كأي صناعة أخرى، تحتاج الصحافة الجيدة لتمويل جيد، وخلافا لأي صناعة أخرى، يمكن لهذا التمويل أن يقضي عليها أخلاقيا ومهنيا.
تلك الحساسية التي تميز التمويل الصحفي لم تتمكن من جعله موضوعا للنقاش العام. باستثناء بعض جلسات المؤتمرات التي لا يتجاوز عدد روادها بضع مئات في أحسن الحالات، ومن الصحفيين غالبا. إن أزمات الإعلام العربي قضية عامة وليست فقط قضية يهجس بها الممارسون دون أن يعرف الجمهور عنها، رغم أن الصحافة تدور حول خدمة هذا الأخير أولا وأخيرا.
تحاول هذه المقالة تقديم قراءة في أزمة تمويل الصحافة العربية وعلاقتها الجدلية بمهنية المحتوى الصحفي، وتنطلق في سعيها هذا من قناعة مفادها أن الرأي العام جزء أساسي من أي حل لهذه الأزمة، لذا يعد إشراكه مسألة ملحة وفي صلب مساعي الإصلاح المنشود في المنطقة ككل.
الربحية والمهنية
إذا كان الربح سعيا مشروعا، وربما مطلوبا، لأي مؤسسة صحفية بمعزل عن غاياتها وطبيعة محتواها، إلا أن آلية الحصول عليه تبقى إشكالية أخلاقيا ومهنيا. أكثر تلك الآليات انتشارا يمكن ملاحظتها في النموذج الصحفي المعتمد على تمويل رأس المال الخاص. وفق هذا النموذج، يتوقع المستثمر جني الأرباح عبر مجموعة من الأدوات أهمها ومحورها الإعلان. لكن جبن رأس المال، كما يذهب الكليشيه، يبقي المستثمرين في حالة تخوف دائمة من انكماش الإعلان وتراجع الربحية وربما الخسارة كنتيجة لبعض التغطيات الجريئة.
بالنسبة لفريق التحرير، يبقى الأمل منعقدا على إمكانية إرضاء المستثمر دون المساومة على الخط التحريري. لكن تلك التغطيات الجريئة عادة ما تجلب معها المتاعب في مجتمعات عربية تدار بسلطات مطلقة، وحينها سيضطر الجميع للإجابة عن السؤال المفصلي: هل علينا أن نضحي بالتغطية او بجزء منها للحفاظ على المشروع أم علينا أن نحافظ على التغطية ونغامر بخسارة المشروع؟ أيا كان الخيار، عادة ما ينتهي الأمر على نحو سيء. الانحياز للتغطيات المهنية بما تجلبه من متاعب أمنية سيتسبب مع مرور الوقت بتردد المستثمر في مواصلة التمويل، وبالنتيجة انسحابه عقب تكرر المواجهات التي تفرضها هذه التغطيات. حينها، غالبا ما تغلق المؤسسة أبوابها.
ينبغي القول، للأسف ربما، أن هذا السيناريو هو الأكثر ندرة في عالم الصحافة، إذ عادة ما ينتهي هذا الجدل المهني والأخلاقي للاتفاق على الخيار الثاني، حيث توافق هيئة التحرير على “تعديل” خطها وتحويره على نحو يضمن رضا المستثمر ومواصلة تدفق الإعلان والربح مع مراعاة عدم ملاحظة الجمهور للتغير في التغطية.
لكن هذا الأمل بإرضاء رأس المال والجمهور في آن، يبقى مخادعا.
فالانصياع لأولويات الاستثمار على حساب القناعة المهنية غالبا ما ينتهي بخسارة ثقة الجمهور ولو على نحو بطيء وهو السيناريو الأكثر رواجا في الصحافة حول العالم وفي الوطن العربي على السواء. وهو أيضا ما يفسر تراجع ثقة المتلقين بوسائل الإعلام حتى في كبريات الديمقراطيات حيث الصحافة الحرة.
آخر استطلاعات مركز غالوب للدراسات تشير إلى أن غالبية الأميركيين فقدوا ثقتهم بالإعلام. وهي حالة تشمل الديمقراطيات الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا، النمسا والسويد وغيرها، وهذه نتيجة طبيعية في ظل انشغال وسائل الإعلام الغربية بتفاصيل الاستقطاب السياسي بين قوى سياسية متشابهة في حقيقتها، فقط لخلق الإثارة، وزيادة حجم المتابعة وطبعا التماهي مع المصالح المالية والسياسية المعقدة للممولين.
وحين نتحدث عن الممولين، فنحن فعليا نتحدث عن حفنة من الشركات العابرة للحدود. في الولايات المتحدة، كان عدد تلك الشركات المهيمنة على المشهد الصحفي نحو خمسين أوائل الثمانينيات. بحلول الألفية الثالثة، انخفض الرقم إلى ست شركات تسيطر على ٩٠٪ من هذا الإعلام. تمتد الظاهرة لتشمل عددا كبيرا من الدول الغربية والعربية، على ما تخلص إليه دراسة لكلية الأعمال في جامعة كولومبيا نشرت في كتاب يحمل عنوان "من يملك الإعلام العالمي" نشرته جامعة أوكسفورد البريطانية.
وإذا كان هذا الواقع في الغرب واضحا وغير قابل للتمويه والمواربة إلا أنه ملتبس بعض الشيء في العالم العربي.
في منطقتنا تواصل بعض المؤسسات الصحفية عملها، وتلقيها للإعلان، وجني الربح والبقاء على قيد الحياة رغم محاباتها رأس المال والسلطات وتضحيتها بثقة القراء. يعود السبب في ذلك ببساطة إلى كون معادلة الإعلان محكومة برضا ومزاجية السلطات العربية أكثر من ارتباطها بحجم المتابعة ومستوى التأثير من الناحيتين التسويقية والتجارية. ففي الوقت الذي يقرر فيه النظام الأمني محاصرة مؤسسة صحفية ما، سيضغط لقطع إعلانات القطاع الخاص عنها وتركها للموت البطيء.
إن فشل التنمية والتحديث في منطقتنا بالتوازي مع غياب القواعد الديمقراطية في الحكم أديا إلى تراجع الأدوار التي يلعبها القطاع الخاص في مجمل النشاط الاجتماعي وربما الاقتصادي نفسه، لينتهي محكوما، أي هذا القطاع، كسائر المجتمع، بهيمنة وابتزاز السلطات العربية. بالنتيجة، يصبح الاعتماد على تمويل هذا القطاع سواء عبر الاستثمار أو حتى عبر الإعلان، ارتهانا لرضا تلك السلطات، غير الديمقراطية، عن طبيعة المحتوى الصحفي والخط التحريري للمؤسسة الربحية.
أزمة الإعلان الرقمي
من الملفت للنظر، وربما كان مفاجئاً، عدم إدراك المؤسسات الصحفية العربية لأبعاد الأزمة التي تعيشها الصحافة الربحية في العصر الرقمي. لم تخرج وسائل الإعلام في منطقتنا من مرحلة الصدمة الناجمة عن تراجع أهمية الصحافة الورقية، منفقة وقتها ليس فقط في محاولة فهم الأسباب التي أدت لهذا التراجع، بل في العثور على مقاربة ما لإنقاذ الصحافة الورقية! يحدث ذلك في وقت تجاوز فيه العالم منذ سنوات هذا النقاش متجها للتساؤل عن مستقبل وجود الصحافة الإلكترونية نفسها.
بات انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتزايد تركيز الاحتكار في القطاع التقني يشكلان تهديدا جديا لوجود الإعلام الإلكتروني عموما، وبشكل خاص ذلك المعتمد على عوائد الإعلان الرقمي. وتراجعت قدرة القطاع التجاري على الإعلان عن منتجاته مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي والوصول إلى ملايين المتابعين والزبائن المحتملين، مع قيمة وسائل الإعلام التقليدية والرقمية على السواء كمنصات لبث الإعلان.
بالفعل، ما حاجة المعلن لمؤسسة صحفية تصعب معرفة حجم متابعتها لنشر إعلانه على صفحاتها، إن كان بوسعه إنشاء صفحة على فيس بوك والوصول لعشرات الملايين من الزبائن مباشرة ودون وساطة وسيلة الإعلام؟ لإدراك الفرق، ما عليك سوى أن تلقي نظرة على الأرقام. بالنسبة للمعلن، يكلف وصول الإعلان إلى ١٠٠٠ شخص نحو ٢٨ دولارا عبر التلفاز مثلا، وما لا يقل عن ١٦ دولارا عبر الصحف، في مقابل دولارين ونصف الدولار عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تسمى تلك المعادلة "سي بي ام".
[مقارنة كلف الإعلان عبر وسائل الإعلام المختلفة وفق معادلة "سي بي ام". المصدر: موقع لايف للتسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي]
أدى هذا الواقع إلى هيمنة فيسبوك وغوغل على النسبة الأكبر من سوق الإعلان الإلكتروني، في وقت تواصل فيه وسائل الإعلام لهاثها خلف ما تبقى من معلنين لا يزالون مؤمنين، على الأقل حتى الآن، بفاعلية نشر الإعلانات على صفحات المؤسسات الصحفية.
لكن حتى هذا الإيمان آخذ في التراجع هو الآخر. ربما لن يمضي وقت طويل حتى نرى تحول الغالبية الكاسحة من المعلنين نحو غوغل وفيسبوك كقنوات لنشر الإعلان، مخلفين وراءهم مؤسسات صحفية على حافة الإفلاس والإغلاق. هذا على الأقل ما يمكن استنتاجه من بيانات موقع "اي ماركتنج" للتسويق الالكتروني.
آخر أرقام الموقع تشير إلى أن الإعلان التقليدي (عبر وسائل الإعلام) سيواصل تراجعه هذا العام أيضا لصالح الرقمي تحديدا عبر غوغل وفيسبوك. هاتان الشركتان (بالإضافة لموقع "علي بابا" الصيني للتجارة الإلكترونية) تهيمنان على الغالبية الكاسحة من الإعلانات الرقمية بنسبة تتجاوز ٦١٪.
[الشركات المهيمنة على سوق الإعلان الرقمي. المصدر: أي ماركتنج]
الإعلام غير الربحي: هل هو الحل
هذا التعقيد الأخلاقي والعملي الذي يواجهه العاملون في الصحافة الربحية، هو ما دفع الأجيال الجديدة من ممارسي المهنة نحو تبني الخيار غير الربحي. نموذج الصحافة غير الربحية ذاك قديم قدم المهنة نفسها وترجعه بعض المصادر إلى القرن التاسع عشر مع تأسيس وكالة "الأسوشيتد بريس” الأمريكية كمنظمة غير ربحية. إلا أن انتشار هذا اللون من التمويل على النحو الذي يشهده العالم الآن لم يبدأ إلا نهاية الثمانينيات وبداية عقد التسعينيات، حين بدا أن قدامى الصحفيين في الولايات المتحدة قد يئسوا من مواصلة التعامي عن بؤس النموذج الربحي. بالنسبة لهؤلاء، كان لهاث المستثمرين وراء الربح سببا أساسيا في تراجع قدرتهم على الالتزام بثوابتهم المهنية، لذا بدت فكرة التخلص من شرط الربحية مغرية لجهة قدرتها المحتملة على استعادة الصحافة لأدوارها المصادرة.
في ١٩٨٩ قرر تشارلز لويس، المعد السابق لبرنامج التحقيقات الأميركي الأكثر شهرة “ستون دقيقة”، أن الوقت حان للتخلص من سطوة الشركات على المحتوى الإعلامي. أسس لويس برفقة عدد من أصدقائه مركز النزاهة العامة الأميركي وهو مؤسسة غير ربحية للتحقيقات الاستقصائية. حصلت المؤسسة لاحقا على جائزة البوليتزر الرفيعة في مجال التحقيقات وتوالدت عقب ذلك المؤسسات غير الربحية التي تركز في مجملها على صحافة العمق الساعية لخدمة الصالح العام، مثل المركز الدولي للصحفيين الاستقصائيين الذي أسس نهاية التسعينيات وفجر قبل سنوات سلسلة من التحقيقات المالية حول جزر النعيم الضريبي أبرزها وثائق بنما، وكذلك "برو بابليكا" و منظمة النزاهة العالمية والمركز الدولي للصحفيين وغيرها.
مع بدايات الالفية الثالثة بدأ هذا النمط من الإعلام بالانتشار حول العالم وفي الوطن العربي على السواء. تباعا، ما لبثت غايات المؤسسات الصحفية غير الربحية بالتغير أيضا ولم تعد مقتصرة على الأخبار والشأن العام، وتوسعت لتشمل مواقع ثقافية، فنية وساخرة، وجدت في التمويل غير الربحي ضالتها لسداد النفقات وإنتاج المحتوى.
غير أن هذا النموذج القديم\ الجديد ليس بلا تعقيدات جدية أيضا كسابقه.
أدى تغير هوية الممولين من شركات تبحث عن الدعاية والإعلان إلى مانحين غير ربحيين إلى تغيرات جوهرية مماثلة في ديناميكيات التعاطي المهني مع مسألة التمويل وحدوده. في تحليله للأمر، يلفت نظرنا أستاذ الصحافة السابق في جامعة كولومبيا الأميركية، نيكولاس ليمان، إلى أن المعلنين، سواء منهم ملاك المحال أو أصحاب وكالات السيارات أو حتى الشركات الكبرى لم يكونوا معنيين بمناقشة المسائل الإدارية المتعلقة بحجم الموازنة او عدد العاملين في المؤسسة. كل ذلك لم يكن شرطا لهم ليوقعوا عقد الإعلان مع المؤسسة التي تتبنى نموذجا ربحيا في عملها.
أما الآن، في عصر الإعلام غير الربحي فقد بات كل ذلك شبه بديهي، كما يشير ليمان. صحيح أن سلوك المانحين ذاك مفهوم ومبرر لجهة انطلاقه من الحرص على أن تنفق تبرعاتهم على نحو رشيد لا يتعارض مع الضوابط المشددة للتبرع في البلدان الغربية، إلا أنه يحدث في وقت لم تترسخ فيه بعد القواعد الأخلاقية والمهنية الجامعة لهذا النوع من الصحافة في علاقتها بالتمويل. لتجاوز هذه الإشكالية، يعتقد ليمان أن الحل يكمن في تداعي تلك المؤسسات الصحفية غير الربحية لصياغة قواعد أخلاقية ترسم من خلالها حدود ما يجوز ولا يجوز للمانح طلبه منهم، وبناء كتلة حرجة قادرة على حماية مهنتهم وتعزيز موقفهم في مواجهة شروط الممولين المتعلقة بالمحتوى الصحفي.
ينبغي الإقرار أن هذا الواقع لم يحل دون أن يشهد العالم العربي انتشارا لمؤسسات صحفية غير ربحية أثبتت قدرتها على الالتزام المهني والأخلاقي في تعاملها مع مصادر التمويل ومع جمهورها. مثلا، تحرص بعض تلك المنصات على الشفافية فيما يتعلق بهوية مموليها، وهو إجراء أخلاقي ومهني حيوي لاكتساب ثقة الجمهور. من حق القراء معرفة مصادر تمويل المؤسسة الصحفية لتقييم أي صراع في المصالح قد يشوب تغطياتها. على أن علينا الانتباه إلى أن حذر تلك المؤسسات في التعامل مع التمويل وانحيازها لمصالح الرأي العام أحيانا بمعزل عن اهتمامات المانحين يضعف قدرتها على تحصيل التمويل اللازم لأداء رسالتها كما ترغب، الأمر الذي يبقيها تحت ضغط مالي متواصل يصعب عملها.
يتعقد الأمر بالنسبة لتلك المؤسسات الصحفية غير الربحية لدى نزوع الأنظمة العربية إلى شيطنة التمويل الأجنبي باعتباره اختراقا غربيا للمجتمعات العربية. تسعى بعض السلطات العربية، كما في الأردن ومصر، أثناء وعقب ما عرف بقضية التمويل الأجنبي، إلى "قوننة" هذا التمويل بحجة الوقوف في وجه "الأجندات الخارجية" المعادية لمصالح البلاد، وهي ديباجة مكرورة تلجأ لها الأنظمة العربية، التي تعتاش بشكل شبه كامل على القروض الأجنبية، متى ما أرادت وضع العراقيل أمام وسائل إعلام لا تتبنى بالضرورة الرواية الرسمية للأحداث والظواهر.
ما تتجاهله أنظمة الحكم العربية هو أن التمويل غير الربحي ظاهرة عالمية تشمل الدول المتقدمة كما النامية، وربطه بموضوع التدخلات الخارجية ليس صحيحا أو بريئا بأي حال. في الولايات المتحدة مثلا، تعمل نحو مليون ونصف المليون منظمة غير ربحية في البلاد وتحظى جميعها بدعم المشرع الأميركي لدورها في دفع عملية التنمية وخدمة الصالح العام كما يسمح لها جميعا بتلقي التمويل من الخارج. أضف لذلك أن هذا التمويل الذي تتلقاه المؤسسات الصحفية "غير ربحي"، وهو ما يجعله مناقضا تماما لما يسمى "المساعدات الخارجية" التي تتلقاها الحكومات العربية. خلافا لمنح التمويل الصحفي، تلك "المساعدات" ليست سوى قروض مشروطة أرهقت اقتصادات البلدان النامية، وصادرت سيادتها، وتسببت بالإفقار وتراجع التنمية على نحو غير مسبوق. المنح التي تتلقاها المؤسسات الصحفية ليست قروضا، وقد ساهمت بكسر الرواية الصحفية السائدة التي فرضها إعلام السلطات ابتداء من حقبة ما بعد الاستقلال والمد القومي أواسط القرن العشرين على الأقل، وحتى الآن.
صحافة من الجمهور للجمهور
كل هذه التعقيدات والعقبات التي تواجه الصحفيين والمؤسسات المستقلة في الوطن العربي جعلت العمل تحت أي من النماذج السابقة صعبا بما لا يقاس. للأسف، لم يساعدنا انتشار وسائل التواصل الاجتماعي كثيرا.
أعطتنا وسائل التواصل صوتا لكنه صوت بلا وزن. صرخات في برية نظم عربية قمعية. أغرقتنا بآراء غير مدروسة ومعلومات مضللة اعتدناها دون أن ندرك أثرها العميق على وعينا وحكمنا على الوقائع من حولنا. يحدث ذلك في وقت تهيمن فيه وسائل الإعلام الممولة من النظم الثرية في الخليج على مشهد الصحافة الإقليمي، وتشكل وعي الرأي العام العربي وفق استقطابات أنظمتها المتصارعة على النفوذ الإقليمي على نحو قسم المجتمعات العربية طوليا وعرضيا فكريا، مذهبيا وطائفيا كما لم يحدث من قبل. الصحافة المحلية، في جلها، سلمت أمرها للرواية الأمنية السائدة في بلدانها. وفيما تحاول المؤسسات المستقلة البقاء على قيد الحياة، لا يبدو أن الحظ سيحالفها مطولا في ظل صعوبات التمويل.
كمجتمعات عربية، ينبغي أن يدفعنا هذا المشهد البائس والمحزن لاستيعاب الأبعاد الخطرة لغياب وضعف الصحافة المستقلة. من الصعب تخيل إنجاز إصلاحات تقدمية في بلداننا إن كنا نرى العالم من حولنا بعيون إعلام تدجنه نظم شمولية لا تعترف بحقنا بالمعرفة والتقدم ابتداء.
مع كل ذلك، نحتاج إلى الإقرار أن الصحافة المستقلة ليست هبة تهبط من السماء، بل واقع تكتسبه الشعوب بانحيازها ودعمها لهذا النوع من العمل. لذا، يبدو الاعتماد على تمويل القراء أنفسهم خيارا عقلانيا مقبولا من الناحية النظرية، رغم كونه غير مرغوب فيه عمليا. مرد انعدام الحماس تجاه الفكرة في أوساط الممارسين لهذه المهنة يعود لكون المحتوى الصحفي في غالبيته متاح مجانا على شبكة الانترنت ما يجعل من محاولة تقاضي بدل مالي من القراء لقاء تقديمه ضربا من العبث. لكن الحقيقة أن هذا المحتوى المجاني، رديء في غالبيته الكاسحة، والسبب إجمالا هو أنه لا يكلف أي موارد تذكر. الرداءة رخيصة كما نعرف.
طبعا ثمة تخوف مفهوم في الأوساط الصحفية العربية المستقلة من تراجع المحتوى العربي على الانترنت إذا ما بدأت المؤسسات المستقلة بالتوقف عن توفير محتواها مجانا، خصوصا وأن حجم المحتوى العربي على الإنترنت عموما ضعيف ولا يتجاوز نسبة ٣٪ من إجمالي المحتوى العالمي على الشبكة. أضف لذلك محدودية انتشار ثقافة الدفع المالي على الانترنت في الوطن العربي ما يجعل تقاضي الاشتراكات، إن وجدت، أمرا صعبا للغاية.
إلا أن ثمة اعتقاد مقابلاً يفيد بأن رغبة الجمهور بالدفع تنطلق أساسا من جودة المحتوى المقدم له وندرته. في الوقت الذي يشعر فيه الجمهور بأن المحتوى على سوية عالية يصعب العثور عليها مجانا، لن يجد مانعا من الدفع مقابل الحصول عليه، ولعله سيؤمن وسيلة ما للدفع.
أضف لذلك أن المحتوى الصحفي لم يكن يوما مجانيا؛ فعلى امتداد التاريخ، ظل المتلقي يدفع المال مقابل الحصول على الجريدة أو تلقي خدمة التلفاز. في الواقع، إن المحتوى، كأي منتج آخر، يكلف وقتا ومالا ونسبة من الخطورة تحتم على منتجيه تقاضي المال مقابل تقديمه للراغبين بالحصول عليه.
يعزز الانحياز لهذا الخيار وجود نماذج عديدة حول العالم أثبتت نجاح الاعتماد على الجمهور في دعم الصحافة المستقلة.
في هولندا، خلال أقل من شهر، تمكن موقع "ذا كوريسبوندنت" الصحفي من جمع مبلغ ناهز اثنين مليون ونصف يورو كتبرعات شعبية في أكثر من ١٦٠ دولة حول العالم لإطلاق نسخته الإنجليزية. ولئن كان نجاح موقع أوروبي في الحصول على دعم الجمهور أمرا مفهوما بالنظر إلى انتشار ثقافة الدفع الالكتروني وارتفاع معدلات الدخول ومستوى المعيشة، إلا أن منصات صحفية أخرى في بلدان نامية، مشابهة لبلداننا العربية، تمكنت هي الأخرى من الحصول على دعم جمهورها، كما فعل موقع "ال فارو".
السؤال الذي واجه محرري الموقع السلفادوري في بداية الأمر كان شبيها بذاك الذي يواجه المحررين العرب: كيف يمكن إقناع القراء بتقديم الدعم المالي في ظل أوضاع اقتصادية صعبة وشبه انعدام لثقافة الدفع الإلكتروني. لكن إطلاق حملة جمع التبرعات جاء بنتائج لم تكن متوقعة.
تمكنت "ال فارو" من جمع نحو ٢٧ ألف دولار، وهو مبلغ كبير بكل المقاييس بالنظر للأوضاع الاقتصادية في هذا البلد. في أحد اللقاءات الصحفية، علق مدير الموقع، خوزيه لويس سانر، بالقول إنهم حققوا "هدفهم العاطفي" بزيادة الالتحام بجمهورهم وجعلهم شركاء في استمرار المؤسسة.
هذا الالتحام بالجمهور هو ما تحتاجه الصحافة المستقلة. هذه العلاقة التي ترتفع بالرأي العام من مستوى التبعية إلى مقام الشراكة وتهبط بالصحافة من برجها المعرفي لتلمس عن قرب خصوصيات ومخاوف وإحباطات مجتمعاتها، هي ما نحتاجه في العالم العربي لبناء مؤسسات تعبر عن جمهورها، خصوصا في ظل الانسداد الحاصل في قنوات التعبير السياسي الأخرى.
إذا كان من نتيجة واحدة يمكن استخلاصها من تتبع أنماط التطور والتراجع في الصحافة الحديثة حول العالم فهي ببساطة: المستقبل لصحافة أكثر مهنية تخدم الجمهور وتعتمد على دعمه، صحافة مهنية ومدفوعة.
هيمنة شركات التقنية على الإعلان بما خلقه من مشاكل مالية مستعصية لوسائل الإعلام حول العالم أدى لإفلاس بعضها، مع فشل المستثمرين في قطاع الصحافة بـالانحياز لمصالح الرأي العام، وانتشار المضمون المجاني الرديء، كلها وقائع تدعم هذه النتيجة.
جرت العادة أن يلوم الجمهور العربي الإعلام على رداءة منتجه وانسحابه من التعبير عن مصالح العموم، على أن الحقيقة هي أن مسؤولية امتلاك صحافة معبرة عن هموم الرأي العام في القرن الواحد والعشرين تقع في جزء كبير منها على عاتق الرأي العام نفسه.