شذب تاريخ انتمائك الوطني؛ نزوحك إلى المُخيم، هروبك مِنْ موتٍ اختارَك رداءً لحفلةِ السماءِ الأنيقة، ليرتدي روحك، ويفخر بفريسته. شفقت لحالِكَ كلاب الشوارع، ولإنَّكِ نازح، فلا تُحسَبُ على الوطن، لا بقراراتهِ، ولا المواطنة فيه. أنت أصمٌ يغرِّدُ بصوتِ البلابِلِ، الأغنية الفلكلورية (غهریبو)*، لا صوت لكَ، فتنبحُ الكلابُ، ممثلة صوتك المغتصب، تصعدُ المنابِر، وتُلقي الخطَب بعواءٍ شجينٍ يمزق القلب. والحاضرون على مقاعد من الحرير يعطفون على الكلاب بعظامِ جراءٍ قتلوها.
عُد إلى مدينتك في حال لم يعجبك الوضع. البلد في حالة أزمة، ولا أحد يأخذ ما يستحق، يرد عليك صوت من الفراغ بهذه الكلمات، تضحك باستهزاءٍ على الصوت، أيظنّ أنك تتضرع لبضعة دنانير؟ ما بالُ أرضك تدور حول الوهم؟ تاركة الشمس في حيرة احتراقها؟ ما بال الجمع الغفير يحسب الإنسان ورقة نقدية؟ أنت تحارب لاسترداد صوتك، لتسقي دمائك، فتنضج روحك وتبلغ الكمال.
(ضوء)
طيور الحمام تهدل بحبور في السماء، أشجار الرمان تطأطئ رؤوسها بمحاذاة ثلاث خيم، ضوء أسود ينفذ خلال أوراقها، متناثرًا على الأرض كنقشٍ على سجادة كاشان، في الصمت، يتم تشيع الحديث، وتهيئته إلى موته في جنازة من الفراغ، وفي الظلام، يتم قطع أقدام الضوء، لئلا يبلغ سبيله، كل شيء يحدث، يمنع شيئًا آخرًا، من كان مبصرًا يوم أمس، وكفيفًا الآن، له من الحظ ما يكفي.
ومن كان أعمًى وأصم، فنبع الحظ يصب في حياته. حين تقضي أعواماً طويلة في مخيمٍ داخل وطنك، ستدرك، أن الشر والخير توأمان في الوجود، يختار كلاهما المرء، لكن المرء يختار أحدهما، وتدرك أن الضوء في آخر النفق، ما هو إلا أحتراق حياتك، لا نفق سوى حياتك، ولا ضوء سوى في قلبك.
(بائع اللبلبي)
حلّ الليل، استراحَ الضوءُ واختبأ،( تتخيل كونك شيء آخر، غيرك، تستريحُ مسندًا مرفقك إلى اللاشيء، متنازلًا عن المعنى، والعبث، مكتفيًا باستراحةٍ قصيرة). يجلسُ بائع اللبلبي على مقعدٍ من أطباقِ البيضِ الفارغة، يتصاعدُ النارُ من (تنكة) أضحت بلون ليل سخام، بين شفتيه سيجارة تضيء، كَم أمنيةٍ سالت مِن عينيه حَتّى انتهى به الحال هنا، كَم حُلمًا تركه لغيومٍ هائجةٍ لتذيبه، وتنتهي.
تسأله الجلوسَ بجانبه، فيهزُّ برأسه إيجابًا، يفنى الحديثُ قبل بلوغه ألسنتكما، يفنى كما كل شيء حولكما، تلتهمُ النارِ في التنكةِ السلّة البلاستيكية، يخيلُ لكَ أنّه يشاهد ما مضى من عمره، يقفُ أمام الماضي كإناءٍ أفرغَ الوقتُ همومه فيه، لا ينضح سوى الألم.
جلّ ما تمنّاه، حياة لا يقطف الموت ورود حدائقها، لتنبتَ جذورها خيمًا، وخرابًا.
(جدار)
خطوت نحو اليسار، حيثُ المدرسة الابتدائية، على جدارها الخارجي" العالم زوجة أب، وأنتم أطفال الأم المقتولة" خطوطٌ عشوائية تُحاوِلُ محو العبارة، هل الحقيقةُ أليمة؟ ثُم ماذا؟ بناء ابتسامة تخلو من الصدق أشبَهُ ببناء بيتٍ من القش بمواجهة العواصف، حتمًا ستدرك يومًا، أنّ المرء حالته تماثِلُ حالة نملةٍ تحاول بلوغ الطرف الآخر، في تجمهرٍ متحركٍ، الأقدام كثيرة، والضوء خافتٌ، لا شيءَ يدعو لهذا الاستمرار نحو الحياة، تنظر حولك، إذا بالرضا الكامن في الصمت يحتل أغلب الناس، هل هو قبول بما يحدث أم تعب من الرفض؟ من التمرد؟ من لم يتمرد على المفروض ولو لمرة واحدة، يعيش أبداً ألم السقوط من جبل الأوهام.
(عيون)
نوافذ خيمة مفتوحة، هي ليست نوافذ عادية، بل فتحتان في الخيمة، مربعة الشكل بمشبكٍ حديديٍ خفيف، تمد فتاة صغيرة يدها من ثقب ممزق تحت المشبك، لترفع الغطاء البلاستيكي، ما إن تراك تنظر نحوها حتى تفتح يدها كاشفة عن حلوى (شعر بنات) ذائبة في كفها، تتقدم لتلبي طلبها، إلا أن قدمك تتعثر في بركة مياه، فتضحك الفتاة مغطية فمها بكفها، عينان من الزبرجد اللامع تضيئان لتسرقان الغمّ من قلبك المهجور، وابتسامة لا إرادية ترتسم على محياك، لا فضاء يتسع لروحك الطائرة فرحًا الآن، تدرك أن السلام يجاور الحرب، لكنه مبتور الأقدام، نحتاج من يسنده بكتفه، او ابتسامته، لنرى السلام، ونعيشه، هذه الطفلة وقفت لتسند السلام وتتقدم على الحرب بخطوة، لترمم جراح روحك، وتسقي حدائق الياسمين وغابات النخيل في عين رأسك، كم من لحظة جميلة في توقيت الحرب نحتاج لرؤيتها كي نسترسل المضي في درب الحياة؟
(سماء)
أيُّ سرابٍ صنعَ هذه الغيوم الرمادية؟ أي شمسٍ أشرقت بنارِ الجحيمِ على هذه الأرض؟ هل انحرفت الأرض عن مسارها؟ ودخلت مدارًا ينقط الدم من سمائه على العِراق؟ الجدارُ الذي استندت عليه المحبة، وقعَ بقاذفةٍ أطلقها (المحررون) على (الإرهابيين)، لا مواجهًا لِلمطر الأسود، لا سقفٌ ولا وطنُ، أنحن حاضرون؟ أم أننا أحلامُ خيالاتنا؟
سُلبَ الأنتماء مِنّا، كأسماكٍ انّتُزِعَت من جسد البحر، لتعيش في حوضٍ صغيرٍ على طاولة أنيقة، لأنّ رجلاً تافهًا يعتقدُ أن ذلك ظريف.
هل للموتى ظِلال، أمْ أنّ الظِل للأحياء؟ ثم ماذا؟ هل يكشفُ النهار عن الليل؟ لن نكشف الوجه الناصع للوطن، سوف نُخفيه في شيبِ عجوزٍ، أو بُحةُ شجنٍ في صوت رجلٍ شنگالي، عرفَ السماءَ والأرضَ، ولم يعرف ما يحدُثُ حوله.
(مصارعة الكلاب)
كلاب سائبة، حول كومة قمامةٍ، من التي تتركها البلدية كهدايا للمقيمين في المخيم، تتصارعُ على عظمةٍ، أُرَجِحُ أنّها لحملٍ صغير، كُلُ كلبٍ يَحسبُ العظمة له، ومن حقه، اللعابُ يسيلُ من أفواه الكلاب، والألسنةُ لا تطيل البقاء في أمكنتها، في تنفسها زفير مزعج وأنياب حادّة، لمن هذه العظمة؟ للحمل الصغير.
(شعر بنات)
"شعر بنات، شعر بنات، حلو مثل وجه إلّي يشتري" صيحات صبي وقح يبيع "شعر بنات" يحملها في أكياس شفافة، تجمعت ككراتٍ وردية اللون في كيس كبير معلق على كتفه، وجهه مترب، هذا وجه الوطن، متعب أحاله الشحوب إلى اللون الأصفر الفاتح، عينان نرجسيتان، وجسد نحيل، لا تظهر تعابير وجهه شيئًا سوى سخرية من حاله، يصرخ بصمت تسمعه. ماذا يمكن أن يقال في مثل هذه اللحظة؟ الجبل البني يتموج في الأفق، الظلام ينزل تدريجيًا، لا مفر، لا صوت، هل ارتاد هذا الصبي المدرسة وقال"عاش العراق" عند قدوم المعلم؟ هل عاش العراق؟ ربما، وربما لا، هذه الخيم أكفانه.
دبيب خطواته بأحذية كبيرة عليه، يذكرك بوجودك داخل هذا الوطن، هذا الوطن الكبير، العظيم، أرض الحضارات والخلود، الذي وهب الأرض حروفًا ،علمًا وشعرًا، ليس لك فيه موضع، ولا بيت يشعرك بالدفء، سُحب الدخان الأسود تلفه من كل الأتجاهات، معتقل ما بين مجد ما مضى، وانحطاط ما يجيء، بين الأحياء الفقيرة والبيوت الطينية، يسقط من مسامات أجساد الأطفال العمال عرقًا، ومن عيون الاطفال النازحين أحلامًا.