زينب صالح
نصوص صدرت حديثًا (عن جامعة ستانفورد للنشر، 2020)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى تأليف هذا الكتاب؟
زينب صالح (ز.ص.): في صيف عام 2002، بدأت العمل على شهادة الدكتوراه في جامعة كولومبيا الواقعة في مدينة نيويورك. كان الجوّ مشحونًا بالحديث عن الحرب. كان الجميع يناقشون استعدادات إدارة بوش لغزو العراق. وكان معسكر مناهضي الحرب قويًّا في حرم الجامعة. عمل الطلاب والأساتذة على التظاهر ضدّ الحرب، ونظّموا اعتصامات وندوات تحذّر من نتائجها وتكشف نفاق الحكومة الأميركية.
إلا أن المعسكر المؤيّد للحرب، وخاصة خارج عالم الأكاديميا، حظي بقوة أكبر. إذ شنّ حملة ضد أسلحة الدمار الشامل، وقمع صدام حسين للعراقيين، والاتهامات بوجود علاقات بين صدام وبين القاعدة.
تبادل كلا المعسكرين الصراخ في وجه الآخر، بل وشمل ذلك أعضاء المعكسر الواحد، في نقاشات حول الحريّة والديمقراطيّة في مقابل الاستعمار، والسيادة في مقابل الإمبرياليّة، وحقوق الإنسان في مقابل النفط. أمّا العراقيون، الذين تحمّلوا العبء الأكبر الناجم عن تأييد الحكومات الغربية لصدام حسين (وسقطوا مع سقوط نظامه)، والذين كانوا في طريقهم نحو تحمّل وطأة حرب أخرى، فقد كانوا مهمّشين في تلك الصراعات والنقاشات. بلا وجوه.
وفيما بدأ غزو العراق في عام 2003، أدّى الخطاب الاستشراقي حول العراق، الذي اعتبر أنّ البلاد تتنازعها الأفكار البدائية، فاقم من إسكات أصوات العراقيين.
ما دفعني لتركيز بحثي على العراقيين، كان تغييبهم كأفراد عن النقاشات والأخبار المتعلّقة بالاحتلال الأميركي. ولأنّي عراقيّة محظوظة تعيش في الخارج، فإنني أدين للعراقيين بتقديم نسخة أكثر دقّة عن قصصهم، وآمالهم، وخيباتهم، وخسائرهم. وبما أنّه من المستحيل إنجاز أي نوع من البحث في العراق نظرًا للوضع المتردّي هناك، فقد اخترت لندن، حيث تعيش الجالية العراقية الأكبر في أوروبا، من بين جاليات الشتات آنذاك.
يدلّنا تاريخ التورّط الاستعماري الأميركي على أن العراقيين عاشوا باستمرار في ظلّ الحروب، والاستبداد، والعنف الإمبريالي. وعبر التدخلات العسكريّة، وإطالة الحروب، ودعم صدام حسين، خلقت الولايات المتحدة ظروف حرمان وموت العراقيين داخل العراق وفي الشتات. كإمبراطورية، لجأت الولايات المتّحدة إلى أساليب وسياسات توزّع الموت والحياة بطريقة غير متساوية؛ إذ مارَست القوّة لقتل شعوب خارج حدود أراضيها. في هذه الحالات، لم يكن الأمر عبارة عن دولة رجعية محافظة تقتل مواطنيها فحسب، بل دولة متحرّرة تقضي على حياة رعايا مستعمَرين باسم الأمن القومي، والديمقراطية، والحريّة، وحماية السلم العالمي. كتبت هذا الكتاب لإظهار هذا التاريخ وتأثيره على العراق.
ج: ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(ز.ص.): يركّز هذا الكتاب على العلاقات المترابطة بين الإمبراطوريّة، والذاتيّة والمنفى. فيما كنت أستمع إلى العراقيين خلال عملي الميداني (2006-2019) أدركت أن سردياتهم عن التهجير، بالإضافة إلى مسارات حيواتهم عمومًا، متشابكة بعمق مع التدخلات الاستعماريّة في العراق، والتي بدأت منذ مطلع القرن العشرين وما زالت مستمرّة حتى اليوم.
إنّ العراقيين في لندن، حالهم حال الذين في العراق، عبارة عن "رعايا استعماريين"، لا تنفصل حيواتهم عن تاريخَي بريطانيا والولايات المتّحدة في المنطقة، خاصّة جهود الأخيرة لتأمين وصول شركات النفط الأميركيّة إلى النفط العراقي، ولردع العراق من اعتناق الشيوعيّة خلال الحرب الباردة، ولتأييد أنظمة قادرة على ضمان ما تعتبره الولايات المتحدة استقرارًا إقليميًّا.
كما أنّ هذه المسارات الاستعماريّة أضحت أرضًا خصبة لخلق، واستحضار، وإعادة صياغة الفروق السياسيّة، والجندريّة، والدينيّة، والطبقيّة في الشتات.
يركّز هذا الكتاب على كيفيّة تشكّل الذاتيّة السياسيّة العراقيّة في الشتات، على يد الحكم الاستعماري البريطاني، والتدخّل الإمبريالي الأميركي، واستخراج الموارد، وموجات النفي، والصراعات المحليّة والدوليّة، وبُنى قوّة أخرى (structures of power). كما أن الكتاب يستكشف كيف تعامل العراقيون مع هذه الأحداث بطرق ثقافيّة خاصة. بالإضافة إلى ذلك، فهو يدرس تأثير الاحتلال الأميركي على تجارب الشتات التّي شهدها مجتمع الجاليّة العراقيّة في لندن، وكيف ساهمت هذه التجربة بانفتاح ذلك المجتمع على روابط عابرة للأوطان، بالإضافة إلى الإمكانات التي ضيّعتها.
إنّ قصّة نفي العراقيين وتجريدهم من ملكياتهم متشابكة على نحو وثيق بسلسلة من الاستعمارات. عبر دعمها للأنظمة الاستبداديّة في العراق منذ العام 1960، وتأجيج الحروب المستمرّة على امتداد العقود الأربعة المنصرمة، حفرت الولايات المتحدّة وجودها في حياة كل العراقيين. وقد أدّى هذا العنف الإمبريالي إلى نفي آلاف العراقيين وإلى نشوء مجتمعات شتات في الخارج.
إن تأثير التدخلات الأميركيّة في العراق لم ينحصر داخل حدود العراق فحسب، ولكنّه طال عراقيي الشتات. فقد أطال في مدة نفيهم، ومنعهم من الاستمتاع بعراق آمن حين زاروه بعد سنة 2003، وسبب لهم القلق الشديد على مصائر أقاربهم وأصدقائهم، ومن احتمالية تفتت البلاد.
بمعنى آخر، عاش العراقيون في ماضٍ وحاضر إمبريالي. وقد وصف الباحثون "الإمبراطورية" على أنها "طريقة عيش" تمتدّ على طول خارطة مصالح السياسة الخارجيّة الأميركيّة، ومحفورة في صلب مؤسساتها وممارساتها. وذلك ينطبق أيضًا على العراقيين، الذين عاشوا وخبروا الإمبراطوريّة لعقود.
ج: لماذا اخترتِ استخدام "الإمبراطوريّة" كإطار نظري لهذا الكتاب؟
(ز.ص.): يلقي هذا الكتاب الضوء على كيفية تشكّل مسارات العراقيين وتجاربهم في المنفى على يد الاستعمار البريطاني والأميركي. في حين حظي الحكم الاستعماري البريطاني للعراق باهتمام أكاديمي واسع، إلّا أنّ الدور الذي أدّته الولايات المتّحدة في البلاد منذ مطلع الستينيات، بقي محصورًا ضمن دراسات تتناول غزو عام 2003 فقط. لذلك، يهدف هذا الكتاب إلى أن يعيد كتابة العراقيين داخل التاريخ الإمبريالي للولايات المتّحدة على وجه الخصوص. لأن تاريخي العراق والولايات المتّحدة شديدا الترابط. وأنا أستخدم مفهوم "المواجهة الاستعمارية" (imperial encounter) لتسليط الضوء على التشابك بين الولايات المتّحدة والعراق، بصفتهما بلدين يُعدّان من عالمين مختلفين. ومفهوم المواجهة هذا ينزع المركزية عن الدولة ويعزّز الروابط العالمية. فالاكتفاء بالتركيز على الدولة القُطرية لفهم تاريخ العنف والتهجير يُخفي دور القوى الاستعماريّة الغربيّة في صياغة وتشكيل تاريخ وشؤون دول العالم الثالث.
والمواجهة كإطار نظري تثبت أن العراق والولايات المتّحدة لم تعودا وحدتين منفصلتين، بل هما مترابطتان في علاقة قوّة غير متساوية، أعادت تشكيل حياة العراقيين.
وقد نصح الباحثون بعدم تناول الولايات المتّحدة على أنها وحدة ملتزمة داخل حدودها البريّة. وعوضًا عن ذلك، علينا النظر في العلاقة بين الإمبرياليّة الأميركيّة وبين دول أخرى، والجهود الأميركيّة لإنتاج رعايا خارج حدودها الوطنيّة عبر سياسات نيوليبراليّة.
وجدت أن مفهوم آن ستولر عن "عمليّة التفكيك" مفيد جدًّا عند التفكير بالإمبراطوريّة الأميركيّة، والروابط بين التكوينات الإمبرياليّة المختلفة. وفيما يتعلّق بالتّدخلات الإمبرياليّة الأميركيّة في العالم، فإن العراق ليس حالة استثنائيّة. لقد بدأ الباحثون بتأريخ النقاش حول الإميرياليّة الأميركيّة، وبضمّ احتلال كل من العراق وأفغانستان إلى الإرث الاستعماري للولايات المتّحدة.
هكذا، يمكن النظر إلى الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول على أنّها جزء لا يتجزأ من تاريخ طويل من التوسّع والهيمنة العالميّة الأميركية. تعدّ الحروب والاحتلال العسكري لبنتي أساس للولايات المتّحدة، إذ كان لعنف الإبادة الجماعيّة دور مركزيّ في تأسيسها كدولة استعماريّة-استيطانيّة، إلى جانب نفوذها السياسي والاقتصادي. وبما أنّها دولة حرب مستمرّة، فإن الولايات المتّحدة تمثل سلسلة متواصلة تاريخيّة من الغزوات، والتطهير العرقي في سبيل توسيع حدودها، والسيطرة على الأراضي في الخارج. هذه المقاربة لإطار الإمبراطوريّة تشدّد على الروابط بين الاستعمار الاستيطاني، والعنصريّة، والهيمنة الاقتصاديّة، والتدخلات السياسيّة. من هنا، يمكن النظر إلى تدخل الولايات المتّحدة الممتدّ لعقود في العراق على أنه جزء من سلسلة متواصلة من الأشكال الاستعماريّة المختلفة في أنحاء العالم. ولم يعد ممكنًا النظر إلى الإمبراطوريّة الأميركيّة كحالة فرديّة، أو على أنها من مخلّفات الماضي. بالأحرى، فهي استمرّت على مرّ القرون، وضمّت شعوبًا مختلفة إلى فلكها، كما خلّفت وراءها حيوات مدمّرة.
ج: من الفئة التي تتمنّين أن تقرأ هذا الكتاب، وما نوع الأثر الذي ترغبين أن يتركه؟
(ز.ص.): آمل أن يصل هذا الكتاب إلى القرّاء الأكاديميين والعاديين، لا سيّما أولئك المهتمين بأشكال الإمبرياليّة الأميركيّة حول العالم، وبالتهجير والذاتيّة. بالنّسبة لي، فإن قصّة الشتات العراقي هي جزء من سرديّة أوسع حول الإمبراطوريّة والمنفى، والتي لا تقتصر على العراق أو على الشرق الأوسط وحسب.
ج: ما هي مشاريعك الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟
(ز.ص.): حاليًّا، أعمل على كتاب يحمل عنوان "ذكريات مقتلعة: المواطنة، ونزع الجنسيّة، والترحيل في العراق". ويهدف مشروع هذا الكتاب إلى دراسة قوانين الجنسيّة والممارسات القانونيّة التي سنتها الحكومات العراقيّة المختلفة والتي أدّت إلى نزع جنسيّة وإبعاد اليهود العراقيين، والشيوعيين، ومن يسمّون بالعراقيين ذوي الأصول الإيرانيّة، وذلك على امتداد القرنين العشرين والحادي والعشرين، بالإضافة إلى الآليات التي ابتكرها العراقيون لتحدي تعريفات الدولة لمفهوم الجنسيّة ولتأكيد انتمائهم إلى وطنهم.
منذ تأسيسها عام 1921، كانت الدولة العراقيّة، إن كان نظامها ملكيًّا أو جمهوريًّا أو عسكريًّا، مسؤولة عن تهجير وإبعاد شرائح مختلفة من الشعب العراقي. وكانت هذه الهجرات القسريّة من العراق مرتبطة بصورة وثيقة بمشاريع صناعة الدولة وجهود تحقيق السيادة، وتسهيل حكم بلد متنوّع المنابت، والسيطرة على مجموعات بعينها تُعد تهديدًا، وتهذيبها، بالإضافة إلى إسكات الحركات السياسيّة المعارضة. وبناء على أبحاث أرشيفيّة وعِرقية، يُظهر هذا المشروع كيف أدى هذا التاريخ الطويل من الاضطهاد والملاحقة والهجرة إلى بروز جاليات عراقيّة في الشتات، وإلى نقاشات حامية حول الانتماء، مستمرّة حتّى اليوم. كما أن مشروع هذا الكتاب يسلّط الضوء على أنواع المواطَنَة التي برزت خارج إطار اعتراف الدولة، إذ تلجأ مجموعات مختلفة إلى التحرك السياسي وإلى تأسيس شبكات اجتماعية في سبيل تأكيد الانتماء للعراق.
مختارات من الكتاب (من المقدّمة: الإمبراطوريّة والذاتية)
كما يتشابك التاريخ العراقي مع أحداث وطنيّة وأخرى إمبرياليّة، كانت جهود تشكيل ذاتيّة عراقيّة، لدى الذين حاورتهم في لندن، عبارة عن عملية مشروطة تاريخيًّا، شملت قوى استعماريّة وإمبرياليّة مختلفة، ومؤسسات وطنيّة تأديبيّة، وظروفًا وتجارب شخصيّة. هناك مجموعات من العوامل الاجتماعيّة والسياسيّة المختلفة - من ضمنها الدولة والأسرة والمجتمع، والوقائع الإمبريالية والاستعماريّة، ومنطق السوق - تكوّن ذات الفرد عن طريق السيطرة الاجتماعية. بيد أنّ الحوكمة ليست الطريقة الوحيدة لإنتاج الذات. فالإقامة في فضاءات سياسيّة واجتماعيّة مختلفة، تتقاطع أيضًا مع الطبقة والجندر، تعطي الذوات فرصة لتأمّل ظروفهم وتكوين ذات مبنية على تجاربهم. فتمامًا كما تحوّل الأوضاع الطارئة تاريخيًّا الأفراد إلى ذوات، فإن الناس أنفسهم قادرون على نحت إحساس بالذات عبر سردياتهم ومساعيهم لفهم مواقعهم في الحاضر والمستقبل المتخيّل.
وقدّ أدّت العلاقات الاستعماريّة والإمبرياليّة دورًا رئيسيًّا في تحديد إحساس العراقيين بذواتهم، إن كان في الماضي أو في الحاضر. بالنسبة للعراقيين الأكبر سنًّا، الذين بلغوا سنّ الرشد خلال الحكم الاستعماري البريطاني للعراق، كان الحلّ لإنهاء الواقع الاستعماريّ والتخلّص من الحكومة الإقطاعيّة التابعة للبريطانيين هو عن طريق النضال ضد الاستعمار. عبر تنظيم أنفسهم في صفوف الحزب الشيوعي السرّي، والمشاركة في احتجاجات معادية للاتفاقات التي فرضها المسؤولون البريطانيون على العراق، وأخرى مناهضة للامساواة الاجتماعيّة، إذ اعتبر الشبّان العراقيون آنذاك أنهم ثوريون انخرطوا في صراع لإحلال تحولات جذريّة في العراق من الممكن أن تشكّل انقطاعًا تامًّا مع الوضع القائم. على هذا الأساس، فقد صاغ الوجود البريطاني في العراق وعي الفرد على أنه ذات ثورية تعيش لحظة تاريخيّة اجتاحت دول العالم الثالث بروح معادية للاستعمار.
وعلى عكس مصر والهند، لم يهدف البريطانيون في العراق إلى إنتاج رعايا عراقيين عن طريق التحكّم في جسد الفرد أو عبر تقنيات السيطرة الاجتماعيّة. عوضًا عن ذلك، لجأوا إلى القصف الجويّ، والسخرة، والعقوبات الجسديّة كسبل للسيطرة على الشعب وتأديبه.
كما أنّهم انخرطوا في نقاشات حادّة مع المسؤولين والتربويين العراقيين حول تعديل النظام التربوي، وقانوني الأسرة والجنسيّة. رأى البريطانيون التطّور على أنه القدرة على الوصول إلى الموارد الطبيعيّة العراقيّة، لا سيّما النفط، وعلى تطوير البلاد بحسب الشعائر المحليّة. وكان المسؤولون البريطانيون في العراق يعارضون توسيع نظام التعليم الرسمي، خوفًا من أن يُنتج التعليم الإضافي رعايا منخرطين في الاضطرابات السياسية ويرفضون القيام بأي عمل يدوي.
في المقابل، رأى الوطنيون العراقيون في المدرسة وفي الأسرة ميادينًا للإصلاح الاجتماعي والتطوّر الاقتصادي، الهادف إلى إنتاج مواطنين عراقيين جدد يستحقّون السيادة. وعلى وجه الخصوص، رأوا أنّ تعليم النساء الشابات سوف ينتج أمّهات عصريات قادرات على تربيّة مواطنين أصحّاء. الأسر والمدارس لم تتحوّل إلى مواقع لإنتاج رعايا طيّعين وقابلين للحكم، كما أمل البريطانيون. وإنما كانت بمثابة مراكز للعمل والخيال الثوري. يتحدّث العراقيون المسنّون عن أهل وأشقّاء تقدميين وقوميين قاموا بعمر مبكر بتوعيتهم وجعلهم يدركون وجود اللامساواة الاجتماعيّة في المجتمع العراقي، والصراع العالمي ضد الاستعمار. وحين وصلوا إلى المرحلة الثانويّة من التعليم، زاد تعرّضهم للتيارات الشيوعية والقوميّة التي تنادي بالحريّة السياسيّة، وتحرّر المرأة، والعدالة الاجتماعيّة، وقد غذّت كلّها نشاطهم السياسي والاجتماعي.
وبالإضافة إلى العلاقات الاستعماريّة، أدت كل من الطبقية، والجندر، والحساسيات الدينيّة، دورًا في صياغة كيف ينظر من حاورتهم إلى أنفسهم وكيف ينظرون إلى العراقيين الآخرين. وحين يستذكر العراقيون المسنّون "الأيام الخوالي الجميلة"؛ أيام الفعالية السياسية والنهضة الثقافية، فإنهم عادة ما يقصدون تجارب الطبقة الوسطى البغداديّة التي كانت أسرها قادرة على تحمّل تكاليف إرسال أبنائها وبناتها إلى المدرسة والجامعة، وكانت لديها القدرة على المشاركة في الساحة الفكريّة والفنيّة في العاصمة. إلا أن ذاكرة الماضي النابض بالحياة، همّشت تجارب غالبية العراقيين الذين كانوا يعيشون في فقر مدقع في العهد الملكي. وحين تمثّل الفقراء في تلك السرديات، قُدموا على أنّهم أشخاص يحتاجون للتدخّل الاجتماعي، عبر التعليم والعناية الصحيّة، يجب تحويلهم إلى مواطنين بصحة جيّدة، قادرين على التخلّي عن عاداتهم المتخلّفة والمساهمة في تطوير البلاد. بذلك، كان المشروع الثوري الهادف إلى إنتاج مواطنين فاعلين عصريين يكرّسون أنفسهم لتحرر الوطن والتقدّم، هو أيضًا انضباطيًّا تأديبيًّا في توقعاته من الفقراء.
وكانت تلك الأفكار عن الذات متجذّرة في نقاشات حول الحداثة والتقاليد والدين. فالعراقيون الذين شاركوا في الصراع ضد الاستعمار وأيّدوا القيم الشيوعية، اعتبروا أنفسهم عصريين وتقدميين متخلّين عن التقاليد، مثل تبعية النساء، والممارسات الدينيّة البالية، ويتخيلون مستقبلًا طوبويًّا من السيادة والمساواة. بالإضافة إلى ذلك، فإن بناء النفس لتصير ذاتًا ثورية كان أمرًا مجندرًا إلى درجة بعيدة، بحيث أضحت مكانة المرأة هي معيار حداثة الأمة والنفس. وتحول النقاش عن حصول النساء على الحقوق القانونيّة والسياسيّة إلى مسألة محتدمة حول التحرر الوطني ودور النساء في المساهمة ببناء دولة حديثة في العراق.
فيما أضحت فكرة العراقيين عن أنفسهم كثوريين هي الخطاب السائد في ظل توسّع الشتات، بدأت تواجه تحديات من خطاب آخر عن الذات، وهو بروز الذات العراقية المسلمة التقية. مع تصاعد التديّن في الشتات منذ التسعينيات، بدأ بعض الشبّان العراقيين في لندن يعتبرون أنفسهم مسلمين متدينين معاصرين، وفكرتهم عن ذواتهم هي مزيج من أفكار دينية ووطنية ومعاصرة. وعوضًا عن كونه مركزًا للأفكار الثوريّة، يبرز العراق كأرض مقدّسة وتاريخ ديني شيعي يعود إلى القرن السابع عشر. إلّا أنّ خطاب الذات هذا شكّل انقطاعًا عن الممارسات الدينيّة في الماضي. بات الشبان العراقيون المتدينون يرون أنفسهم مختلفين عن أهاليهم، الذين مارسوا الدين من باب العادة عوضًا عن فهم حقيقي مبني على قراءة النصوص الدينيّة. ورأوا أن هذا النوع من التديّن هو حديث في مظهره كونه يهدف إلى الابتعاد عن المقاربة التقليديّة التي كانت تتطلّب التبعية العمياء للمجتهدين الدينيين. هذه الذات الحديثة، الورعة، كانت متّحدة مع إحساس قويّ بالتعلّق بالعراق كدولة لأن الأسر قد غرست مشاعر قوميّة بين الشباب عبر الاستذكار المتكرّر للعراق كموقع ازدهار وحيويّة اجتماعيّة. وفي حين كان ذلك الخطاب طبقيًّا في توقه إلى "العصر الذهبي للعراق"، إلّا أنّه كان جندريًّا أيضًا، إذ برزت نساء تاريخيات متدينات كشخصيات يحتذى بها في مواجهة حياة يطبعها المنفى والشتات. وأضحت النساء المتدينات اللواتي كان لهن دور أساسي في الأحداث التاريخية في الماضي، وكان لهن علم واسع في الدين - خاصة ابنة النبي محمد وحفيدته - نماذج تحتذى بالنسبة للشابات المتدينات اللواتي لم يستطعن إيجاد صلة مع النساء الشيوعيات بسبب سلوكهن السلبي إزاء الدين.
جاء تخيّل الذات على أنها كيان ثوري أو ذات مسلمة ورعة في ظل توسّع الشتات والمنفى، بالإضافة إلى تفتيت العراق على يد الاحتلال الأميركي على امتداد عقود. وأثارت ظروف الحرمان المزمن التي عاشها العراقيون في العراق وفي الشتات، أسئلة حول ما هو ممكن سياسيًّا وما هو الأكثر أهميّة في عملية صناعة الذات وتفكيكها.
بعد عقود من المنفى والمشاهدة، من بعيد، للحروب والعنف تستعر في وطنهم، عاش العراقيون في لندن صراعًا حول ما يعنيه أن تكون عراقيًّا. ولم يعد رد فعل العراقيين على الوضع القائم ينحصر بصراع معاد للاستعمار ضد الولايات المتّحدة. إذ أدى فشل المشروع الذي تلا الاستعمار في تحقيق الحريّة والازدهار، وعجزه عن تصوّر مستقبلات بديلة بعد عقود من الاستبداد والحرب، إلى دفع عراقيي لندن القدماء إلى النظر نحو العراقيين الذين وصلوا هناك بعد سنة 2003 عبر سرديّة صمود وقدرة على الاحتمال. لم تعد الذات العراقية بعد 2003 ثورية تحلم بانقطاع جذريّ عن واقع الاستعمار واللامساواة من خلال النضال ضد الاستعمار، كما لم تكن هذه الذات المسلمة التقية التي تؤمن بأن مشروعًا دينيًّا ممكن أن يكون الحلّ للوضع في العراق. عوضًا عن ذلك، أنتجت الإمبرياليّة الأميركيّة عراقيين عبارة عن رعايا عانوا وصمدوا في ظروف الحرمان. بالنسبة للعراقيين الذين وصلوا إلى لندن في أواخر السبعينيات وبداية التسعينيات، كان العراقيون الذين ظلوا في العراق على امتداد حكم صدام حسين، والذين هُجّروا بعد الاحتلال الأميركي، الذين صمدوا وعانوا على امتداد عقود من الحروب والعقوبات، هم العراقيون الأصليون. كانت القدرة على التحمّل والاستمرار ضمن ظروف محفوفة بالمخاطر؛ من العنف الإمبريالي والوطني، والحرمان الاقتصادي، والريبة القانونيّة، هي التي أوجدت حساسيّة جديدة لما يعنيه أن يكون المرء عراقيًّا. وأضحى تقديم جردة حساب عن الذات آليّة للبقاء على قيد الحياة تهدف إلى محاربة سياسات المحو.
وفي حين كان المشروع الإمبريالي الأميركي متجذرًا في نكران إنسانيّة العراقيين، وجد العراقيون سبلًا أخرى لبناء تشكيل أنفسهم كذوات من أجل الاستمرار في العيش وإعطاء حيواتهم معنى.
خلال مدّة عملي الميداني في لندن (2006-2019)، صُعقت بجهود العراقيين لرسم ذوات سياسيّة ولتوفير رواية بديلة للأحداث في العراق. وجرت هذه النقاشات على خلفيّة الرغبة في إظهار أن العراقيين هم وطنيون حقيقيون يشعرون بتعلّق قوي بالعراق، وأن صعود المكانة البارزة للانتماءات الطائفيّة بعد سنة 2003 شكّلت تحوّلًا في المشهد السياسي في العراق وفي أشكال صياغة الذات.
تخاطب هذه هذه السرديات واقع أن بناء الذات يتم على يد الحكم الاستعماري، والتدخلات الإمبرياليّة، والنضال ضد الاستعمار، وممارسات العائلات والدولة، والحساسيات الجندرية والطبقية والدينية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن جهود بناء ذات عراقية حصلت في ظروف التواجد في شتات فرضته التدخلات الأميركيّة في العراق منذ أواخر الخمسينيات حتى اليوم.
[نشر الحوار في «جدلية» بالانكليزية. ترجمة هنادي سلمان]