تونس. ما فعله عقد من ممارسة السلطة بحركة النهضة

تونس. ما فعله عقد من ممارسة السلطة بحركة النهضة

تونس. ما فعله عقد من ممارسة السلطة بحركة النهضة

By : Arabic Editors

حاتم نفطي

موفى فبراير/شباط في تونس العاصمة، قام الحزب ذي المرجعية الإسلامية بتعبئة أنصاره لحشد الصفوف حول قائده راشد الغنوشي. لكن بعد عقد من فوزها الانتخابي الأول، يبدو أن حركة النهضة تواجه صعوبات للمحافظة على مكانتها على الساحة السياسية.

في 30 يناير/كانون الثاني 2011، وطئت قدما راشد الغنوشي أرض تونس بعد أن كان قد قضى 20 سنة في المنفى. استقبله آلاف الأشخاص في مطار تونس-قرطاج بنشيد “طلع البدر علينا”. وقد كانت هذه العودة بعد أسبوعين فقط من سقوط الرئيس بن علي رمزا للانبعاث الجديد للحزب الإسلاموي الذي سعى النظام السلطوي لاستئصاله.

رغم سجن ونفي عدد مهم من قياداته، كان بوسع حزب حركة النهضة -الذي تم تشريعه في مارس/آذار 2011- الاعتماد على شبكة من النشطاء المتواجدة في كامل تراب الجمهورية كما في أهم البلدان التي تسكنها جالية تونسية. وبما أن القانون الانتخابي الجديد منع مسؤولي النظام السابق من الترشح، فقد أصبحت النهضة أهم قوة سياسية في البلاد. أمام هذه الشعبية، اختار جزء ليس بالقليل من النخبة السياسية الجديدة التي كانت معارضة لبن علي أن تجعل من اصطفافها ضد النهضة خطة انتخابية، بل لم تتوان في استعمال خطاب مشابه لخطاب النظام القديم لشيطنة حركة الغنوشي، حتى وضعتها في قلب اللعبة السياسية.

من جهتها، تفادت النهضة إلى حين انعقاد انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر/تشرين الثاني 2011 الدخول في مواجهة مع السلطة. وقد فضلت قياداتها التذكير بمعاناتهم زمن الديكتاتورية، ما رسّخ انتماءهم في ذهن جزء من الرأي العام إلى معسكر الثورة، كما ساهم الخطاب الإعلامي المهيمن والمناهض لهم في تعزيز صورتهم كضحية. وهكذا فازت الحركة بالانتخابات من خلال الحصول على نسبة 37% من الأصوات و42% من مقاعد المجلس التأسيسي.

كالرقص على الحبال

لكن كيف السبيل إلى حكم بلاد دون حد أدنى من التعاون من طرف نخبتها السياسية والثقافية والإعلامية والإدارية؟ وجدت النهضة نفسها في مأزق بين ضغط قواعدها والعداء الذي تكنه لها أطراف مؤثرة، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. كما أن وصول الإسلاميين إلى السلطة يغذي خوف جزء من التونسيين الذين علق ببالهم سيناريو إيران وخاصة الجزائر.

سعت الحركة إلى طمأنة هؤلاء وتنسيب صورة الهيمنة الإسلاموية على جميع المؤسسات، وذلك من خلال التحالف مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية برئاسة المنصف المرزوقي والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات بقيادة مصطفى بن جعفر. وتولت النهضة رئاسة الحكومة بينما حظي حزب المؤتمر برئاسة الجمهورية والتكتل برئاسة المجلس التأسيسي. في الواقع، كانت رئاسة الحكومة هي التي تحظى بأهم صلاحيات السلطة التشريعية وكان الحزب الإسلامي يتحكم في أهم الوزارات واللجان.

منذ ذلك الحين، بات الموقف من الإسلاميين بيت القصيد في كل موعد انتخابي. وإن لم يمنع ذلك حزب الغنوشي من الفوز في كل مرة -ولو بأغلبية ما فتئت تتراجع-، فقد فهم الأخير أن على حركته ألا تنفرد أبدا بالحكم حتى لا تستقطب الغضب الشعبي.

وفعلا، وبعد أقل من سنة أي في يونيو/حزيران 2012، اغتنم الباجي قايد السبسي -الذي شغل منصب الوزير الأول خلال الفترة الانتقالية (فبراير/شباط-أكتوبر/تشرين الأول 2011)- تفكك المعارضة “الديمقراطية” لإنشاء حزب نداء تونس، وجمع حوله معارضين تاريخيين ونقابيين وشخصيات من النظام السابق يتميزون بقاسم مشترك وحيد وهو معارضتهم للإسلاميين. لكن هذه المفارقة لن تصمد طويلا أمام ممارسة السلطة.

على خطى السيناريو المصري؟

تسلّح أنصار حركة النهضة بالشرعية التي منحتها لهم انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011، ودخلوا في حرب ضروس مع من يخالفهم الرأي والانتماء، إذ رأوا في ذلك رفضا لحكم الصندوق. وهكذا بات معارضون تاريخيون لحكم بن علي محسوبين على الثورة المضادة -لا سيما المحامون الذين كانوا يدافعون عن الإسلاميين أيام الديكتاتورية-، وذلك لمجرد عدم مساندتهم لسياسة الحكومة. وشهد شتاء 2012 اعتصاما أمام مقر مؤسسة التلفزة التونسية بتهمة أن الأخيرة لا تعكس إرادة الشعب. وقد أنشأ رواد هذا الاعتصام فيما بعد ما يُعرف بروابط حماية الثورة، وهي ميليشيات تتهجم على المعارضين وتعتدي عليهم، كما فعلت مع حزب نداء تونس بعد صعوده في سبر الآراء، إذ بات المنافس الأساسي لحركة النهضة.

لم تقم الحكومة بالرد على أعمال العنف هذه، بل تساهلت مع التعبيرات الأكثر تطرفا للإسلاموية باسم حرية المعتقد. وفرشت قيادات من النهضة البساط في استقبال دعاة متطرفين مثل المصري وجدي غنيم أو الكويتي نبيل العوضي، وأصبح لحزب التحرير السلفي -الذي يدعو إلى إقامة دولة الخلافة- وجود قانوني، وباتت مجموعة أنصار الشريعة التابعة لتنظيم القاعدة حاضرة على الساحة العمومية. يحدث كل هذا في سياق من الهجمات الإرهابية التي كانت تستهدف القوات المسلحة. وفي 18 أكتوبر/تشرين الأول 2012، انتهت مظاهرة من تنظيم روابط حماية الثورة في مدينة تطاوين جنوب البلاد بسحل مسؤول محلي لحزب نداء تونس حتى الموت.

تواصلت أعمال العنف مع اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي من الجبهة الشعبية (ائتلاف متكون من أحزاب اليسار وأقصى اليسار) في 2013. موفى يوليو/تموز، أي بعد أسابيع من انقلاب عبد الفتاح السيسي على محمد مرسي في مصر والذي سانده -أو قَبِل به- أغلب شركاء تونس، اجتمع محتجون أمام مقر المجلس التأسيسي في باردو للمطالبة بحل جميع المؤسسات الناتجة عن انتخابات 2011.

الطفرة هي الحلّ

بات واضحا بالنسبة لقيادات النهضة أن الشرعية الانتخابية لن تنأى بهم عن خطر الانقلاب، فقرروا التقرب من أعداء الأمس -أي الدساترة- وآثروا طريق التوافق. بيد أن هذا المنعرج ليس الأول من نوعه. صحيح أن النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية خاضا -رسميا- معركة ضد بقايا النظام السابق في 2011، لكنهما لم يترددا في تسمية شخصيات كانت قريبة من الحكم زمن بن علي على رأس مؤسسات عمومية وإدارية مقابل ولائها.

قبلت النهضة إذن الانسحاب من الحكم وترك المكان لحكومة تكنوقراط حتى موعد انتخابات 2014. فاز حزب نداء تونس في التشريعية والباجي قايد السبسي في الرئاسية. لكن بعد حملة انتخابية شديدة العدوانية، قررت حركة النهضة وبطريقة مفاجئة عدم مساندة حليفها السابق المنصف المرزوقي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. وبعد حصوله على المرتبة الثانية في التشريعية، اختار الحزب التحالف مع نداء تونس بدعوى المصلحة الوطنية. وقد كان هذا التنازل الأول وليس الأخير، وهو يشهد على التجاذبات التي تعيشها الحركة بين قاعدتها التي يحرّكها الفكر الإسلاموي، وبين ضرورة اللجوء إلى التسوية لضمان بقائها السياسي.

صحيح أن قدرتها الدائمة على التأقلم تسمح للنهضة بالمكوث في الحكم على المدى المتوسط. لكن هذا الخط قد يهدد وجودها على المدى الطويل. أولا، لأن عدد ناخبيها أصبح لا يتجاوز قاعدة ضيقة متكونة من نشطاء قدامى يجمعهم ماض نضالي مؤلم، حتى أن عددا ممن كانوا يُعتبرون مقربين من راشد الغنوشي غادروا الحزب. ثانيا، لأن هالة الشيخ راشد الذي يتزعم الحزب منذ 30 سنة بلا هوادة باتت تهدد بالفتور.

لا شك أن النهضة استفادت كثيرا -ولكنها كذلك تغيرت بشكل ملحوظ- خلال عهدة الباجي قايد السبسي، إذ كانت طرفا في الحكم دون أن تكون في الواجهة، كما تمكنت من توسيع دائرة تأثيرها مع تفكك الحزب الرئاسي تحت وطأ النزاعات الباطنية. ولم يتردد الإسلاميون آنذاك في مساندة مشاريع قانونية مثيرة للجدل مثل قانون “المصالحة” الذي يهدف إلى العفو على الموظفين المطلوبين لدى العدالة لإسهامهم في الفساد خلال فترة حكم بن علي.

على الصعيد الداخلي، أعاد الحزب النظر في هيكلته وتنظيمه. فعلاوة على الإشادة بالفصل بين الجانب السياسي والدعوي، كان المؤتمر العاشر للحزب الذي انعقد سنة 2016 فرصة للتوسيع من صلاحيات راشد الغنوشي الذي بات بإمكانه تسمية أعضاء المكتب التنفيذي قبل المصادقة عليهم من قبل مجلس الشورى. وقد يبدو هذا التغيير غريبا بالنسبة لحزب ما فتئ يدعو إلى إرساء نظام برلماني بحجة الحد من خطر الانفراد بالسلطة. وقد دفع بعض المرشحين لانتخابات 2019 التشريعية ثمن هذا التغيير باهظا، إذ لم يتردد “الشيخ راشد” بتنقيح اللوائح الانتخابية رغم أنها كانت نتيجة لانتخابات أوّلية أقيمت على الصعيد المحلي.

وخلافا لما يؤكده البعض، فإن التحالف بين النهضة ونداء تونس ليس فعلا بالهجين، إذ يلتقي الحزبان في أكثر من نقطة، أهمها الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، إذ تساند النهضة “الإصلاحات” التي يطالب بها الدائنون كما لا تعارض المثال الاقتصادي الذي تنتهجه تونس منذ الثمانينيات والذي يقضي بتراجع دور الدولة والانفتاح على اتفاقيات تبادل حر غير متكافئة.

نحو انسداد أفق التسوية

في الموعد الانتخابي تظهر تداعيات المراوغة والمراوحة بين الخطاب الثوري وممارسة متناقضة للسلطة تظهر. صحيح أن حركة النهضة فازت -مرة أخرى- في انتخابات 2019 التشريعية، لكنها بالكاد تتحكم في ربع البرلمان، كما أن قاعدتها الانتخابية تتقلص من سنة لأخرى، إذ انخفض عدد منتخبيها من مليون ونصف ناخب في 2011 إلى 560 ألف في 2019.

مرة أخرى، لعب الحزب ورقة الخطاب الثوري، لكن ظهور كتلتين رجعيتين -وهما الحزب الدستوري الحر لعبير موسي وائتلاف الكرامة- جعلا اللجوء إلى سياسة التسوية أكثر هشاشة. فحزب عبير موسي يرفض قطعا كل ما أتت به الثورة ويحن علانية إلى زمن بن علي، بينما وجد ائتلاف الكرامة لنفسه مكانا علي يمين حركة النهضة -رغم كونه حليفا وفيا للغنوشي- واستقطب عددا من عناصر روابط حماية الثورة.

هكذا وجدت الحركة نفسها بين مطرقة جناح يميني امتهن المزايدة في القضايا المجتمعية -تلك التي تنازلت عنها النهضة- وبين سندان الكابوس القديم -أي موقع الأقلية وخطر السيناريو المصري. فما كان منها إلا أن تحالفت مع حزب قلب تونس لرجل الأعمال نبيل القروي، الذي اشتهر زمن بن علي وكان من مؤسسي حزب نداء تونس -وهو حاليا موقوف بتهمة تبييض أموال. وكانت النتيجة أن صار راشد الغنوشي رئيسا لمجلس نواب الشعب، وهو أقصى ما يمكن أن يحصل عليه إذ أن العدوانية التي يكنها له الكثيرون لن تسمح له أبدا بالترشح لمنصب رئاسة الجمهورية.

في هذا السياق، يجب الإشارة إلى أن انتخاب قيس سعيّد رئيسا للجمهورية والشعبية التي يحظى بها جعلت الوضع أصعب بالنسبة للنهضة. فسعيّد -على خلاف السبسي- ليس من أهل الوفاق ولا يضيّع فرصة للتنويه إلى التناقضات والتنازلات التي يقوم بها خصومه. ما يفسر نسب الثقة التي لا يزال يتمتع بها رغم ضعف مردوده.

موقف سعيّد هو مصدر الأزمة السياسية التي تعيشها تونس حاليا. إذ بعد تحوير وزاري جزئي قام به رئيس الحكومة هشام المشيشي في 16 يناير/كانون الثاني 2021 -وقد أملاه عليه كل من قلب تونس والنهضة- رفض سعيّد تنظيم حفل أداء اليمين للوزراء الجدد، وهو شرط لازم لممارسة نشاطهم. وبينما كانت بعض الأحزاب والمؤسسات تسعى إلى لعب دور الوسيط بين رئيس الجمهورية ورئاسة الحكومة، آثرت النهضة خطاب المواجهة. وفي 27 فبراير/شباط 2021، دعا الحزب أنصاره إلى التظاهر دفاعا عن “المؤسسات والشرعية”. وهكذا نزل آلاف المتظاهرين رِجالاً وقد أتوا من كلّ فجّ عميق إلى شارع محمد الخامس في العاصمة، غير مكترثين بالتباعد الجسدي أو بتدابير جائحة كورونا مثل منع التنقل بين المدن. استعراض كهذا من شأنه أن يحشد الصفوف حول راشد الغنوشي الذي قد يفقد منصبه كرئيس للبرلمان.

صحيح أن قدرتها الدائمة على التأقلم تسمح للنهضة بالمكوث في الحكم على المدى المتوسط. لكن هذا الخط قد يهدد وجودها على المدى الطويل. أولا، لأن عدد ناخبيها أصبح لا يتجاوز قاعدة ضيقة متكونة من نشطاء قدامى يجمعهم ماض نضالي مؤلم، حتى أن عددا ممن كانوا يُعتبرون مقربين من راشد الغنوشي غادروا الحزب. ثانيا، لأن هالة الشيخ راشد الذي يتزعم الحزب منذ 30 سنة بلا هوادة باتت تهدد بالفتور. فآثار المؤتمر العاشر لم تُمح بعد بينما يُنتظر انعقاد المؤتمر الحادي عشر -الذي تأجل أكثر من مرة بسبب جائحة كورونا-، والذي يُنتظر أن يحسم في مسألة بقاء الغنوشي على رأس الحزب -وهو ما لا يسمح به القانون الداخلي الحالي- أو تعيين خليفته. وقد أمضى 100 قيادي في النهضة في سبتمبر/أيلول 2020 رسالة مفتوحة إلى رئيس الحركة يطلبون فيها منه عدم الترشح مجددا لهذا المنصب، وهو حدث استثنائي في هذا الحزب الذي اشتُهر بانضباطه الداخلي.

أخيرا وليس آخرا، ورغم اندماج النهضة في جميع مظاهر الحياة العامة، لا يزال جزء من المجتمع يرفضها -وهو أمر لا ينحصر على “الاستئصاليين” إن كانوا من اليسار أو من أنصار النظام السابق. فبعض الممارسات التي تذكّر بأيام النضال السري لا تزال موجودة، ما يثير توجس المواطنين، من ذلك مثلا تقديم عدد من المسؤولين الإداريين أو السياسيين المقرّبين من الحزب على أنهم مستقلون. ممارسات كهذه تغذي الشكوك حول وجود هياكل موازية، وهو أمر ليس بالنادر بالنسبة للحركات المرتبطة بالإخوان المسلمين.

مؤخرا، وجدت هذه الشكوك صدى بسبب صراع شبّ حول الفرع التونسي للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين. فمنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020، يقود حزب عبير موسي اعتصاما أمام مقر الاتحاد، وقد قررت الأخيرة في 9 مارس/آذار 2021 دخول المقر والاستيلاء على جزء من أدواته التعليمية. ردا على ذلك، قامت شخصيات محسوبة على الإسلام السياسي بتنظيم اعتصام مضاد، من بينها نواب ائتلاف الكرامة، وجزء من قيادات النهضة، وكذلك مسؤولون سابقون في الحزب كانت استقالتهم قد أحدثت ضجة كبيرة. هذا الدفاع اللا مشروط على الحركة يعزّز شكوك البعض بوجود ولاء لحركة فوق وطنية تريد مهاجمة الدولة التونسية. وكما برّر هذا الخطاب قمع نظام بورقيبة وبن علي للإسلاميين، فقد يخدم مصلحة عبير موسي التي تسعى إلى قلب صفحة الثورة.

[ترجمت المقال من الفرنسية سارة قريرة.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬