من هم حكام ليبيا الجدد؟

[طرابلس، 17 فبراير/شباط 2021. وصول الوزير الأول الجديد عبد الحميد الدبيبة إلى ساحة الشهداء للاحتفال بالذكرى العاشرة لثورة 2011.] [طرابلس، 17 فبراير/شباط 2021. وصول الوزير الأول الجديد عبد الحميد الدبيبة إلى ساحة الشهداء للاحتفال بالذكرى العاشرة لثورة 2011.]

من هم حكام ليبيا الجدد؟

By : Arabic Editors

جلال حرشاوي

مكن اتفاق أولي من التغلب على الانقسامات التي تنهش ليبيا منذ سنوات. فمن هم قادة ليبيا الجدد؟ وهل يتمتعون بالإمكانيات اللازمة لإعادة بناء البلد؟

في الخامس من فبراير/شباط 2021 في جنيف، انتخب 74 مندوباً سبق أن اختارتهم الأمم المتحدة في إطار منتدى الحوار السياسي الليبي أربع شخصيات كُلّفت بقيادة حكومة مؤقتة جديدة. وقد اختير عبد الحميد الدبيبة البالغ من العمر 62 عاما رئيساً للوزراء، وهو شخصية مثيرة للجدل لم يكن يُعتبر ترشحها قويّا بما يكفي لتفوز حقاً. الدبيبة رجل أعمال مهم من مصراتة -في الغرب الليبي- يتمتع الآن بأجل أقصاه 26 فبراير/شباط لتشكيل حكومة. وإذا تمت المصادقة عليها، فمن المتوقع أن تتولى السلطة في مارس/آذار المقبل حتى إجراء الانتخابات العامة في 24 ديسمبر/كانون الأول أو -هو الأرجح- في تاريخ لاحق.

تمّ اقتراح الآلية المستخدمة لتعيين رئيس وزراء وسلطة ثلاثية – إذ يعد المجلس الرئاسي ممثّلا عن كل محافظة من المحافظات الليبية الثلاث – من طرف منظمة الأمم المتحدة كوسيلة لإخراج ليبيا من حرب أهلية باتت ذات بعد دولي. والهدف هنا هو إثبات إمكانية حكومة موحدة من الصمود على الرغم من الانقسام المستمر على أرض الواقع.

طوال عدّة أشهر وحتى ربيع 2020، شنّ المشير خليفة حفتر البالغ من العمر 77 عاما والمتمركز في شرق ليبيا، هجوما عسكريا ضد الميليشيات المسلحة المتحالفة مع الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، وذلك بمساعدة نشطة من المرتزقة الروس ومن غيرهم من الأجانب، لا سيما الضربات الجوية الإماراتية. وفي يونيو/حزيران من نفس السنة، نجحت طرابلس بمساعدة عسكرية من تركيا ومرتزقتها السوريين في طرد كتائب حفتر الرئيسية وحلفائه من شمال غرب ليبيا.

أمّا اليوم، فقد صارت كلّ من المهمّة العسكرية التركية في الشمال الغربي والقوة الروسية في الوسط خارج سيطرة الليبيين، لكن هذه البعثات الميدانية تساعد في تحقيق توازن القوى. فقد سمح الهدوء النسبي الناتج عن هذا التوازن للأمم المتحدة بالترويج لإعلان وقف إطلاق النار مرات عديدة وإطلاق برنامج منتدى الحوار السياسي الليبي خلال الخريف الماضي.

توقّع عديد المراقبين أن تُسنَد الوزارة الأولى إلى فتحي باشاغا البالغ من العمر 58 عاما، وهو أيضا أصيل مصراتة ويشغل منصب وزير الداخلية الحالي في حكومة طرابلس. وفي سنة 2020، عندما تبيّن أنّ التدخل العسكري التركي سوف يقلب موازين القوى، تبنّى باشاغا بتفاؤل فكرة من أفكار الإخوان المسلمين، تتمثّل في مدّ اليد إلى شخصية بارزة ومعترف بها في المعسكر المقابل، تقع منطقة نفوذها في برقة، في النصف الشرقي من ليبيا. وهكذا دخل باشاغا في شراكة مع عقيلة صالح عيسى، رئيس برلمان شرق البلاد. وعلى الرغم من أن صالح -المدعوم من مصر- لم يبتعد أبدًا بشكل أساسي عن حفتر، إلا أنه غالبًا ما كان محاورا أقلّ عدوانيّة إلى حدّ ما من المشير المدعوم من الإمارات.

يعود السعي إلى تحقيق الوفاق مع صالح إلى ربيع 2018، عندما بدأ خالد المشري -زعيم الحزب السياسي الليبي المرتبط بجماعة الإخوان المسلمين- في إجراء حوار مع رئيس البرلمان بُعيد توليه رئاسة المجلس الأعلى للدولة في طرابلس. كان الرهان -الذي تم إحياؤه بعد فترة وجيزة من هزيمة حفتر سنة 2020- يتمثّل في أنّ تحقيق موقف تصالحي سوف يمنح باشاغا -حليف مشري التكتيكي- إمكانية الارتقاء إلى منصب أعلى، وذلك بفضل عملية السلام التابعة للأمم المتحدة.

لكن الخطّة لم تتحقق. ذلك أنّ القائمة التي تضم باشاغا كرئيس للوزراء وصالح كرئيس قد خسرت الرهان أمام القائمة التي تضم الدبيبة ورفاقه. وبدلاً من وزير الداخلية المعروف بخطابه ضد الفساد، نجد أنّ رباعيّاً مجهولا نسبيّا هو الذي انتصر. وقد يسمح لنا فحص سريع للمسار الذي قطعه هؤلاء بتفادي الوقوع في تبسيطات مشطّة.

فترة الوفرة

من بين المندوبين الـ 74 الذين صوّتوا في مطلع شهر فبراير/شباط في جنيف باسم الشعب الليبي، يوجد علي إبراهيم الدبيبة، البالغ من العمر 75 عامًا، وهو أحد الليبيين الأكثر ثراءً، ولكن أيضا صهر عبد الحميد الدبيبة. وبفضل الدعم الاستراتيجي الذي قدّمه للوزير الأول الجديد، باتت لعلي الدبيبة أهمّية كبيرة.

يقول الليبيون الذين كانوا على صلة مع علي في ذلك الوقت إنه اكتسب ثروته الهائلة في العقد الأخير من عهد معمر القذافي بفضل امتيازاته كموظّف سام في نظام ما قبل 2011. ومن مجرّد مدرس جغرافيا صار عمدة مصراتة في السبعينيات. وعلى مر السنين، أكسبته نجاعته كإداريّ ماهر قربًا خاصًا من المستبد الليبي آنذاك. وقد جعل منه الأخير في عام 1989 رئيس منظمة تطوير المراكز الإدارية، وهي مرفق عمومي يشرف على تطوير البنية التحتية في جميع أنحاء البلاد. وقد سمحت عملية تطبيع العلاقات الليبية مع الولايات المتحدة وبريطانيا انطلاقا من عام 2003 بالرفع التدريجي للعقوبات الدولية، وهو ما تزامن مع ارتفاع أسعار النفط. وقد أدّى اقتران الأمرين إلى الدخول في حقبة من الازدهار الاستثنائي.

لقد أنفقت ديكتاتورية القذافي عشرات المليارات من الدولارات على مشاريع البناء، والتي مُنِح أغلبها لشركات صينية وتركية. وقد مكّن الزعيم الليبي علي الدبيبة من لعب دور مركزي في توزيع هذه العقود والإشراف عليها من خلال المنظمة من أجل التنمية للمراكز الإدارية. ومن المرجّح أنّ مسؤولياته قد تمثّلت في الإشراف على العمولات وغيرها من المخططات السرّية المرتبطة بها.

تغيير المعسكر

وبحلول عام 2006، كان وضع علي الدبيبة باعتباره مقربا من القذافي قد مكّن ابن عمه وشريكه المقرب عبد الحميد –وهو مهندس مدني حاصل على شهادة من جامعات كندا- من الارتقاء إلى رئاسة الشركة الليبية للاستثمار والتنمية القابضة، وهي جهاز آخر للاستثمار العقاري، تدفقت عبره مليارات الدولارات من الخزينة العامة.

وأثناء سنوات الوفرة هذه التي سبقت الانتفاضة الشعبية ضد القذافي، أقامت عائلة الدبيبة أيضًا علاقة تجارية مع مهندسة معمارية تحمل اسم نادية رفعت، زوجة مهندس معماري آخر من طرابلس هو فايز السراج، الرئيس الحالي والوزير الأول الليبي المعترف به من قبل الأمم المتحدة. كانت نادية رفعت -التي هي من أقرب الأقارب لزوجة القذافي الأولى- قد شغلت مسؤوليات كبيرة في مكتب مشاريع محافظة طرابلس في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبهذه الصفة، قرّرت منح الكثير من أعمال البناء إلى الدبيبة. وهكذا يبيّن الارتباط بين السراج والدبيبة بوضوح قدرة بعض النخب الليبية على التجدد رُغم الاضطرابات السياسية.

وخلال نفس العقد من الألفية الثالثة، عمد معمر القذافي في محاولة منه لتقديم ابنه سيف الإسلام كخليفة محتمل، إلى منحه الوسائل الكفيلة بترويج صورته كمصلح حديث ومتسامح. وفي عام 2004، دفع النظامُ سيف الإسلام إلى إطلاق مشروع ضخم أُطلق عليه اسم “ليبيا الغد”، كان الهدف منه تحرير البلاد على ثلاث جبهات: اقتصادية واجتماعية وسياسية. وقد اعتمد الجانب الاقتصادي لليبيا الغد -وخصوصا فيما يتعلق بالاستثمارات العمومية- على منظمة تطوير المراكز الإدارية والشركة الليبية للاستثمار والتنمية القابضة. وأمّا الوجه السياسي فقد تمثّل، من بين أشياء عديدة، في تنسيق عملية ذوبان الجليد مع جماعة الإخوان المسلمين، وهي عملية لعب فيها إسلامي سياسي من بنغازي مقيم في الدوحة منذ 1999 اسمه علي الصلابي دورًا مركزيًا. وقد كانت ليبيا الغد التي أشرف عليها سيف الإسلام هي الإطار الذي تعرفت من خلاله عائلة الدبيبة على الصلابي والإخوان المسلمين الآخرين.

عندما اندلعت اضطرابات فبراير/شباط 2011، كان علي الدبيبة في الخارج وتردد لبضعة أسابيع حول مساندته لطرف ضد الآخر. وبسبب مصالحه الاقتصادية الكبيرة في ليبيا، كانت غريزة أنقرة الأولى هي معارضة التدخل الذي كانت تدعو إليه واشنطن والدوحة وباريس ولندن. أمّا عبد الحميد الدبيبة الذي كان في ليبيا، فقد قدّم نفسه بوصفه وسيطا بين طرابلس وأنقرة. كان التفكير المعلن هو تحفيز الأتراك على التمسك بالقذافي من خلال تسريع المدفوعات على العقود الحالية. لكن الإصرار الأمريكي ساعد في إقناع أنقرة بالانضمام إلى عملية حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، وانقلبت مجموعة الدبيبة على رئيسهم. وهكذا أسقطوا فجأة الوعود التي قطعوها تجاه القذافي كجزء من المفاوضات مع تركيا، وبدلاً من ذلك، ضخوا مبالغ كبيرة لفائدة التمرد المسلح في مصراتة. وخلال الحصار الطويل والقاتل الذي قامت به القوات النظامية، تلقت المدينة مساعدات من قطر على شكل أسلحة وإمدادات إنسانية يتم شحنها عبر مدينة بنغازي الشرقية بتنسيق من الصلابي. وحافظت عائلة الدبيبة على هذه الصداقة مع كل من صلابي وقطر حتى اليوم.

غالبًا ما تثير الروابط المذكورة أعلاه اتهامات بأن عائلة الدبيبة سوف تحاول الدفاع عن أيديولوجية الإخوان المسلمين. لكن قوتهم وثروتهم تغنيهم في الواقع عن خدمة مشروع إسلاموي ما، سواء كان محليا أو عابرا للأوطان. صحيح أن العلاقة مع تركيا أساسية، لكنها لا تستبعد الترتيبات مع مراكز القوة الأخرى. وعلى سبيل المثال، فكان عبد الحميد -كرجل أعمال- يتمتع بعلاقات وثيقة مع نظرائه الروس. كما أنّ ممتلكات علي الدبيبة في قبرص تعد أيضا شراكات روسية.

وفي فبراير/شباط 2013، بدأ مكتب النائب العام في طرابلس عملية اتهام ضد علي، لكن الجهود تلاشت. وفي عام 2016، اتهمت سلطات طرابلس علي باستخدام المال العام لشراء عقارات في اسكتلندا خلال سنوات القذافي. وبشكل منفصل، زعمت صحيفة مقرها تورونتو أن بعض ثروة علي كانت موجودة في كندا.

منذ عام 2014، قامت عائلة الدبيبة -بما في ذلك عبد الحميد- بتمويل كتائب مصراتية في لحظات الأزمة، مثل حرب المدينة الساحلية عام 2016 ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سرت. إنّ مكانة علي كواحد من أكثر الرجال نفوذاً في مصراتة مكّنته في كثير من الأحيان من تشكيل جوانب من المشهد السياسي والأمني في طرابلس من دون الظهور في الصدارة. لكن انطلاقا من عام 2017، عندما دعت الفصائل الليبية المتنافسة إلى إجراء انتخابات تدعمها الأمم المتحدة، بدأ ابن العم الأصغر عبد الحميد السفر وتسويق نفسه صراحة باعتباره سياسيًا كامل النفوذ. ولكن بسبب صورته كرجل أعمال غامض، نادرًا ما تم أخذ طموحه الجديد على محمل الجد - حتى هذا الشهر.

رجل برقة

بصرف النظر عن رئيس الوزراء المكلف، هناك جانب آخر جدير بالملاحظة في نتيجة 5 فبراير/شباط وهو شخصية الرئيس المعين، محمد يونس المنفي، البالغ من العمر 44 عامًا والذي سيمثل برقة الآن على رأس الدولة. هذا العضو السابق بالبرلمان والدبلوماسي، والذي أجرى زيارة ذات مغزى رمزي إلى بنغازي ليلتقي حفتر في 11 فبراير/شباط، لا يُعرف عنه سوى أنه لم يكن متحمسًا لتحركات المشير الميدانية المختلفة منذ عام 2014. وهذا يعني أن العضو الوحيد من المجلس الرئاسي المكلّف بتمثيل برقة هو بيروقراطي محايد نسبيًا وغير معروف، ولا يحظى بأي تجذّر سياسي أو اجتماعي عند أقوى فصائل برقة. وبالتالي، يبدو أنّ شعوراً بخيبة الأمل والإقصاء قد خيّم على البعض من الموجودين في الشرق، ومن المحتمل أن يؤجّج ذلك الخطاب الانفصالي.

المنفي ليس إسلاميا. وقد سمح عدم امتلاك ماض ثقيل لهذا الوافد الجديد بالانخراط في السياسة بشكل مستقل تقريبًا عن العداءات والولاءات التي مزقت البلاد في السنوات الأخيرة، وقد يرى نفوذه يتزايد في برقة. وينوي حفتر -الذي استعاد نشاطه بفعل إضعاف صالح- وضع رجاله في مناصب عليا في الحكومة الجديدة، لكن قد يتمكن منفي من التصدي بتأنّ لهذا الاحتكار فيما يتعلق بالشرق. ولن يكون ذلك بالتدخل في التحالف المسلح لحفتر، ولكن ببساطة من خلال تجسيد بديل سياسي في برقة مع القدرة على قضاء بعض الوقت في طرابلس.

احتكار إسلامي؟

بعد لحظات فقط من صدور نتائج عملية الأمم المتحدة في الخامس من فبراير/شباط، صوّر عضو برلماني مصري اسمه مصطفى بكري انتصار الدبيبة على أنه مؤامرة ناجحة من قبل الإخوان المسلمين. وينبني التفسير الذي روج له بكري وآخرون على وهم أن قائمة باشاغا-صالح كانت ستصبح حصنًا أقوى ضد الإخوان المسلمين.

من المؤكد أن مجموعات فرعية من جماعة الإخوان المسلمين الليبية قامت بالمناورة وراء الكواليس لتقويض المنافس الرئيسي لقائمة الدبيبة، أي القائمة التي تضمنت صالح. لكن العديد من القوى الأخرى، بما في ذلك أعداء الإسلام السياسي، ضغطت وشاركت في مفاوضات في الكواليس أيضًا.

من بينهم رجل أعمال ثري اسمه عبد المجيد مليقطه، مقيم في الأردن. ولد مليقطه في طرابلس، وله جذور في الزنتان، وهي بلدة صغيرة لكنها قوية عسكريا في جبال نفوسة، بالجنوب الغربي من طرابلس. في أعقاب الثورة، دعم مليقطه الراحل محمود جبريل، وهو زعيم كاريزمي كان مناهضا للقذافي كما عارض الإسلام السياسي بشدة حتى وفاته سنة 2020. ونجد في نفس هذه الدائرة مصرفيًا سابقًا باسم عبد الله اللافي من مدينة الزاوية الساحلية، غرب طرابلس. ومن المعروف أن اللافي عضو برلماني منتخب، قليل الشعبية إلى حد ما وليس شديد الاستقطاب، وهو ينتمي إلى قبيلة أولاد الصقر ولا يتعاطف مع الإخوان المسلمين.

بفضل الأسلحة والمعدات التي قدمتها أبو ظبي، قاد عثمان شقيق مليقطه إحدى أهم الميليشيات في منطقة طرابلس، إلى حد طردها من قبل تحالف بقيادة مصراتة في عام 2014. تسببت الكارثة في إبعاد الأخوين المليقة عن المشهد الليبي لكنهم لم يقطعوا روابطهم الوثيقة مع الإمارات.

عندما بدأت جهود السلام للأمم المتحدة في صيف 2020، أخذ عبد المجيد مليقطه على عاتقه الترويج لترشيح صالح للرئاسة، وأيد ضمنيًا مسرحية باشاغا -صالح. وفي أواخر أكتوبر/تشرين الأول، حضر عثمان مليقطه سلسلة من الاجتماعات في إسطنبول وفق أحد المطلعين الليبيين في تركيا. وقد كان من بين المشاركين في تلك المحادثات الصلابي وباشاغا.

من هناك، شعر الكثيرون أن مجموعة باشاغا -صالح أصبحت الآن آمنة ومستعدة للفوز. حتى أن باشاغا ذهب إلى القاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني. لكن قبل جولة جنيف الأخيرة، تحول الشقيقان مليقطه إلى الجانب المقابل وضحّوا بصالح. أما باشاغا، فإن عدم انتمائه إلى الحكومة المؤقتة يسمح له بخوض الانتخابات العامة. حتى قبل التصويت الذي نظمته الأمم المتحدة، أبلغ المجلس العسكري الزنتان الموالي لحفتر والمجتمعات ذات الميولات القذافية، مثل المشاشية والصيعان، شيوخ الزاوية بدعمهم للافي كممثل لطرابلس. تضاف هذه القرائن إلى التقارير التي تفيد بأن مندوبين آخرين متحالفين مع حفتر انتخبوا قائمة الدبيبة، مما يفند الفكرة القائلة بأن نتيجة المنتدى كانت عبارة عن انتصار الإخوان المسلمين.

يشترك كل من الدبيبة والمنفي واللافي في القدرة على الابتعاد إلى حد ما عن خطوط الصدع القديمة. يمكن قول الشيء نفسه عن نائبهم موسى الكوني، وهو دبلوماسي من الطوارق وموال سابق للقذّافي سيمثل الإقليم الجنوبي الغربي لليبيا في المجلس الرئاسي الجديد، وهي الوظيفة التي قام بها في عام 2016 في عهد السراج قبل استقالته احتجاجًا. وخلاصة القول، وعلى الرغم من أن الدبيبة قريب من بعض الميليشيات، فمن الأفضل وصف كل من المرشحين الأربعة بأنهم مدنيون عرضة لترتيبات المقايضة وليسوا زعماء حرب. ما يبدو ظاهرا على السطح في ليبيا هذا العام هو اتجاه جديد، وطريقة مختلفة للتنقل في السياسات المتعثرة. هذا النهج الجديد له حتماً مآزقه وفوائده المحتملة.

نحو اقتصاد سياسي مختلف

قال مسؤول في الأمم المتحدة لم يشأ التصريح عن اسمه لصحيفة “ذي إيكونوميست” (The Economist) إن عبد الحميد الدبيبة “سيحاول ملأ جيوبه قدر استطاعته”. وعليه يجب مراقبة الفساد المحتمل في الحكومة المقبلة، وهي مشكلة طويلة الأمد شهدتها كل الإدارات المتعاقبة في كل من طرابلس والشرق على مر السنين. لكن في الأشهر المقبلة، ستكون تفاعلات هؤلاء المسؤولين مع الدول الأجنبية بمثابة دليل أكثر أهمية لقدرة ليبيا على إيجاد نمط مستدام للحكم.

قبل أيام قليلة من تصويت الخامس من فبراير/شباط، دعا السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة روسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة إلى وقف جميع التدخلات العسكرية في ليبيا. ومع ذلك، لا ينوي أي من هؤلاء المتطفلين الثلاثة الكبار التوقف والابتعاد عن ليبيا. تستعد روسيا وتركيا -على عكس الإمارات العربية المتحدة التي تتصرف أساسا بدافع أيديولوجي -للاستفادة من وجودهما العسكري في ليبيا لجني الفوائد الاقتصادية في شكل عقود باهظة الثمن في مجال الطاقة والبناء. مثل هذا الضغط من الأطراف الخارجية قد يجعل من الصعب على الحكومة الجديدة تجنب الارتفاع الكبير والخطير في النفقات العامة.

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت] 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬