مصر. عن اللجوء إلى العنف خلال ثورة يناير

[القاهرة 29 يناير/كانون الثاني 2011. مظاهرة أمام وزارة الداخلية، حيث تدخلت قوات الأمن لتطلق الرصاص الحي على المتظاهرين الذين احتموا وراء دبابات الجيش.] [القاهرة 29 يناير/كانون الثاني 2011. مظاهرة أمام وزارة الداخلية، حيث تدخلت قوات الأمن لتطلق الرصاص الحي على المتظاهرين الذين احتموا وراء دبابات الجيش.]

مصر. عن اللجوء إلى العنف خلال ثورة يناير

By : Arabic Editors

علي الرجال

هل كانت الثورة المصرية غير عنيفة بما يكفي للإطاحة ببنية النظام الحاكم والنظام الاجتماعي برمته؟ هل كان الحدث محضَ عفوي؟ أسئلة يحاول الباحث المصري علي الرجال الإجابة عنها.

هل كانت الثورة المصرية غير عنيفة بما يكفي للإطاحة ببنية النظام الحاكم والنظام الاجتماعي برمته؟ يمكن البحث عن محاولة الإجابة على هذا الأمر في مساحتين: الأولى تخص الميداني، وما حدث؟ ولماذا؟ وما كان مطلوب من العنف؟ والثانية هي الأفق السياسي والاجتماعي للصراع بشكل واسع في مصر.

الثامن والعشرون من كانون الثاني/ يناير 2011 كان يوماً عنيفاً بدرجة ما، وسلمياً بدرجة أخرى. فأقسام الشرطة في أغلب المدن الكبيرة في الجمهورية حُرِقت، وحرقت مقرات الحزب الوطني، وكذلك بعض مقرات المحافظات، وهُزِمت قوات الأمن المركزي، وقُتِل عدد من الضباط وأفراد الأمن، وتمت مطاردة البعض الآخر منهم. المقتولون من الثوار كانت أعدادهم كبيرة، ولكنها ليست ضخمة إذا ما قورنت بعدد السكان في مصر، وحجم الاشتباك الكبير والواسع الذي وقع في ذلك اليوم. وهذا ليس تقليلاً من شهداء الثورة، ولكنه وضعٌ لما وقع في حجمه. ربما نستثني من ذلك مدناً مثل السويس والشيخ زويد في سيناء، حيث اشتعلت المعارك العنيفة منذ ليل 25 كانون الثاني/ يناير 2011، وحتى ظهيرة 28 منه.

جغرافيا المدن

كان العنف في العديد من الحالات نتاج عدة تفاعلات، منها تصعيد العنف من قبل قوات الأمن، ووجود ثارات قديمة بين الأهالي وأقسام شرطية بعينها، وطبيعة وغلظة بعض ضباط الشرطة في بعض المواقع مما أدى إلى تصعيد وتيرة العنف، والوضع الجغرافي والمعماري لبعض الأقسام والمديريات مقارنةً بأخرى، فبعض الأقسام نجحت في الصمود أمام الغضب الجماهيري بفضل مواقعها الجغرافية وطبيعة تصميمها، وقرارات بعض الأهالي في مناطقهم، كغضّهم الطرف أو مشاركتهم المباشرة في العنف ضد الأقسام. فمثلاً لم يُحرق “قسم عابدين” بسبب تجنّبه الإفراط في العنف المباشر يوم 28 من كانون الثاني/يناير، ولعدم وجود ثأر دفين وممتد بينه وبين الأهالي، كحال نظيره في السيدة زينب وهو الأقرب له جغرافياً، كذلك بسبب وجوده بالقرب من قصر عابدين نفسه وبعض المؤسسات العسكرية، والأهم هو عدم هجوم أهالي الحي عليه.

كذلك الحال مع وزارة الداخلية نفسها، ففي يومي 28 و29 من ذلك الشهر، تعرضت الوزارة لموجات من الهجوم، ولكنها لم تكن بالإصرار الكافي من ناحية، ومن ناحية أخرى ظل الهجوم قائماً من جهة واحدة، وهي خط “الشيخ ريحان” من ناحية ميدان التحرير، وظلت كل جوانب الوزارة المرتبطة بعمق بالمنطقة السكنية لعابدين بعيدةً عن أي اشتباكات أو تطوير للهجوم، بسبب الأهالي أنفسهم. وينطبق الأمر نفسه على مديرية الأمن الجديدة بسموحة في الإسكندرية، حيث أتاح المعمار والوضع الجغرافي قوةً دفاعية كبيرة لأفراد الشرطة للتصدي لموجات الهجوم المختلفة، القادمة من ميدان “فيكتور عمانويل”، حيث ظل الهجوم هو الآخر على جهة واحدة. ومن الناحية الخلفية للمديرية، حيث التجمعات السكنية الكبيرة، لم يحدث أي هجوم، بسبب التركيبة الاجتماعية والطبقية لسكانها، والذين ينتمي أغلبهم لمهن القضاء والشرطة.

على العكس من ذلك، فمديرية الأمن القديمة بالإسكندرية، وعلى الرغم من الإفراط في العنف الذي استخدمته، والدفاع عنها حتى آخر لحظة، سقطت يوم 29 كانون الثاني/يناير، بعد يومين من الاشتباكات العنيفة. ولكن الأمر كان محسوماً بسبب وجودها في بيئة معادية لها، وبسبب معمارها وتموضعها الجغرافي الذي لم يعط لها أي أفضلية دفاعية. يجب كذلك الأخذ في الاعتبار انقلابَ بعض البلطجية التابعين لهذه الأقسام بعد اشتداد موجات الهجوم عليهم وعلى الضباط وقوات الأمن، وبسبب التشابك الاجتماعي بين كونهم بلطجية محترفين، وكونهم جزءاً من النسيج الاجتماعي لبعض القطاعات الاجتماعية التي شنت هذا الهجوم. هذا الانقلابُ، وقد كان متكرراً في أغلب الحالات، أربك دفاعات هذه الأقسام، وسهّل مهمة اقتحامها وحرقها.

أما معركة الجمل فانتهت بشكل ما في الميدان، وكانت هناك بعض المعارك في عدة محافظات، تشابهت معها في المحتوى والهدف، ولكن دون جِمال. وكانت تبعات موقعة الجمل بعضَ التنكيل الاجتماعي، والمقاطعة لأهالي “نزلة السمان” بالهرم، وانتهى الأمر إلى أروقة المحاكم. وبالطبع لم يحاكم أحدٌ عن هذه الموقعة، كما لم يحاكم أحدٌ على قتل الثوار.

ثقافة سياسية سلمية

أما السلمية بشكل عام والتي رسمت ملامح هذه الثورة كشعار وممارسة، فتعود أصولها لعدة عوامل: السياسيين والحركات الشبابية والثورية المختلفة، والتي كانت قد كونت رأياً صارماً بما يتعلق بانتهاج العنف، بسبب التجربة المريرة التي خاضتها البلاد في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت، مع “الحرب على الإرهاب”، والتي عطلت إمكانيات التغيير السياسي والاجتماعي. كذلك تشكلت قناعة بعدم نجاعة العنف المسلح، وبأن هذه الاستراتيجية لو اتبعت، فهي تقوّي قدرات النظام على القمع والقتل، وتمنحه الأفضلية الميدانية والأخلاقية. كذلك، فسنوات تصاعد الصراع السياسي ضد مبارك والتوريث منذ 2005، وتحديداً بحلول 2009 و2010، ارتبطت بأدبيات التغيير اللاعنيف والتحول السلمي، والتحول الديمقراطي، وكسب تعاطف قوات الأمن. وهو الأمر الذي حجب ميلاد أيديولوجيا أو تصور ما عن ضرورة ارتباط التغيير بعمليات عنف واسعة.

ولكن هذا الأمر وحده غير كافٍ لفهم البعد النسبي لسلمية الثورة المصرية. فالصراع الاجتماعي نفسه لم يتصاعد لمستوًى معين من الحدة يستدعي معه مستويات أكبر من العنف. وهزيمة الداخلية السريعة، وعدم قدرة – ورغبة - الجيش في الانخراط في العنف ضد الثوار، لم يخلق أي دواعٍ، أو شروط لاستمرار العنف. فالعنف، مهما بلغ من عفوية ولحظية وعشوائية، لديه أفقٌ وحدود وشروط وأسباب ومنطق ما. فلم يحدث هجوم في ذلك الوقت على المؤسسات العسكرية، كذلك لم تصعّد “الداخلية” بشكل شخصي أو مؤسسي بعد هزيمتها، ضد بعض الثائرين على المستوى الاجتماعي، ولم يستهدف الثوار بأي حال من الأحوال أهالي الشرطة أو مقرات معيشتهم.

هيمنة المنظمات الحقوقية

ولكن وبعيداً عن الرصد الميداني وتفاصيله المختلفة، فقد حقق العنف في الموجة الأولى للثورة كلَّ المطلوب منه بالفعل. حطم الذراع الأهم لمبارك، ودمر جانباً كبيراً من البنية التحتية للقمع. العنف هنا كان أيضاً مرتبطاً شرطاً بجملة من العلاقات الاجتماعية - الاقتصادية وطبيعتها القائمة على الإذلال، مثل التكدير والقهر اليومي الذي ارتبط بنمط الاقتصاد غير الرسمي، الاستعلاءِ والقهر اللذين مارستهما “الداخلية” بفضل شعورها بالسيادة والتفوق على الجميع، التعذيب اليومي في أقسام الشرطة، الحملات الأمنية التي تهدف لفرض نمط متخيَّل من الهيبة والانضباط، والتي كانت مصحوبةً بقدر كبير من الاستعراض، والأداء المسرحي لأفراد “الداخلية”، قهر وقمع الإضرابات العمالية، استخدام “الداخلية” كقوات احتلال، وطرد الأهالي من مناطقهم السكنية، ضرب أي تجمع أو تظاهر ضد نظام مبارك السياسي، وغلق المجال العام. وبالتالي، كانت هناك رؤيةٌ واضحة بأن نظام مبارك مرتكزٌ بشكل كبير على قوات “الداخلية”، ومعتمدٌ على سياسات المنع. وقد حطمت الثورة هذا الأمر.

هل كانت الثورة المصرية غير عنيفة بما يكفي للإطاحة ببنية النظام الحاكم والنظام الاجتماعي برمته؟ هل كان الحدث محضَ عفوي؟ أسئلة يحاول الباحث المصري علي الرجال الإجابة عنها.

ولكن لم تكن هناك رؤيةٌ أو أفق ما لاقتلاع وتفكيك الدولة البوليسية كماكينة حوكمة، ولهذا أخذ الصراع لاحقاً طابعاً حقوقياً وقضائياً. وارتبطت أغلب مشاريع إعادة هيكلة “الداخلية” بأمرين: إلزام المؤسسة بحقوق الإنسان، ووضعها تحت المراقبة القانونية، والالتزام بالقانون بشكل دائم. وهذا لا يمس ترتيبات الحكم، ولا الترتيبات الاجتماعية والأمنية والجغرافية المرتبطة به، وبالتالي فقد انحصر أيضاً ردُّ فعل “الداخلية” نفسها في خيارين: التوقف عن العمل، أو العودة لترتيبات الحكم القديمة.

هذا له جذور، ومحددات بنيوية سابقة على الحدث الثوري الكبير. فمنذ السبعينيات الفائتة، شهدت مصر تصاعداً كبيراً لدور المحامين اليساريين في النضال القانوني والدستوري، وأصبحت لهم صولاتٌ وجولات وتراكم خبرات، ورأس مال رمزي كبير في هذا النطاق. الأمرُ الذي جعل هناك تزاوجاً بين النضال السياسي والقانوني في مصر. ومنذ الألفية الجديدة، اكتسب العاملون في مؤسسات حقوق الإنسان خبرات نضالية وتراكمية كبيرة، معرفة معقولة جداً بالقانون الدولي، وكيفية إطلاق الحملات، والتشبيك على نطاق إقليمي ودولي. هل كان ثمة شيء آخر كبير في هذا النطاق؟ الحقيقة لا. ولذلك فالحدث الثوري على جلله واتساع نطاقه وأهميته لم يجد أفقاً أبعد من ذلك.

وبالعودة إلى المجال السياسي الذي تشكل منذ 2005، والذي قادت أغلبَ نخبه أبعادٌ كثيرة من الحراك الثوري، ثم انضمام محمد البرادعي وحملته بشقيها الرسمي والشعبي إلى الحقل السياسي المعارض في 2010، لم يكن هناك شيءٌ كبير في هذه المساحة: كلامٌ واسع أو محدد عن ضرورة احترام حقوق الإنسان، والتزام الداخلية به، وبالقانون، والدستور المصري، وإقالة “حبيب العدلي” وزير داخلية مبارك. وبالفعل تحققت إزاحة العدلي، ثم توقفت الداخلية عن العمل لمدة ما، وظلت تشتبك مع المظاهرات بعنف من حين لآخر.

تصدعات نظام مبارك

على المستوى الاجتماعي، أخذت الثورة قوى النظام على حين غرة. فالحدث كان سريعاً ومربكاً ومباغتاً. ومع السقوط السريع لـ “الداخلية”، كان من الصعب على قوًى اجتماعية سلطوية الدخولُ في مخاطرة قيام حرب أهلية - محدودة أو واسعة النطاق - لتعويض الدور القمعي بالنيابة عن الداخلية. ولكن ثمة سؤالاً آخر، هل كان هناك وجودٌ لقوة اجتماعية ما قادرة على لعب هذا الدور بالنيابة عن النظام السياسي؟ الإجابة على هذا تكمن في تصدع تحالفات النظام السياسي، وقواه الاجتماعية والمؤسسيّة. فدخول نخبة جمال مبارك الجديدة خلق تصدعاً واسعاً في التحالف الاجتماعي للحزب الوطني الحاكم، وانتهى به المطاف إلى انفجار هذا الصراع، وتصادم عناصره بشدة وبعنف كبير في انتخابات مجلس الشعب في 2010. الحدث الفريد هو أن أغلب العنف الانتخابي والسياسي في ذلك الوقت كان بين أعضاء “الحزب الوطني” نفسه. وتركيبة هذا الحزب، واعتماد مبارك عليه، وإيغاله في الحكم من خلال الشبكات الزبائنية أفقده قدراته المؤسسية كتنظيم اجتماعي وأيديولوجي قادر على خوض معاركَ من هذا النوع.

أما الجيش، فقد انخرط في صراع حاد مع نخبة جمال مبارك، وترسخ لديه شعور بالتهميش في أروقة الحكم، بالأخص في عقد مبارك الأخير، وتفوق “الداخلية” عليه في القرب من النظام السياسي وترتيبات الحكم، وعلو كعبها عليه اجتماعياً. والسبب الآخر، هو احتمالية تفكك قواته في حالة الإصرار على قمع ثورة شعبية واسعة، وقد كان واضحاً تعاطف قطاع كبير من القوات مع الحدث في بدايته، وبالأخص بحكم التركيبة العامة للجيش، المعتمدة على مجندين من الطبقة الوسطى، والقطاعات المتعلمة من الشرائح الفقيرة، وهي الشرائح التي قادت الحراك الثوري وتقدمت الصفوف.

وأخيراً، فالمباغتة وعنصر الوقت، لم يتيحا للجيش الفرصة لحشد وتعبئة موارده النفسية والأيديولوجية، وتجييش شؤونه المعنوية لإقناع أفراده بإخماد ثورة شعبية. ولا يمكن لقوات محددة من النخبة، بحكم العدد، أن تخمد ثورة شعبية، فهذا أمر لم يحدث في أي مكان من العالم... كل هذه العناصر تضافرت مع بعضها البعض، وأتاحت للثوار حرية الحركة، والمناورة على المستوى الميداني. بمعنى أنه حتى في حالة ضيق بعض القطاعات الاجتماعية - وكلنا رأينا ذلك سريعاً أثناء الثمانية عشر يوماً - كان الثوار على علم بأنهم لن يتعرضوا لهجوم اجتماعي واسع يهدف لسحقهم عسكرياً في الشوارع والميادين. كذلك كانوا مطمئنين أنهم لن تتم مهاجمتهم عند العودة لمناطقهم السكنية ليلاً. فالمناورات ظلت على المستوى الخطابي، وتجسدت تحديداً في خطابات من نوعية “الأمن” و“الاستقرار” و“احترام السلطة الأبوية”، و“الصبر على النظام”، وهكذا. حتى خطاب “هيبة الدولة”، و“حتى لا نصبح مثل سوريا والعراق” فقد جاء متأخراً جداً. لكن طبيعة العلاقات الاجتماعية - الاقتصادية، وتناقضات مؤسسات الدولة، لم تسمح لمبارك بأي إمكانيات أخرى في ذلك الوقت. لم يكن لديه أحدٌ قادر على تنظيم وحشد ثورة مضادة حقيقية تتصادم مع الثورة بشكل ميداني واضح وفعال.

وأخيراً، فيجب الالتفات إلى عوامل الصراعات الإقليمية، وإمكانية التسليح وتصعيد وتيرة العنف في تلك المرحلة من عمر الثورة. أولاً، مرة أخرى، لم يمس أحد الجيش ومؤسساته وقواته في هذه الحقبة من عمر الثورة. ثانياً، لم يحدث انقسامٌ بشكل رأسي أو أفقي داخل المؤسسة. فلم يمتشق أحدٌ السلاح ضد مبارك ولا معه، وقد سرت بعض الأقاويل عن أن الحرس الجمهوري أراد القمع لصالح مبارك، وعزز من هذا الأمر أن قائد السلاح تمت إزاحته سريعاً من المجلس العسكري. ولكن، وبافتراض صحة هذه الأقاويل، فلم نشهد أي تحركات حقيقة من قوات ضدَّ أخرى. وبسبب التناقضات الداخلية بين النظام السياسي والجيش، تمكن “المجلس العسكري” سريعاً من توحيد قيادته، وضبط المؤسسة وقطاعاتها المختلفة.

تماسكُ المؤسسة العسكرية لم يسمح بأي اختراق خارجي جاد للحدود المصرية. كما أنه لم تكن لدى أحد من القوى الخارجية أو الإقليمية الرغبةُ في إسقاط نظام مبارك بالقوة، والمخاطرة بمعاداة الجيش المصري، أو تفكيك وانهيار البلاد، مثلما حدث في سوريا أو ليبيا لاحقاً. والإطاحةُ السريعة نسبياً بمبارك حجبت أي إمكانية لاحتدام الصراع بين قوًى مختلفة الرؤى حول الأحداث في مصر. وفضلت المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، التواصل مع نشطاء الثورة، والتعرف التدريجي عليهم، وعلى إمكانياتهم وحدودهم. كذلك ظلت القنوات الرسمية المباشرة مع الجيش قائمةً ومزدهرة بحكم سيطرته على مساحات السيادة وجهاز الدولة في مصر. ولم يكن من الممكن للسعودية أو الإمارات القيامُ بمغامرة عسكرية لصالح مبارك في مصر، مثل التي قامت بها السعودية في البحرين. فلا الجغرافيا تسمح، ولا الجيش يسمح، ولا السعودية تقدر.

التسوية وتحييد العنف الثوري

تضافر القوى الاجتماعية المختلفة، وتشابكها في لحظة ثورية ما، خلقت فرصةً للقطيعة مع النظام السياسي. سنجد أن العنف كان مرتبطاً شرطاً بحدود هذا التضافر. فعلى المستوى الطبقي، كان هناك خليطٌ واسع من الطبقة الوسطى والوسطى الدنيا، ومعهم قطاعٌ معتبر من الشرائح الأفقر، وانضمت بعض القطاعات العمالية من خلال سلسلة واسعة من الإضرابات قبيل تنحّي مبارك، وانضمت إليها بعض النخب والطبقات المحظوظة، أو انقسمت على نفسها. فالثورة كانت تضم في صفوفها، ولو بقدر غير كبير، أو على مستوى التعاطف، بعضاً من القضاة ووكلاء النيابة وموظفين مرموقين بالخارجية. ومن الناحية السياسية، فقد تشكلت الثورة من طيف واسع من الشبكات الشبابية، مصحوبةً بنخب متنوعة من الناصريين والإسلاميين المعتدلين في ذلك الوقت، واليساريين، تشكلوا جميعاً من خلال ثلاث محطات، وهي تحالف “كفاية” ثم “الجمعية الوطنية للتغيير” وحملة دعم البرادعي. وهذه النخب كانت في تحالف هش وحذر مع الإخوان المسلمين. أما بالنسبة للجيش، فالرهان عليه هو الآخر كان سابقاً على الثورة. فقد كانت قطاعات كثيرة من النخب السياسية المعارضة ترى في الجيش إمكانية أن يأخذ خطوة شجاعة لتحرير جهاز الدولة من سطوة مبارك وعصابته، والعودة بالدولة والمجتمع لمسار دولة التحرر الوطني، ودورها كقاطرة لتنمية المجتمع. ولهذا خرجت سريعاً شعارات مثل “الجيش حمى الثورة”. وبغض النظر عن تهافت هذا المخيال، وفهمه لمأزق الحكم وبنية الدولة في مصر، إلا أنه كان كفيلاً بدفع الحراك، وتجنب الصدام مع الجيش، والقطع مع مبارك وابنه جمال.

كل هذه التناقضات وتضافرها، لم تكن لتجعل للعنف الثوري أي إمكانية أو معنًى أو هدفا للمضي قدماً، أو أبعد من الذي وقع بالفعل. وعلى الرغم من أن العنف والسلمية قد حققا الشروط والأهداف المطلوبة منهما، يظل سؤالُ العنف الثوري محلَّ خطابات غرائبية من قبل القوى الثورية والاجتماعية المختلفة حتى يومنا هذا. فهناك من يتبرأ بسذاجة من العنف الذي وقع أمام أقسام الشرطة، مدّعياً أن هذا الحدث فعل همجي ومُجرّم قانوناً. وهناك من يرى أن عوار الثورة المصرية هو سلميتها، وعدم اللجوء إلى عنف مفرط يقتلع حصون النظام ويسحق أعداءها. وهناك من كان يرى ضرورة قيام ثورة عمالية مسلحة! والغريب أن هذه كانت تمتدح الثورة الليبية، لأنها كانت عنيفةً ومسلحة، إلا أنه لا أحد من أصحابها كان يتجاوب مع أسئلة بديهية من نوع: لماذا؟ ومن أجل أي شيء تحديداً؟ ومن سيقوم بتمويل هذه الحرب الثورية العنيفة؟ ومن أين سيأتي السلاح؟ ومع أي قوًى دولية وإقليمية ستتحالف هذه الثورة العمالية المسلحة؟! في المقابل، فأصحاب التبرؤ من أي شائبة عنف لم يتساءلوا هم الآخرين عن تكلفة التخلي عن أهم فعل اجتماعي وقع في هذه الفترة، ومخاطر شيطنة قطاع واسع من الجمهور الأفقر، وجمهور الطبقة الوسطى الدنيا، ولا حتى وقفوا ليتأملوا فكرة أن شروط حرية الحركة والقدرة على مناورة النظام كانت مرتبطةً بتحييد ذراعه القمعي الكبير، وتعطيل البنية التحتية للقمع ولو لمدة ما.

لم يكن العنفُ مطلوباً منه أكثر مما كان، ولم تُخفق الثورة بسبب ضعف وعدم استمرارية العنف، ولا كان الصراع الاجتماعي وحدوده في ذلك الوقت يحتاج، أو يتطلب عنفاً أكبر أو أقل.

[نشر هذا المقال على موقع السفير العربي. وتنشر المقالة على جدلية ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬