كان سيبلغ الثمانين هذا العام. كان سيمنحنا ستّة دواوين جديدة لو واصلَ عادته الأثيرة في إصدار ديوان كلَّ عامين. كان يكتب الديوان في عام، وينقّحه في عام، وكأنّه ضاعف رهبة زهير بن أبي سُلمى أمام النّشر؛ كان زهير ينشر قصيدةً/ديوانًا كلّ عام، ولعلّه بلغ الثمانين لأنّه كان أقلَّ تنقيحًا، فسئم الحياة ولم يسأم الشِّعر. أما محمود درويش فلم يبلغ الثّمانين مع أنّه لم يسأم الحياة، ولم يسأم الشِّعر. أو ربّما كان سيُفاجئنا برواية، وهو عاشق الروايات والروائيّين. كان، كان، كان، ولكنّه رحل وترك لنا وطأة الفعل النّاقص الذي علّمنا أن نمقته حتّى لو كنّا سندوِّن به وفيه أعظم المراثي. وُصفتْ لحظة موته دومًا بأنّ سببها خيانة القلب الذي لم يَهِب ابن السابعة والستّين بضعة أعوام أخرى. لعلّها مفارقة الفلسطينيّ المحكوم بلعنة هذا الرقم، غير أنّ ثمّة إغراءً يدفعنا لتلمّس سبب آخر. كان درويش يقارع الحياة ندًا لندّ، فلم تغفر له الحياة تجاوُزَ البشريّ، ورفضه لشروط الشّطرنج الإلهيّ. نجح في ما أخفق فيه الجميع تقريبًا: أن تواصل إبداعك تصاعديًا بلا نكسات؛ لا شيخوخة في كلماته لأنّه كان يُعيد خلق القصيدة مع كلّ قصيدة، ويعيد خلق النّثر حتّى لو كان غيره قد زعم امتلاك عرش الحداثة ومابعدها. كان يكتب مثل أيّ شاعرٍ مبتدئ، يكتشف الأحرف فتعجبه، ثمّ يملّ منها ويرميها ليكتشف غيرها، فتعجبه، ثم يسأمها، وهكذا إلى أن تبلى الأحرف وتتفتّت فيترك الفُتات وراءه لشعراء القناعة. هل ثمّة شاعر عربيّ - غيره - واصلَ اكتشاف نفسه وتجاوزها كتابًا فكتاب، وقصيدة فقصيدة؟ اكتفى معظم مجايليه بأمجاد سابقة، فيما كان يرتقي دومًا مُحطِّمًا مراحله السابقة، مُصوِّبًا عينيه إلى الأمام، «فليس وراءنا إلا الوراء» في نهاية المطاف. كلّ ما وراءه وراء، حتّى لو كان ديوانًا مثل «لماذا تركتَ الحصان وحيدًا؟» أو كتابًا مثل «في حضرة الغياب». يراه الجميع تقريبًا مدرسةً شعريّة بمريدين كثيرين، إلا أنّه في واقع الحال فردٌ واحدٌ لا يشبهه أحد، ولا يودّ أن يشبه أحدًا. ليس له مريدون، بل مُقلِّدون؛ بينما كان مُريدًا لشاعر أوحد هو المتنبّي، لم يغفر له أنّه عاش قبله بألف عام، ولم يغفر له شطر بيته: «على قلَقٍ كأنّ الريح تحتي»، فكتب: «على قلبي مشيتُ»، ولعلّ قلبه لم يحتمل خطو المارد فانكسر.
ما الذي يفعله درويش حين يودّ الاستراحة من الشعر؟ يتأمّل، يرتّب الكتب، يشاهد فيلمًا ربّما، يقرأ رواية على الأرجح ويندب حظّه لأنّه لم يكتب رواية، ولكنّه يكتب شيئًا آخر. شيئًا بلا تصنيف، شيئًا يشبه النّثر ولا يبتعد من الشّعر. يكتب نصًا درويشيًا يثير سخط النّاثرين بعد أن اكتفى من إثارة سخط الشّعراء بالقصائد. لم يغفر الشّعراء لدرويش بأنّه كان يسبقهم دومًا، وبوسائل كانوا يظنّون أنّها تُرهِق الشّعر، فيحيلها درويش إلى دماء جديدة في جسد القصائد. لم يتخلّ عن التّفعيلة حتّى بعدما ضمّها النقّاد والشّعراء إلى أرشيف الشّعر الذي مات بموت السيّاب؛ بل إنّ درويش تجاوز الحدّ حقًا، كما فعل في مقارعته الندّيّة للحياة، حين كتب قصائد عموديّة في «أثر الفراشة» الذي غيّر موازين الكتابة. كتاب ضاعف سخط النّاثرين حين كرّس درويش نفسه ناثرًا أيضًا، وإنْ ضمن تصنيف خاص ينأى عن التّصنيفات السائدة. ما ماهيّة «أثر الفراشة»؟ «يوميّات»، يخربش درويش على الغلاف ويترك الخلق في سهرهم يختصمون. لم يكن «أثر الفراشة» أول كتب درويش «الهجينة»، إذ سبقته كتب عديدة لعب فيها درويش على هواه: «ذاكرة للنّسيان» الذي يوثّق يوميّات حصار بيروت: كتاب بلا تصنيف؛ «في حضرة الغياب»، أجمل كتب درويش النّثريّة وأحد أعظم الكتب السرديّة العربيّة، محض «نص»، تصنيفه يُبطِن بقدر ما يُظهِر، نصّ يمزج الأجناس الأدبيّة ويخلق جنسًا جديدًا سرعان ما بات له مريدوه؛ أما «حيرة العائد» فكتابٌ شديد الاختلاف: «مقالات مختارة»، هي كلّ ما نجد على الغلاف، غير أنّ تصفّح الكتاب ينبئنا أنّ هذا الكتاب ليس مقالات بالمعنى المتعارف عليه، إلا لو استعرنا المفردة الفرنسيّة «essais» بمعنى «محاولات» كما دشَّنها مونتيني. محاولات للتجريب في نصوص متنوّعة، فيها مقالات متعارف عليها ويوميّات ودراسات في الشِّعر، وفيه قسم لافت لا يتجاوز 60 صفحة، قسم خاص بالمراثي يضمّ 11 مرثاة (10 لو دمجنا النصّين المكرَّسين لياسر عرفات)، بعنوان موحٍ ومؤلم: «أكثر من وداع».
لا يكتب درويش عن فلسطينيّين فقط، بل يضمّ سوريَّيْن (ممدوح عدوان ومحمد الماغوط) ولبنانيَّيْن (سمير قصير وجوزف سماحة)؛ ولا يكتب عن أدباء فقط، إذ لدينا ياسر عرفات وإبراهيم أبو لغد وإسماعيل شمّوط، وإنْ كنتُ سأكتفي بالحديث عن الفلسطينيّين هنا. وبمعزل عن الجانب الشخصيّ في المراثي، نجد جانبًا آخر مخفيًا من حياة درويش: آراءه حيال فلسطين وحيال الشعر والثقافة. لم يكن درويش مولعًا بالمقابلات أو بإطلاق مفرقعات إعلاميّة أو حتّى بالسجالات الثقافيّة. كان يترك الآخرين ينطقون باسمه، بكل أسف، حين كسر الخطّ الجوهريّ الفاصل بين الشخصيّ وبين الثقافيّ وسمح للمحيطين به بالضرب بسيفه والنّطق باسمه وبتكريس صورة عن أدبه باتت مكرَّسةً إلى درجة يصعب تبديدها أو إزاحتها: فلسطينه باتت فلسطينهم الصّادحة، وآراؤه الغامضة باتت آراءهم المُعلَنة، وصورته التي حرص على إخفائها باتت صورتهم بوصفهم أصدقاء درويش الذين تحوّلوا إلى سُلطة ثقافيّة في زمن الخواء. لذا نجد أهميّة كبرى في قسم المراثي لأنّ درويش يكتب هنا بلا تحفّظات وبلا فلاتر. حين يتحدّث عن فلسطينيّين فهو يتحدّث عن فلسطينه هو، وحين يتحدّث عن الشعر والثقافة فهو يتحدّث عن آرائه الشخصيّة التي أبقاها شحيحةً طوال عقود.
لم يكن درويش «شاعر القضيّة» في تلك المراثي، بل كان اقرب إلى الصورة المستحيلة التي لا يسمح أحد بإظهارها، لا الفلسطينيّون ولا غير الفلسطينيّين: أن تكون بشرًا بلا أسطرة، وأن تكون ابن الحاضر، لا وريث ماضٍ أو مُعلَّقًا بمستقبل متأرجح، أن تكون ابنًا للأرض ولكن بعد نزع لاهوتيّتها. نجد تنوّعًا جغرافيًا على طول خارطة فلسطين: الناصرة، يافا، حيفا، نابلس، رام الله، على أنّ تلك المدن ليست مدن الماضي، ولا حتّى مدن النّكبة والهزيمة، بل مدن الحاضر حتّى لو كانت أشباه مدن، أنصاف مدن، أحلام مدن. ليست النّاصرة ناصرة يسوع بل ناصرة توفيق زيّاد حيث لا بدّ من كسر صورة الضحيّة والعمل - ضمن الوسائل المتاحة - على تكريس صورة «ابن البلد» الذي يسمو فوق جلّاده كي يكون حقّه ملكًا له بجدارته، لا محض إرث من أسلاف غائبين. صراع سرديّات لا بدّ من إزاحة ضروريّة فيه للاهوت وللسيف على السّواء، حتّى وإنْ بدت تلك الإزاحة عبثيّة ومستحيلة. إزاحة تُفسَح بالمجال لأبناء الحاضر كي يتكرّس وجودهم. ناصرة توفيق زيّاد هي ذاتها يافا إبراهيم أبو لغد وحيفا إميل حبيبي ونابلس فدوى طوقان، بل وحتّى رام الله ياسر عرفات. مدن حاضر، بكل أوحاله وانكساراته ونكساته ورضوضه وإجحافه. بقي من بقي، وعاد من عاد، ورحل من رحل، إلا أنّ المنفى ذاته: منفى الهويّة وهويّة المنفى في البلاد التي لم ترحم أبنائها «ليكونوا عاديّين كسائر البشر.»
يبرز إميل حبيبي وإبراهيم أبو لغد من بين جميع الفلسطينيين هنا، أكثر حتّى من ياسر عرفات. أوّلهما هو الباقي، باقٍ في حيفا كما شاء دومًا بالرغم من الالتباسات الدائمة التي ستحيط بمواقفه؛ والثاني هو العائد إلى «جحيم» فلسطين من «جنّة» أميركا، بالرغم من ظلال العودة التي تلقي بوطأتها على الأزمنة والأمكنة. لعلّ درويش أفضل من فهم إميل حبيبي بكلّ التباساته، إذ لعلّه كان يتوق لو أُتيح له ما أُتيح لحبيبي: أن يبقى. ولعلّه أفضل من فهم أبو لغد بكلّ مواجع عودته، إذ لم تُتَح لدرويش عودة كاملة. في البقاء متاهة، وفي العودة عدالة منقوصة، غير أنّ الحياة ليست حلمًا ولا تعترف بالخصوصيّات حتّى لو كنتَ فلسطينيًا مولعًا بالخصوصيّة. أن تبقى يعني أن ترتضي تلك المفارقات الشّائكة، أن تبقى بهويّة منقوصة، في أرض منقوصة، حيث لا منجى إلا بالسخرية، كما فعل إميل حبيبي الذي كان - للمفارقة - التجسُّد الأمثل لفلسطين (أكثر حتّى من درويش ومن غسّان كنفاني)؛ التجسُّد الأمثل لمعنى أن تكون فلسطينيّا في فلسطين التي باتت بحكم الواقع أرضًا هجينةً لا يمكن التّعبير عنها إلا بكتابة هجينة؛ أرضًا هجينةً لا سبيل إلى التّعبير عنها إلا بعلامات التّرقيم الشّارحة: «إسرائيل»، بين مزدوجين، كما يودّ المقاومون، و«فلسطين/إسرائيل» بشرطةٍ مائلة، كما يودّ الواقعيّون، وفلسطين، بلا علامات ترقيم كما يشاء الماضي ربّما، ولكن ليس للماضي سطوة في شباك الحاضر.
وفي عودة أبو لغد عدالةٌ تفترض نقصًا دائمًا، إذ لا معنى لسؤال: «كيف يكون من العدل ألا تكون يافا فلسطينيّة؟» من دون استطرادات - هي فلسطينيّة بشروط، فلسطينيّة بحدود، فلسطينيّة بانتظارات دائمة أمست قدَرًا للفلسطينيّين كلّهم، داخل البلاد وخارجها، داخل متاهات الخطوط الملوّنة كلّها. يتحدّث درويش بحسرةٍ عن إبراهيم أبو لغد الذي «أنجز حقّ العودة بطريقته الخاصة» حين قرَّر أن يموت في البلاد. يصمت درويش ولا يستطرد. هل كان يمنّي النّفس بعودةٍ إلى الموت، هو أيضًا، كي تكتمل دائرة الفلسطينيّ المستحيلة، حين يولد ويموت في البلاد التي يحبّ؟ وهل - وهنا السؤال الحارق - لا بدّ من الموت كي تكتمل الهويّة المحكومة بالنّقصان؟ يصمت درويش مرةً أخرى، ولكنّه يهمس لإميل حبيبي: «لا نأخذك إلى أيّ منفى ولا تأخذنا إلى أيّ وطن». ولا تبقى إلا المفارقات والأسئلة الشائكة التي لن تُرضي مقدِّسي الخصوصيّة الفلسطينيّة الإلهيّة، على الأخص حين يستعيد درويش جواب ياسر عرفات «الهارب من الشِّعر» حين سُئل إلى أين سيرحل بعد حريق بيروت: «إلى فلسطين»؛ ولعلّ التتمّة الموجعة التي لم ينطقها عرفات، أو درويش: أيًا تكن تلك الفلسطين.
لا يتردّد درويش في رثائه لعرفات مع إدراكه التام لالتباسات شخصيّة عرفات ولتناقضاتها الكثيرة. يلتقط درويش بدقّة مأساة عرفات وتفرّده في آن، حين بات القائد رمزًا: «صارت كوفيّة ياسر عرفات، المعقودة بعناية رمزيّة وفولكلوريّة معًا، هي الدّليل المعنويّ والسياسيّ إلى فلسطين». لا بدّ لهذه البلاد من رمز، حتّى لو كان أنقاض رمز وحتّى لو كانت البلاد أنقاض بلاد تسعى جاهدةً لصون ما تبقّى في شبح دولة. يدرك درويش إدراكًا موجعًا أنّ حسابات الحاضر قد لا تُرضي كثيرين، إلا أنّها الحسابات التي ستواصل حفرها إلى نهاية الحاضر أو نهاية أبنائه. لا مكان للذاتيّة، ولا للهموم الشخصيّة، ولا حتّى للأحلام في شبح البلاد. لعلّ في وسعنا هنا موازاة التباسات عرفات السياسيّة مع التباسات فدوى طوقان الشِّعريّة، وإنْ بدت الموازاة غريبة للوهلة الأولى. القاسم المشترك هو درويش والتقاطاته الحاذقة لمعنى تحوُّل الشخصيّ إلى عموميّ، أو بالأحرى ذوبان الشخصيّ في العموميّ لأنّ البلاد التي تتوق لوجود رمز هي ذاتها البلاد التي تتوق لشّعرٍ صادحٍ يكون للجميع، بصرف النّظر عن هموم الشاعر الشخصيّة. يلخّص درويش تراجيديا شعر فدوى طوقان في أنّها ولدت في بلاد منكوبة، «الموت هو سيّد الكتابة» فيها. لا بدّ لفدوى من أن تقمع قلبها ورومانتيكيّتها، كما لا بدّ لدرويش من أن يقمع آفاقه الشعريّة، وكما - ربّما - لا بدّ لعرفات من قمع أحلام البندقيّة من أجل الواقع الشبحيّ لغصن الزّيتون الهشّ. لا مفرّ من الذوبان في تراجيديا البلاد، لأنّ جميع ساكنيها - في الداخل وفي المنفى - شهود، كما بات على الشِّعر أيضًا أن يكون شاهدًا وينسف أحلام الشّعراء بفردوس شعريٍّ مشتهى خارج حسابات الواقع. حين يشير درويش إلى تفرّد شعر فدوى طوقان حتّى حين كتبت عن جراح البلاد، يبدو وكأنّه يضع فدوى مرآةً لقصائده هو أيضًا التي بدأ في سنواته الأخيرة يُقصيها شيئًا فشيئًا عمّا يريده القرّاء وما تريده البلاد نفسها، ليُنصت إلى قلبه فقط. «صحيح أنّ فدوى كتبت شِعرًا في التراجيديا الفلسطينيّة، وكيف لها ألّا تكتب! لكنّ صوتها الخافت كان مختلفًا»، يقول درويش ويصمت. هل كان يتوق هو أيضًا إلى هذا الصوت الخافت؟ نعم، على الأرجح، خصوصًا لو قرأنا دواوينه الأخيرة التي ضاعف فيها جرعة سخطه من ضيق أفق النقّاد والقرّاء، وبدأ يكتب ذاته. نعم، على الأرجح، خصوصًا لو قرأنا نثره الذي كان فيه مختلفًا عن القصائد. كان درويش فقط، بلا بلاد تُكبِّله، أو قرّاء يُحصون أنفاسه.