وجدتُهُ في مكتبة تبيع الكتب المستعملة، موضوعًا فوق صفٍّ طويلٍ من الكتب. جذبتني الرسوم على غلافه، وعنوانه: رحلات ويوميات أمبروزيو بيمبو(*). فتناولته متصفحًا، فإذا بي أرى تخطيطًا لبغداد، تصفحتُ المزيد فإذا بهذا المدعو بيمبو قد مَرَّ بأنحاءٍ من العراق ما بين سنتي 1672 و1674 ميلادية، مسجلاً مشاهداته في يوميات. تركتُ ما بيدي من كتب، وأخذته من فوري إلى البيت.
أما أمبروزيو بيمبو، فهو نبيلٌ إيطالي من مدينة البندقية، كان عمه قنصل البندقية في حلب. قرر في حوالي العشرين من عمره أن يرحل إلى الشرق طلبًا للمعرفة. ركب البحر سنة 1671 إلى طرابلس ومنها سار إلى حلب، ثم رحل من حلب في السنة التالية إلى ديار بكر في تركيا، ومن هناك انحدر نحو دجلة ثم بغداد، ومنها إلى البصرة مرورًا بعدة مدن عراقية سيأتي ذكرها.
أبحر بيمبو من البصرة متجهًا إلى الهند التي وصلها في شهر أبريل/نيسان من عام 1973. ثم رحل إلى بلاد فارس، فزارَ شيراز وأصفهان، ثم عاد مسافرًا في قافلة إلى بغداد مرورًا بمندلي، ثم غادر بغداد قاصدًا حلب مارًّا بهيت وعانه، ثم عاد من حلب إلى وطنه.
وهناك في البندقية عكف على تدوين رحلته، مصحوبة برسوم لفنان فرنسي اسمه جوزيف جريلوت، كان بيمبو قد تعرف إليه في أصفهان، فعادا معًا إلى أوروبا. لكن بيمبو لم يعمل على نشر مخطوطته، ولم تُنشَر من بعده، إلى أن تُرجِمَت إلى الإنجليزية ونُشرِت سنة 2007. فنحن إذًا أمام رحلة مجهولة في العربية، بل وفي لغتها الأم أيضًا، وهذي محاولة لاستعراض مقتطفات من محطاتها العراقية.
مفاتيح لفهم النص
تشمل كلمة تركيا لدى بيمبو جميع الأراضي التابعة للسلطنة العثمانية وقتها، وهو يعني بكلمة الترك إما الموظفين الحكوميين أو سكان المدن المسلمين في تلك الأراضي، أما كلمة العرب فيقصد فيها البدو أو العشائر. كما يقع بيمبو في عدة أخطاء تتعلق بتاريخ المدن وأسباب تسمياتها، كما أنه لا يفرّق بين الإمام والنبي.
كانت علاقات السلطنة العثمانية بالقوى الأوروبية متوترة في معظم أطوارها، بينما جاءت علاقات الأوروبيين بالدولة الصفوية على قدر من الصفاء، نتيجة الأوضاع الجيوسياسية آنئذٍ، بالإضافة إلى سياسات الصفويين المرحّبة بالتجّار والدبلوماسيين الأوروبيين. كل هذا انعكس أحيانًا على آراء الرحّالة في أوضاع الدولتين وأراضيهما.
أخيرًا، يجدر التنويه إلى أنّ الرهبنة الكبوشية هي فرع من الرهبنة الفرنسيسكانية الكاثوليكية، بدأت كحركة إصلاحية ثم استقلّت عنها. كما يُذكر الرحالة عدة فئات من النقود كانت متداولة في المناطق التي زارها، منها على سبيل المثال الأسبري وهذه فئة نقود فضية صغيرة. والعباسي والمحمودي من الفئات الفضية الصفوية.
محطّات عراقية
كانت أول مدينة عراقية صادفها بيمبو، منحدرًا بكلك (مركب) في نهر دجلة، هي الموصل، ووصل إليها في شهر فبراير/شباط من عام 1672. فكتب عنها:
"قبل الوصول إلى المدينة يرى المرء نواعير كثيرة ترفع الماء ليوزَّع على بساتين عديدة وحقول أرز. في الساعة العشرين [الثامنة مساء] وصلنا إلى الجسر المصنوع من سبعٍ وعشرين عوامة. لكن قبل الوصول إلى هناك، بوسع الإنسان أن يرى أسوار المدينة على بعد ميل. تقع المدينة جهة اليمين، وأسوارها مهدمة لم يبقَ منها سوى بعض الآثار.
بقرب البوابة التي تتصل بالجسر، هنالك حصن وقلعة قديمة، رُمِّمَت حتى لكأنها قد أعيدَ بناؤها، وهي على جزيرة يحيط بها النهر. يعبر المرء إلى المدينة بواسطة جسر ذي قنطرتين حجمهما عادي. واجهنا صعوبة شديدة قبل الوصول إلى البوابة، فلقد تقاذفتنا أمواج متعاكسة، واجهتنا بزخمٍ كبير، جيئةً وذهابًا بين القلعة والمدينة. حين لا يتحرك المرء بالسرعة الكافية لربط الكلك، يدفعه الموج إلى الخلف فيواجه خطر الاصطدام بالكلكات الأخرى. بما أننا ربطنا كلكنا في مكانٍ حسن، فلقد ضرب الأوضَباشيان (رتبة في الجيش الإنكشاري العثماني) ملّاحَنا بالعصيّ، لأنه لم يرد أن يتنازل عن المكان الذي حصلنا عليه.
ما أن نزلتُ من الكلك حتى ذهبتُ إلى منزل الآباء الكبوشيين الذين رحبوا بي بكل مجاملةٍ لائقة. كانوا ثلاثة من الرهبان الفرنسيين فقط، منزلهم نظيف وجميل، بُنِيَ حديثًا بفناءٍ كبير. يحترم الترك هؤلاء الآباء كثيرًا، لكنهم يعيشون حياة مقيدة نوعًا ما، بما أن المسيحيين قليلون هناك.
هذه المدينة التي تشرق الشمس فيها قبل شروقها في البندقية بثلاث ساعات، تُسمى الموصل، ويسميها كثيرون نينوى. أسوارها مديدة جدًا، لكنها مليئة بالفجوات. كانت في الأزمنة القديمة كبيرة جدًا بحيث اتصلت بالموصل القديمة، التي تبعد مسافة نصف يوم منها. وهذه الأخيرة تقع أيضًا على النهر، لكني لم أرها، لأن مرورنا من هناك كان ليلاً. معظم البيوت من الطين، لكنها جميلة نوعًا ما من الداخل. على سطوح البيوت شرفات بدلاً من القرميد. الشوارع قذرة وطينية، وفي أنحاء المدينة أكوام من النفايات والأنقاض.
يحكم هذه المدينة باشا وقاضٍ وآغا القلعة وآغا الإنكشارية ومحصّل، وموظفون آخرون أقل شأنًا. في أسوارها خمس بوابات، أربع منها تكون مفتوحة دائمًا والخامسة نادرًا ما تُفتَح. سكانها لا يتجاوزون ثلاثين ألفًا من الترك وثلاثة آلاف مسيحي فيهم اليعقوبيون والأرمن والنساطرة.
قال لي الآباء الكبوشيون أن في تلك الأنحاء، حيث كانت نينوى، يوجد ضريح النبي يونس، في بلدة كبيرة على تل، على قمته جامع، حيث يعتقدون بأن ذلك الضريح موجود. هم يسمحون للمسيحيين بالنظر فقط دون الدخول حقدًا منهم. ولا يذكر الكتاب المقدس شيئًا من هذا، بل يُعرَف من بعض القصص اليهودية فقط، التي تذكر بأن يونس مات ودفن هناك، بالقرب من مدينة نينوى التي لم يبقَ منها أثر. بوسع المرء أن يرى ذلك المكان من سطوح الموصل. التي أسوارها ليست هي تلك الأسوار القديمة، بما أن الفرس دمروها تمامًا مرتين. أما الأسوار القائمة الآن، وهي نصف مدمرة، فلقد أعيد بناؤها منذ ثلاثمئة سنة.
حضرتُ في صباح الثاني عشر من فبراير/شباط قداسًا أقيمَ في أكثر غرف البيت خفاءً ساعة الفجر، وهذي عادة جميع الإرساليات هنا، لئلا يُلاحَظون. لم أعد أجد النبيذ منذ وصولي إلى هذه المدينة، بما أن صنعه محظور هنا. أما النبيذ الذي يُستَخدَم في القداس فإنه يُرسَل إليهم من ديار بكر.
لم أستطع الذهاب لرؤية أيٍ من الأشياء الغريبة في أماكن كثيرة من المدينة بسبب المطر. حوالي منتصف النهار صعدتُ إلى الكلك، وبينما كنتُ أغادر المدينة لاحظتُ بأن الأسوار كانت مدمرة جدًا بحيث كان بالإمكان الدخول إلى أماكن عديدة دون المرور بالبوابات".
وهكذا، غادر بيمبو الموصل وكان الجو باردًا ممطرًا طوال الطريق، ثم وصل إلى تكريت فكتب:
"التي كانت فيما سبق مدينة عظيمة وقلعة على تل بقرب النهر، ولم يعد هنالك من أثر لكل ذلك ما خلا جزءًا من جدار وبرجين نصف مدمرين، وهذه كلها مبنية بالآجر. بوسع المرء أن يرى أيضًا بقايا جسر كان الناس يدخلون به إلى القلعة. المدينة على مبعدة في الداخل بين تلّين، محاطة بسور من حجر ويسكنها عشرة آلاف من العرب. رأيتُ على ضفة النهر بضعة قوارب ليست مصنوعة بإتقان، لا بدّ وأنها كانت تُستَخدَم في نقل الناس إلى البصرة. لم نبت ليلتنا في المدينة، بل في الخيمة بقرب النهر، لنتمكن من مواصلة السفر باكرًا في صباح السابع عشر من فبراير/شباط".
ثم واصل بيمبو رحلته، وبعد مضي ساعاتٍ ثلاث كتب:
"رأينا بلدة كبيرة في سهل، تسمى إمام در، سُميت باسم قديس أو نبي لهم دُفِنَ هناك. وبعد مضي ساعة أخرى، رأينا على الضفة اليسرى كميات كبيرة من الأنقاض تمتد لمسافة اثني عشر ميلاً. يعتقد أولئك الناس بأنها تعود لبابل أو بغداد القديمة. وهذا لا يمكن أن يكون صحيحًا، لأن تلك المدينة بنيت باللبن، أما هذه الأنقاض فمن الآجر. بما أن هذه الأنقاض ليست مجتمعة، فإنه بوسع المرء أن يعتقد بأنها تعود لعدة مدن".
بعدها يكملون الطريق إلى بغداد، التي يصفها بيمبو بقوله:
"رأيناها بينما كانت الشمس تهبط إلى اليسار، هنالك في مستهلها قلعة جديدة وخلفها سراي الباشا، ثم تكية الدراويش، وهم رهبان ترك يدورون حول أنفسهم أيام الخميس. خلف هذه الأخيرة توجد بوابة، دخلنا من خلالها في الوقت المناسب. فلقد كانوا على وشك إغلاقها، بما أنه مرَّ على الغروب ساعة.
ذهبتُ مباشرةً إلى منزل الآباء الكبوشيين، الذين كانوا على علم برحلاتي في تلك الأنحاء ورحبوا بي بطيبة عظيمة، وأعطوني غرفًا وأسرة بقدر ما احتجتُ إليه. ذهبتُ مباشرةً لأرتاح بما أنني كنتُ متعبًا جدًا. ولم أشأ أن أستخدم الأغطية لئلا أفقد اعتيادي على الصعاب والمعاناة مرةً واحدة.
المدينة مُحاطةٌ بأسوار عرضها تسعة أشبار وارتفاعها خمسون شبرًا. يحيط بها من جهة البر خندق عرضه أربعة أمتار تقريبًا، وعمقه ستة أمتار. استغرقتُ ساعتين ونصف لأدور حولها من جهة البر بخطى معتدلة. للمدينة خمس بوابات، أربع منها من جهة البر، منها واحدة مغلقة. وبوابة واحدة من جهة النهر تتصل بالجسر الذي يؤدي إلى الحي الذي يُسمى راس الجسر. يتكون الجسر عادةً من تسعٍ وعشرين عوامة، لكن هذا العدد يزيد وينقص على حسب حجم النهر. وتكون العوامات متباعدة جدًا عن بعضها بحيث يصبح بالإمكان إضافة عوامة أخرى بين كلٍ منها. تُربَطُ هذه العوامات بسلسلة حديدية كبيرة، ويُفتح الجسر من بعض الأماكن ليسمح للسفن بالمرور.
[بهرز وعبور نهر ديالى]
هنالك من جهة النهر بوابتان أو ثلاث أخر، مخصصة للرجال الذين يزودون المدينة بالماء. تُطلُ الأسوارُ والعديد من البيوت على النهر، وللمدينة منظرٌ حسن من تلك الجهة. توجد داخل الأسوار في الناحية التي باتجاه البصرة من المدينة، منطقةٌ كبيرة غير مأهولة، ومليئة بالنخيل، تُسمى بادية بغداد. وفي المنطقة المأهولة أيضًا بساتين كثيرة، فيها النخيلُ وأشجار الليمون والبرتقال، ورمانٌ جيد نوعًا ما.
البيوت كلها تقريبًا تحت مستوى الشارع، لئلا يدخلها الجنود بخيولهم، وأيضًا ليحمي المقيمون فيها أنفسهم من الحر. ليس لبيوتهم نوافذ بل منافذ صغيرة، أما الهواء فيأتيهم من أحواشها ودواوينها، التي تكون كلها مغطاة مثل أواوين كبيرة. كل البيوت تتكون من طابق واحد، وهم يعيشون في أغلب الأوقات في سراديب بسبب الحرّ الشديد. الشوارع ضيقة وقذرة، ما عدا تلك التي في البازارات، وهي كثيرة. بعضها من خشب وبعضها الآخر من حجر، ذات عقود وهي مبنية بشكل جيد. هنالك أيضًا جوامع مبنية بشكل جيد، مناراتها جميلة نوعًا ما، وهي مكسوة بقرميد فخاري. يقع أجمل هذه الجوامع بقرب منزل الكبوشيين، ولقد شيده الفرس (...).
يحكم هذه المدينة باشا بمرتبة وزير، وقاضٍ ومفتٍ وآغا للإنكشارية مركزه كبير، مثل ذلك الذي في القسطنطينية، تحت إمرته عشرة آلاف إنكشاري ممن تُدفَع لهم الأموال. مع ذلك هم لا يتجاوزون عمليًا ستة أو سبعة آلاف من ذوي الرواتب. أما البقية فمن أصحاب المحلات ممن يتركون رواتبهم للباشا لكي يُعفَو من الخدمة العسكرية. ألفان فقط من هؤلاء الإنكشارية جاؤوا من القسطنطينية مع آمرهم الأوضَباشي.
ليست المدينة مكتظة بالسكان. الناس في هذه البلاد رغم خضوعهم للعثمانيين، فإنهم يميلون نوعًا ما إلى طائفة الفرس، رغم أنهم يتظاهرون بالعكس لأسباب سياسية. هم كلهم من أعراق طيبة، الترك والمسيحيون على حد سواء. يرتدون جميعًا الملابس نفسها، ويرتدي المسيحيون أيضًا العمامات بكل الألوان ما عدا الأبيض والأخضر، كما يرتدي اليهود الملابس نفسها ولا يفرض عليهم الغيار.
كان هناك رجل برتغالي دومينيكاني يقيم منذ شهرين في بيت الآباء الكبوشيين، كان في طريقه إلى روما بعد أن قضى سنوات عديدة في الأنديز والصين. بقي منفردًا في غرفة منعزلة، وتدور الإشاعات بأنه حمل من تلك الأصقاع جواهر كثيرة وأشياء ثمينة. جاء بصحبته خادم صيني وجهه مضحك نوعًا ما كجميع الناس في تلك المملكة.
منزل أولئك الآباء كبير، فيه غرف واستراحات كثيرة لإيواء الغرباء. فيه كنيسة وحديقة خضراوات جيدة، يزرعون فيها الخس والأعشاب الطبية. في منتصف الحديقة بئر ماء يُستخدَم لسقي الحديقة فقط.
هنالك أربعة رجال دين فرنسيين، ثلاثة منهم كهنة مرسمون، يدعون بالأب فرانسيسكو، رئيسهم، والأب أنطونيو، والأب روفائيل. رابعهم رجل عامي يمارس الطب ويُدعى بالراهب دانيال. لدى أولئك مدرسة يعلّمون فيها المسيحيين الصغار القراءة والكتابة بالعربية والإيطالية. يحترمهم الترك ويبجّلونهم لممارستهم الطب، ويحترمهم المسيحيون كما لو كانوا بابوات، ويودعون لديهم كل وثائقهم. رئيسهم متعلم نوعًا ما، يعرف العربية والتركية، ولقد ألّف كتابًا بالإيطالية، يبين فيه أخطاء القرآن.
التقيتُ برجلٍ من البندقية تخلى عن دينه منذ خمس وعشرين سنة، حين أُخِذَ عبدًا في حرب كانديا، حين كان جنديًا. اسمه لورينزو دا سيتسو أو سينتو، عمل في صناعة المرايا في سان كانزيانو قبل أن يصير جنديًا. أما الآن فاسمه حسن باشا، وهو إنكشاري راتبه ثمانية أسبريات في اليوم. هو صديق للآباء ويؤدي لهم خدمات كثيرة، وحين يأتي الغرباء يساعد في العناية بهم. يُظهرُ حزنًا لما اقترفه من خطيئة، ويحتفظ بإيمانه الأول في قلبه. يودُّ لو عاد إلى البندقية، لكنه بنى بيتًا كلفه ألف قرش جناها من حمل الماء في أرجاء المدينة في قرب من جلد الماعز. عُيِّنَ أيضًا رئيسًا للسقائين. هو يريد أن يبيع البيت بلا خسارة ليعود إلى بلاده محتفظًا بماله، على أن يصطحب معه ولده الذي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا ولم يُختَن بعد، أما أمه فتركية. يحبُّ الرجلُ المسيحيين ويقرأ الأناجيل دائمًا. وابنه أيضًا يظهرُ رغبةً في الانتقال إلى المسيحية، لكنهما لا يظهران رغبتهما المشتركة لبعضهما خوفًا من أن يشي أحدهما بالآخر.
يحاول أولئك الآباء الطيبين أن يجدوا لهما سبيلاً، ولقد وعدتُ بأن آخذهما معي. لكنهما مع هذا لم يحسما أمرهما في النهاية، لعلها حكمة الرب الخفية، أو ربما كانا خائفين من أن يُكتَشفا قبل هروبهما، أو كانا في شكٍ من أن يستطيعا بيع البيت بسعر جيد فينتهي بهما الحال إلى التسول في بلادٍ مسيحية، وهو ما لم يرده الأب، وربما كان هنالك سبب آخر. فهما يخسران باستمرار فرصًا عظيمة للهرب، وسيبقيان على حالهما إلى أن، لا سمح الرب، يخسرا نفسيهما.
ذهبتُ بعد وجبة العشاء بصحبة المسيحي السابق لرؤية المدينة، وخاصةً لرؤية بازار الصاغة والإسكافيين وتجار الأقمشة الحريرية، الذين هم أغنياء جدًا. خرجتُ من المدينة عبر البوابة المطلة على النهر، فعبرتُ الجسر إلى المدينة القديمة، ومن هناك يستطيع المرء أن يرى المدينة في مداها الأعظم. رأيتُ سفنًا كثيرة تذهبُ إلى البصرة، والتي في طريق العودة صعودًا في النهر لا تستخدم المجاذيف فقط، بل يسحبها الرجال أيضًا".
ثم التقى بيمبو في العشرين من فبراير/شباط بقائد المدفعية الذي كان يذهب إلى بغداد كل عام لفحص مدفعيتها، ويبقى فيها لبعض الوقت تحسبًا لهجمات الفرس المفاجئة، ويروي قصة خلافات القائد مع الباشا، ثم في صباح الثاني والعشرين من فبراير/شباط كتب:
"سمعتُ الأرمن يترنمون في كنيسة الآباء الكبوشيين قبل الفجر. بما أنه ليس لدى المسيحيين كنيسة أخرى فيما عدا كنيسة النساطرة. كل الآخرين يستخدمون كنيسة الكبوشيين، الأمر الذي سمح به الترك. لا يتجاوز المسيحيون ثلاثة آلاف، فيهم الكاثوليك والمنشقون عن الكنيسة. أما اليهود، وهم كثر، فلديهم كنيسان.
[عبور دجلة بالكلك]
كنيسة أولئك الآباء الكبوشيين عبارة عن سرداب، لكنها كبيرة وجميلة. فيها قسم منفصل للنساء، وتحتوي على مذبح وحيد، معتنى به، حيث يقيم السريان القدّاس أيام الصيام في الصباح الباكر. ثم يقيمُ الآباء قداسهم، ثم الأرمن منتصف النهار. هنالك أيضًا أرثوذوكس ومارونيون يستخدمون كنيسة الآباء. يتلو الأرمن صلواتهم مرتين في اليوم داخل الكنيسة. تُقام القداسات بواسطة القساوسة، كلٌّ حسب طائفته، مع اختلافات في الترنيمات والمراسيم. وهم يستخدمون شيئًا مدورًا يشبه الصنج تُربَط حواليه أجراس صغيرة، كأداة للتعبير عن العروج المقدس (...).
في الثاني والعشرين من فبراير/شباط رتبتُ أمر سفينةٍ ومرورٍ إلى البصرة. ولكي تكون السفينة لي لوحدي، دفعتُ للمراكبي ثلاثين ريالًا وجعلتُ بيننا عقدًا مكتوبًا، بحيث لا يطالبني بالمزيد من النقود حين وصولنا إلى تلك المدينة. بما أن أولئك الناس ليسوا أهلًا للثقة، ولا يفكرون سوى بسلب ما في جيوب الأجانب (...).
في صباح السابع والعشرين من الشهر الجاري، حمَّلتُ أغراضي على السفينة في ساعة مبكرة، وغادرتُ الآباء، الذين أعطيتهم المال الكافي لتغطية كل ما أنفقوا علي خلال إقامتي لديهم. غادرتُ المدينة من بوابة صغيرة يستخدمها السقاؤون فقط، وتبعدُ عن الجسر مسافة رمية مسدس. وجدتُ السفينة قرب بيت القاضي، ولم يكن المالك موجودًا، بينما كانت السفينة مليئة بأغراض أناسٍ آخرين. صعدَ خمسة أتراك إلى السفينة دون علمي، فلم أعترض لئلا أدخل في مجادلة. أرسل آغا الإنكشارية ليسألني السماح لإثنين من جنوده بالصعود إلى السفينة. وهكذا لم أستطع الرحيل حتى الساعة الرابعة بعد بزوغ الشمس. ساعدني ذلك المسيحي التائه كل هذا الوقت، ولقد أعطيته بقشيشًا مناسبًا، مازال يخبر عنه الغرباء الآخرين حين يصلون إلى هناك".
ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) Bargellini, C. (2007). The travels and journal of Ambrosio Bembo. California: University of California Press.
(١) أوضَباشي: رتبة في الجيش الإنكشاري العثماني.