنتُ أبكي
وأنا الذي صوّر ديانا عند بابِ الريتز، وكنتُ منتشيًا كحيوان
ولستُ معْنيًا بإقناعكم بأنني كلُّ ما قلتُ
لأنني لا أستطيع إقناع نفسي
بأنني لستُ الذي شَدَّ المَراويس لمُحيي الهوى في شتاءِ الدخينة
أو أنني لستُ الذي غَنّى (يا نديم الصبوات) في ليلةِ صيفٍ حضرمية
أو أنني لستُ أمازيغيًا ولستُ من وهران
وأنني لستُ الذي فجّر عناقيدَ الكلامِ في (دَعْ عنكَ لومي)
لأنني أنا الذي نجوتُ من قاعةِ الخلدِ وكنتُ غيرَ مصدِّق
ولكم ألا تُصدّقوا
لكنني الذي صرخ في بيت يوسف الخال بُعَيْد حزيران قائلا:
Avant-garde my ass
وأنا الرّجاوي الذي ضرب الوداديّ بالجزمةِ وكنتُ سكرانًا وغاضبًا
وأنا الذي راقبتُ الطريقَ لبانكسي في الليل، وكدنا أن نُصادَ مرارًا
وأنا الذي كِدْت أموت في ظفار والجهراء وانتفاضة شعبان وفي ربيع براغ وستالينغراد وفي الغارنيكا
ولم أمُتْ
لأنني لم أشْبَع من الحياة
عشتُ الذي عِشْتهُ ولم أعِشْهُ
وعِشْتُ عَيْشَ الآخرين
وكنتُ اليسارَ وكنتُ اليمين
وكنتُ النقيَّ وكنتُ الهجين
وكنتُ ما كُنْتهُ ولم أكُنْهُ
متفرقًا بين الأقاليم
عصِيّاً على الحَصْرِ، منيعُ
وأنا الذي إن أَمْلى عليّ اليمامُ وداعتَهُ لا أطيعُ
لأنني لا أستطيع
أن أكون اليمامةَ والريحَ معًا
وأنا الذي إن زجرتني الدنيا لا أرعوي
ولا أنزوي
في داخل داخلي
ولستُ مع النظامِ، أي نظامٍ، على وفاق
وهوايتي أن أعيش الصورَ وأتماهي مع الأصوات وأجنّن المعقول وأُعَقْلن المجنون وأنكح المواءمات وأكفر بالتوازنات وألعن أم السياق
ولا يهمني
ساءَهُم مني ما ساء
وراقهم مني ما راق
لا أنصتُ إلا للذي يخفق من وَلَهٍ خلف ضلوعي
شيءٌ فوق التطفلِ والفضولِ
أسميه اللهفة
طالعًا إلى كوكب التخيُّلِ
لا شيء يسبق طلوعي إلا تَطَلُّعي
ثابتًا على أملٍ ماسيِّ الخامة
وثباتي يغلبُ تثبُّتي
هائجًا كتفتُّح وردةٍ
عنيدًا كنهرٍ
واقعي ما حَلمتُ وتخيلتُ
وحياتي ما حَدِسْتُ وخمَّنتُ
وأنا رفيقُ هذا البنفسجيّ الأفق سحريّ المآل
وأنا صديقُ هذا الذي ما مرَّ ببال
أنا عبدُ هذا الخيال