"إيهٍ أيتها الحرية، كم رائعةٌ أنتِ، ومرعبةٌ في الوقت نفسه" آراغون
عندما توشِكُ الشمسُ على إخفاءِ وجهها خلفَ تلك التلةِ الرابضةِ هناك منذ الأزلْ، تبدأ الأقدام تسير بخطواتٍ ثقيلةٍ تعبةٍ باتجاه القاعات الصخرية الباردة، المرصوفة بإنتظامٍ وسط جدرانٍ مسيّجة بأسلاكٍ شائكةٍ مشّددةٍ وأضواء كاشفة.
يخنقُ نزلاء معسكر النازحين، هواءٌ ثقيلٌ جاف، تفوحُ منه روائح كريهة تملأ فضاء القاعات الصفراء التي يشعر المرء فيها، وكأنها مناطيدَ معبأةٍ بغازاتٍ خفيفةٍ، يُخشى أن تنطلقَ فجأةً نحو الأعلى. وقد زيّنتْ جدران هذه القاعات، بلا اعتناء، بصورٍ وشعاراتٍ تثير القرف.
الألم يعتصر قلوب هذه المجاميع البشرية، الغارقة في دوامةِ الفاجعة التي ألمت بها، وهي تحاول جاهدةً استعادة ذكرياتها عن الوطن الأم، حلوة كالشهد حيناً، ومُرّة كالعلقم في أغلب الأحيان.
وگلستان . . .المرأة الجبلية الجميلة تنتظر الزوبعة القادمة، بعد أن قذفتها العاصفة الهوجاء بدخانها الأسود إلى مرافئ تجهلها تماماً. تنتظرُ الزوبعة، وهي منزوية في ركن من أركان القاعة، تحتضن طفلها الرضيع بيار.
تستعيد گلستان شريط ذكرياتها عن تلك الأيام الجميلة، عندما كانت تنامُ مع شوان في أحراشٍ تمورُ بالحب. وأخرى قاسية ومؤلمة حد اللعنة، عندما سارت حاملةً طفلها بيار عبر الطرقاتِ الوعرةِ والوهادِ الصعبة والطرق غير السالكة، وهي تتذكر القرى الخَرِبَة والحيوانات المقتولة والمزارع المحروقة.
سارت مشياً على الأقدام مع أسرابٍ مؤلفة من الكُرد، رجالا ونساء وأطفالا، هرباً من تلك الغيوم السوداء القاتلة التي عصفت بالمنطقة على حين غرة.
بعد أن أصيب زوجها شوان برصاصةٍ في فكهِ الأسفل، اضطرتْ گلستان إلى أن تختفي معه في كهفٍ رطبٍ يبتلعُ الأصوات، ويتناثرُ فيه الصمت، ولا ينفذ إليه الضوء، وتتسكع فيه الحشرات جيئة وذهاباً، وتزحفُ فيه السحليّات في كل الأتجاهات.
اختفيا مع طفليهما، لئلا تصيبهم تلك السُحُب السوداء والرياح الزاحفة إليهم. رياحٌ تفوحُ منها رائحة كريهة تُزكم الأنوف.
حتى كادَ نفاذ الغازات إلى الكهف ان يقتلهم جميعاً.
لا تزال گلستان غارقة بدوامة عالقة في مخيّلتها، ولا تبارح ذهنها.
"لقد أصبحت قطعة الحجرهي الجبهة التي تنوحُ عليها الأحلام- كما يقول لوركا- والأصابعُ قفازٌ من الحديد الأسود أخذتْ تفتح الجمجمة وتبحث عن الزهرة والخاتم".
وفجأة حدثَ ما حدثْ:
فارقها شوان دون رجعة.
كان مسترخياً قبالتها، يحتضر أمام عينيها. . . يبكي طويلا، ويتنفس بصعوبة بالغة.
حاول شوان أن يبتسم، إلا أن ابتسامته تخثرتْ على شفتيه. تغيرتْ ملامحه كثيراً، وتوقف قلبه عن الخفقان.
أرادت كگلستان أن تصرخ. خرج صوتها مبحوحاً، وظنت أن أحداً لن يسمعها.
هو لم يبصر الموت: "إن القتيل، إذا شاء، يرقص، لكنه لا يغني".
فارقها شوان تاركاً لها طفلا، وجنيناً في جوفها.
شوان... شوان... ش.. وا... ن.
يصاب صوتها ببحة.. تسعلُ طويلاً، وتختلطُ عليها الأشياء. تحاولُ أن تصمد وتمسك بزِمام الموقف. لا تريد أن يوقِعها الأعياء، فتسقطْ.
"الموت من أمامكم
الموت من ورائكم
الموت بانتظاركم
الموت..."
كانت السماء كساءً لهما، والحشائش البرية زاداً يومياً.
كل صباح تنتظر كگلستان الفجر لترى النور خارج هذا الكهف.
لكن رائحة الحرائق والغازات كانت تملأ فضاء المنطقة. ودوّي الانفجارات وصخب لا تعرف كنههما يملآن أذنيها.
حاولت أن تجتاز ذلك السياج لتهرب منه إلى حيث لا تدري. أوقفها الحراس، وأعادوها الى حيث الركن الذي اعتادت أن تنزوي فيه.
من جديد، تعود گلستان إلى شريطِ ذكرياتها، لكنّها في هذه المرة منطرحة. لا تقوى على الحراك.
يحلُ الظلام ويسدل الليل أوزاره. وما يزال نحيب گلستان يملأ القاعة.
لقد جفَّ حليبها، ولا تدري كيف ستُرضع طفلها الذي ينحل ويصغر يوماً بعد آخر.
. . .
ويتغير الزمن ويدور دورة وأخرى، ويكبر بيار، وينمو الجَنين في جوف گلستان..
"أيها الجسد يا شريان النهار العميق
أيها المطر الناعم.. تعالَ، برداً عنيفا".
*گلستان تعني (الوردة الجبلية) والحدث حقيقي. يصادف اليوم الذكرى 33 للهجوم الكيمياوي على مدينة حلبچة بكردستان العراق، والذي أودى بحياة اكثر من 5 الآف مواطن كردي في 16 آذار (مارس) عام 1988