فرنسا: هل يتنافى الصراع الطبقي مع النضالات الهوياتية؟

فرنسا: هل يتنافى الصراع الطبقي مع النضالات الهوياتية؟

فرنسا: هل يتنافى الصراع الطبقي مع النضالات الهوياتية؟

By : Arabic Editors

رفيق شكات

يوجه عالما الاجتماع ستيفان بود وجيرار نويرايل انتقادا لاذعا إلى الأكاديميين والنشطاء الملتزمين بـ “القضية العِرقية”. ولكن من خلال تغذيتهم لمفاهيم غامضة في ظل الحملة الراهنة في فرنسا ضد ما يسمى “الإسلاموية-اليسارية”، فإن عملهم -قصير النظر- جدلي أكثر من كونه علميًا.

يوجه عالما الاجتماع ستيفان بود وجيرار نويرايل انتقادا لاذعا إلى الأكاديميين والنشطاء الملتزمين بـ “القضية العِرقية”. ولكن من خلال تغذيتهم لمفاهيم غامضة في ظل الحملة الراهنة في فرنسا ضد ما يسمى “الإسلاموية-اليسارية”، فإن عملهم -قصير النظر- جدلي أكثر من كونه علميًا.

للأسف، أصبح المشهد عاديا في فرنسا. ففي يوم الخميس 11 فبراير/شباط 2021، نشرت دار غاليمار الكتاب الجديد لجيل كيبيل بعنوان “النبي والجائحة. من الشرق الأوسط إلى جو الجهادية”، يتحامل فيه، من بين أمور أخرى، على “الإسلامويين-اليساريين”، و “الما بعد الاستعماريين” (أي أولئك الذين يقومون بالدراسات لما بعد الاستعمارية) وغيرهم من التقاطعيين (أي الذين يدرسون تقاطع أشكال التمييز). وهؤلاء وفق كيبيل “يسيطرون على الجامعة ويمنعون أي مقاربة نقدية للظاهرة الإسلامية”.

في اليوم نفسه، نظم التلفزيون العمومي الفرنسي في ساعة ذروة المشاهدة المسائية مناظرة بين وزير الداخلية جيرالد دارمانان وزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبين، التي يُتوقع أن تكون حاضرة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية المقبلة (2022). وبدون مفاجأة، أشاد المتحدثان بالقمع المعادي للإسلام الجاري حاليا في البلاد، مع الاستشهاد بمقتطفات من كتاب الوزير “الانفصالية الإسلاموية” لدعم لذلك. في اليوم الموالي عنونت جريدة “لوفيغارو” اليمينية: “كيف تنخر الإسلاموية-اليسارية الجامعات” وتحت العنوان الكبير يمكن قراءة: “يزداد التقارب بين الأصوليين المسلمين واليسار المتطرف في الكليات. وهو يتغذى بمفاهيم نضالية أتت من الولايات المتحدة والتي تبنتها بعض النقابات الطلابية”.

بعد أقل من 48 ساعة من ذلك، زايدت وزيرة البحث والتعليم العالي فريديريك فيدال منددة هي أيضا بالإسلاموية اليسارية التي “تنخر المجتمع بأسره”. وأعلنت عن طلب موجه للمركز الوطني للبحث العلمي لإجراء تحقيق “حول جميع التيارات البحثية بخصوص هذه المواضيع في الجامعة بحيث نتمكن من التمييز، بين ما يندرج ضمن البحث الأكاديمي وما يقع تحديدا في إطار النضال والرأي”.

عندما نشر جيرار نويرايل وستيفان بود قبل أسابيع قليلة وفي جو عاصف رجعي مقالا في صحيفة “لوموند ديبلوماتيك” حول “مأزق السياسات الهوياتية”، كنا نتخيل بأن هذين المثقفين اليساريين سينتفضان ويصعّدان من عبارات الإدانة ضد هذه الهجمة غير المسبوقة والاعتداءات المتعددة على الحقوق والحريات المرافقة لها. لكن ذلك لم يحدث. من خلال انتقادهما اللاذع لأمركة الحياة العامة والحضور المطلق لـ“المسألة العرقية” والانحراف الهوياتي ليسار كانت له -حسب رأيهم- نظرة اجتماعية في السابق وصار اليوم ميالا أكثر فأكثر إلى النظريات المتعلقة بالعرق، بدا المقال على أنه طلقة أخرى في المتتالية المذكورة أعلاه. وقد أعلنا في هذا المقال عن صدور كتاب في دار آغون حول “العرق والعلوم الاجتماعية. دراسة حول الاستعمالات العامة لمفهوم”، وهو كتاب يطمح إلى “الخروج من الأجندة السياسية والإعلامية”. لكن هذا الطموح خاب.

على الرغم من أن بود ونويرايل يؤكدان العكس على امتداد الكتاب الذي يعد 400 صفحة والذي سرعان ما نال نجاحا في المبيعات، فبالتأكيد أن عملهما منحاز، حيث يتدخل فيه الكاتبان بسوء نية نادرة وغير مكترثين في الغالب لأية صرامة علمية. إنه كتاب سياسي مليء بتعاليق وجمل حادة، حيث يقوم الكاتبان بتصفية حسابات مع زملاء أو مؤسسات بحثية، ويسخران من “اليسار الثقافي” و“مقاولي الهوية” و“تجارة ما بعد الاستعمارية”، وفزاعة “عنصرية الدولة” وما يسمونه بـ“موضات” الدراسات العرقية أو التقاطعية".

مفاهيم ضبابية

ففي حين يزعمان أنهما يتدخلان بصفتهما كمؤرخ اجتماعي وعالم اجتماع لمعالجة مسألة العرق، لا يقترح بود ونويرايل في أي وقت تعريفا لهذا المفهوم بالذات، (كما لا يقدمان تعريفا عن الطبقة مع أنهما جعلا منها تعويذة). ولن يجد القارئات والقراء تفاصيل حول ما يهدف إليه الكاتبان بعبارة “الهوياتي” (identitaire) والتي تعتبر تحت قلمهما أمرا مشينا. هكذا تم وصف حركة “القوة السوداء” (Black Power) في الولايات المتحدة على أنها هوياتية (ص 144)، وكذلك المطالب التي رفعها إيمي سيزار أو ليوبولد سيدار سنغور (نفس الصفحة) في حين أن فرانتز فانون الذي أخطأ المؤلفان في تهجئة كتابه “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” (نفس الصفحة) يلقى الثناء لأنه بقي، حسب رأيهما، بعيدا عن “التعبئات الهوياتية”.

يعمل المؤلفان على تغذية خلط منفر بين العِرق والمسألة العرقية، وهي مصطلحات يستعملونها على أنها مترادفة. كما لا يرون ضرورة لشرح اختيارهما في تحديد بداية تحليلهما من القرن التاسع عشر في حين أن الأعمال التاريخية الجادة تقوم بدراسة مفهوم العِرق في أوروبا ابتداء من القرن السادس عشر. لذا علينا في ظل هذا الغموض شبه الفني أن نخمن ما يعنيه بود ونويرايل بـ“المسألة العرقية” والتي من المفترض أن تكون موضوع اهتمامهما، إذ يبدو الأمر مبهما منذ الأسطر الأولى:

عادت المسألة العرقية إلى الظهور فجأة في قلب الأحداث يوم 25 مايو/أيار 2020، عندما تم بث مستمر لصور فيديو لمقتل جورج فلويد والتي التقطتها إحدى المارات بهاتف نقال على شبكات التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية. (ص 9).

لماذا عادت “المسألة العرقية” إلى الظهور في هذه اللحظة بالذات؟ ولأي سبب بالضبط كانت قد اختفت؟ مثلا يعلمنا الكاتبان -اللذان على ما يبدو يتطرقان إلى الموضوع على وجه التقريب- بأن “المسألة العرقية عادت بفرنسا في الثمانينيات كإحدى أبعاد الجدل حول الهجرة” (ص 195)، وبأن قضية الحجاب بمدينة كراي شمال باريس سنة 1989 (حول تلميذتين بالمدرسة الإعدادية كانتا تلبسان الحجاب) كانت المناسبة لوسائل الإعلام لإعادة هذه المسألة العرقية إلى الواجهة.

“يقال إنه في البلد المستعمر هناك بين الشعب المستعمر والطبقة العاملة للبلد الاستعماري مصالح مشتركة. إن تاريخ حروب التحرير التي قادتها الشعوب المستعمرة هو تاريخ عدم صحة هذه الأطروحة”.

ويعتبر الكاتبان انتفاضات عام 2005 على أنها الحدث الرئيسي الذي أطلق “عنصرة (التصنيف العرقي) جديدة في الخطاب العام” (ص171). ثم يأسفان لكون فكرة “عنصرة” المجتمع الفرنسي قد فرضت نفسها تدريجيا في الوسط الجامعي الضيق الذي يعمل على المسألة العرقية، ويتساءلان بخصوص “المشكلة التي تطرحها إعادة الاعتبار للعرق في المجال العلمي والتاريخ وعلم الاجتماع” (ص 181-182). ثم تنقلب المسألة بعد بضع صفحات حيث نقرأ بأن “المسألة العرقية كانت محل صراعات مستمرة بين مختلف أطياف المجال السياسي الجمهوري” (ص 225).

يعد الخلط بين “العنصرية” و“المسألة العرقية” إشكاليا جدا، لأن هذه المفاهيم تشير إلى موضوعات جد مختلفة. إذا كان العرق مفهوما معاصرا يشير إلى “علاقات قوة تهيكل -وفق طرق مختلفة بالنظر إلى السياقات والأزمنة- المكانة الاجتماعية المخصصة لمجموعة أو أخرى باسم ما يفترض أنها الغيرية الجذرية للأصل (جغرافي، ثقافي أو ديني)”1 وإذا كانت بالفعل العنصرية هي التي تخلق العرق، فإن المسألة العرقية تعني شيئا آخر تماما. فهي في نفس الوقت كل الخطابات التي يتم إنتاجها حول مفهوم العرق والطريقة التي يتم بها ذلك، وأيضا التشكيلات التي تسمح بها والروابط التي تصوغها مع مسائل أخرى، والمخيلة التي تعود إليها إلخ… فدراسة مفهوم العرق ودراسة المسألة العنصرية ليس الشيء نفسه على الإطلاق ومن الضروري بذل مجهود للتمييز بينهما، وإلا لا يمكن فهم شيء.

المُراقِب من عليائه

يعد غياب تعريف مفهوم العرق وتبرير الإطار التاريخي المعتمد الممزوج بالطريقة التي ينصب بها المؤلفان نفسيهما كمُدعين عامين ويقومان بتوزيع النقاط الجيدة والسيئة، دلالة عن رغبة في تقرير ما هو شرعي وما هو غير ذلك، انطلاقا من موقع صاحب سلطة لكنه لا يعترف به أبدا أنه كذلك. إنها غطرسة النقطة الصفر التي حللها سانتياغو كاسترو ـ غوميز، والتي تشير إلى ادعاء ملاحظ العالم الاجتماعي بأنه “يتبنى نظرة سيادية للعالم، والذي تكمن سلطته بالتحديد في كون أنه لا يمكن ملاحظته أو تمثيله”2. يبدو أن بود ونويرايل يقطنان نقطة الصفر هذه، وهما مقتنعان بأنه يمكن أن يكون لديهما وجهة نظر لا يمكن تنسيبها:

ليست لدينا أوهام كثيرة حول كيفية استقبال هذا الكتاب. لقد علمتنا التجربة أنه على الرغم من الإكثار في احتياطات التعبير، فإن القوى المتصارعة حول المسألة الهوياتية ستستعمل ذلك أو تلك من حججنا لتأجيج الجدل، إما لحشدنا لقضيتهم أو للتنديد بنا. فقد كانت الحجة المفضلة لدى الفلاسفة الماركسيين الذين لم يكونوا يتقبلون النقد هي أن خصومهم “يلعبون لعبة” السلطة أو الرأسمال الكبير. إنها نفس الشتائم التي يتبناها اليوم مثقفو الهوياتية الذين يضربون مصداقية منافسيهم من خلال اتهامهم بـ“لعب لعبة” العنصريين أو الإسلامويين. (ص 377).

دعوة جذابة للباحثين الشباب

يقترب التحليل القاطع والحاد الذي قام به الكاتبان لأعمال كوليت غيومان3 من الافتراء. وما كان ذنبها؟ كونها أدخلت إلى فرنسا الانشغالات العرقية التي كانت حتى ذلك الحين أمريكية بحتة. وكدليل على أنها مذنبة يتم التذكير بأنها درَّست في فرنسا وكندا. وبالتالي فإن “ألفتها بسياق التعددية الثقافية لأمريكا الشمالية هي التي سمحت لها بإقحام في المجال الفكري الفرنسي مقاربة للمسألة العرقية استمرت إلى اليوم في خطوطها العريضة” (ص 185).

من خلال التعبير عن أسفهما بأن غيومان ومن تبعها قد ساهموا في إضفاء طابع مؤسساتي على المسألة العرقية في الأماكن الأكثر شرعية للبحث في العلوم الاجتماعية، فإن الكاتبين يستنكران في الواقع كون هذا المجال النظري الجديد له جاذبية لدى جيل شاب من الباحثات والباحثين المنحدرين من الأقليات. وهم أُناس لا يريدون اختزال كل الإشكاليات في رهانات طبقية ويرغبون في إعادة النظر في الحياد القيمي (الآكسيولوجي) المقدس للباحث.

كتبت رشيدة ابراهيم بأن “عنصرية ما بعد الاستعمار كارثة طويلة تعرف كيف تُسكت مصدرها”. وهي تشير بأن “الحياد الذي يتظاهر به الباحثون عموما في العلوم الاجتماعية هو في الواقع عنف معرفي يساهم في هذه الكارثة الطويلة”. وترى بأنه “يعيق ذكاء كل واحد من خلال إجباره على تفضيل التحاليل من حيث الطبقات الاجتماعية التي لا تزال تبدو على أنها الضامن الوحيد للموضوعية العلمية”4.

ومن خلال حصر مفهوم العرق في العالم الأكاديمي والفكري للقرنين التاسع عشر والعشرين، يبوح الكاتبان بحنين إلى زمن كانت تناقش فيه “المسألة العرقية” بين أفراد “المجتمع الرفيع”. وهي وضعية تتناقض بشكل مفضوح مع الزمن الراهن حيث تتدخل جماهير مجهولة وبطريقة غير منظمة في النقاش العام لتهييج مسائل لا يستطيع سوى المثقفين طرحها. وتصبح النبرة أكثر انتقامية في خلاصة الكتاب: “سيستمر، على مستوى الشبكات الاجتماعية، أولئك الذين ليس لديهم وسائل الجدل باستعمال الأسلحة الوحيدة المتاحة لهم: العنف اللفظي والشتائم المبررة باعتبارات أخلاقية” (377). ويحرص الكاتبان على الإشارة إلى أن الكتاب ليس موجها لهذا الجمهور.

جدالات الهوية والعرق

بالفعل، ومنذ سنوات، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مليئة بجدالات من جميع الأنواع بخصوص مسألة العرق. فأي كلمة عنصرية (وما أكثرها) يتم نقلها على الفور والتعليق عليها من طرف أفراد وهياكل تعمل للأسف كوسيلة تضخيم لخطاب خصومهم. وهكذا نغرق الشبكة -وكذلك وقتنا ووقت من حولنا- باللا شيء (أو بما يقترب من اللا شيء). وإن كانت هذه الطريقة ليست خاصة بموضوع “العرق”، علينا مع ذلك أن نسأل أنفسنا لماذا نفعل ذلك. ما يُترك على الجانب في هذا النشاط التعليقي هي الجوانب النظامية والهيكلية للعنصرية. فماذا يحصل لكل مالا يمكن التقاطه ورؤيته وتصويره على الفور؟ ألا نساهم في جعل كل هذه العمليات غير مرئية والتي تثقل بسبب ديمومتها كاهل ملايين الأرواح؟

كتبت ماري خوسيه ماندزين: “يجب علينا، شئنا أم أبينا، أن نمنح لمسألة الصورة مكانا حاسما في التفكير عن انهيار الحياة السياسية”5. نعم، يجب ذلك، ولكن بالتأكيد ليس بالطريقة التي يستعملها بود ونويرايل. فبدلا من انتقاد اللعبة السياسية واستقطاباتها المحبطة، و“عماها المتقاطع” (وفق عبارة بيار بورديو)، يقوم مؤلفا كتاب العرق والعلوم الاجتماعية بحصر هذه العيوب في المسألة العرقية بإدانتهما لكل “مقاولي العرق” الذين "يتشاركون نفس لغة منافسيهما اليمينيين (ص 243).

وكونها مستهدفة من اليمين المتطرف فإن المطالب الهوياتية (وقد رأينا وسع تصور الكاتبين لها) تغذي الجدل العنصري. فالنضال ضد العنصرية يكشف حسبهم تناقضات تستغلها القوى الهوياتية اليمينية لصالحها. فمن فرنسا إلى الولايات المتحدة، تكون هناك كتلتان تتصادمان في صراعات هوياتية: مجموعات الأقليات ومجموعات التفوق العرقي الأبيض. وفي فرنسا يقود التجمع ضد الإسلاموفوبيا وجيل الهوية نفس المعركة.

الطبقة ضد العرق

كرر ذلك بود ونويرايل بما يكفي: ليس لديهما مشكلة مع مفهوم العرق. هما مقتنعان بأنه يجب أن يبقى في مكانه وأن يتم التعامل معه فقط “كمتغير أو كحالة خاصة، يدرس ضمن إطار مشكلة علمية أوسع”. (ص 192). خلافنا حول هذه النقطة كامل ولكننا نلتقي مع الكاتبين عندما يعتبران بأن العنصرية لا توجد أبدا بصفة خالصة، مستقلة عن علاقات الهيمنة الطبقية. ولكن هذا ينطبق أيضا على الطبقة التي لا توجد بمعزل عن علاقات الهيمنة بين العرق والجنس. وهذا يؤدي بنا إلى “التفكير في نفس الوقت بعدم اختزال المسألة العرقية وصِلتها التي لا يمكن فصمها عن العلاقات الطبقية والجنسية”6.

إذا كان للعرق علاقات وثيقة بالطبقة، فإن المظالم والأضرار التي تتعرض لها الأقليات العرقية لا يمكن مع ذلك اختزالها في العلاقات الطبقية وعلاقات الهيمنة الرأسمالية. أن نرجع كل الأمور إلى الطبقية، فهذا يسجننا في شبكة قراءة ممركزة أوروبيا واقتصادية بحتة (وهي على وجه التحديد شبكة قراءة كاتبي “العرق والعلوم الاجتماعية”). يجب إجراء التحليل (على الأقل) على كلا الجبهتين. ومع ذلك يوجه انتقاد لتحليل خاص بالعرق كونه لا يتحدث عن الطبقية ولكن من النادر أن يحدث العكس.

وهكذا يعترض الكاتبان على العمل المذكور أعلاه للمؤرخ باب ندياي بحجة تبدو لهما ظاهريا لا يمكن الطعن فيها: إذا تم إدخال المتغيرات الاجتماعية “الثقيلة” ضمن التحليل، مثل الشغل والمهنة وحالة النشاط والجنسية، فإن مفهوم “السكان السود” “يفقد الكثير من تجانسه وينتثر إلى شظايا” (ص230ـ 231). ولكن يمكننا أن نقول ذلك على جميع الفئات، كما نجد نفس التباينات داخل عالم الطبقة الشغيلة، خاصة إذا استدعينا متغيرات العرق والجنس إلخ… فالكلام عن السود والمسلمين ليس أكثر اصطناعا من الحديث عن الطبقات الشعبية. من دون تعريف عملي للعرق والعنصرية ينتهي الأمر بالكاتبين (اللذين يعلماننا بأن المصطلح يكون قد ظهر تحت قلم شارلز مالاطو في 1888 فقط) إلى تبني فكرة بورديو“عن العنصرية الطبقية” والتي لا تعني سوى الاحتقار الطبقي. كانت غيومان على حق تماما في الإصرار على أن هذه الأشكال من التحقير الاجتماعي ليست عنصرية.

ماقاله فرانتز فانون حقا

“ما لا جدال فيه مع ذلك، هو أن التاريخ السياسي الخاص بفرنسا وصل إلى ترسيخ الانقسام بين يسار يفضل المعيار الاجتماعي ويمينا يفضل المعيار القومي والديني أو الإثني ـ العرقي” (ص 16). نحن بعيدون عن مشاركة هذه الفكرة التبسيطية بل نقول أن اليسار لا يعنصِر بنفس الطريقة. يتعلق الأمر باختلاف في الدرجة وليس في الطبيعة. وهذا ما يبدو أن الكاتبين يشيران إليه رغما عنهما: “على الرغم من أن كل الفرنسيين كانوا مقتنعين بأنهم ينتمون إلى شعب أعلى من أولئك الذين استعمروهم، إلا أن هذا لم يمنع بروز خلافات في طريقة تنفيذ هذه الهيمنة”. (ص 49 ـ 50).

تخدم هذه الثنائية المبسطة، التي تتطلب الفصل الدقيق بين قضايا الهوية والرهانات الاجتماعية، هدفا استراتيجيا مزدوجا. فهي تسمح أولا بانتقاد يسار (وهو مفهوم متذبذب دوما في الكتاب) مذنب بتخليه عن المسألة الاجتماعية لصالح قضايا الهوية. يتبنى الكاتبان أطروحة تحول اليسار من المجال الاجتماعي إلى الثقافي ولا يترددان في تكرار لمرات عديدة عبارة “اليسار الثقافي” التي يعشقها اليمين المتطرف. تسمح لهم هذه الثنائية بعد ذلك باتهام المنظمات المناهضة للعنصرية “بالقيام بمزيد من تقسيم القوى التي كانت تناضل معا ضد كل أشكال الاستغلال والتمييز” (ص 179).

يرى الكاتبان أن بعض الحركات المناهضة للاستعمار قد ابتعدت عن الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي كان يفضل المعيار الطبقي، لأنها كانت هوياتية، بينما لم يكن لهذا الحزب أبدا اعتبارات مرتبطة بالعرق. يمكننا هنا بسهولة ذكر الرسالة التي أصبحت مرجعية لإيمي سيزار (الهوياتي) والمرسلة إلى موريس توريز أو أفضل من ذلك كلمات فرانتز فانون (الذي يبدو أن له تقديرا أكبر عند كاتبينا) الذي لخص الأمر بشكل ملفت:

“يقال إنه في البلد المستعمر هناك بين الشعب المستعمر والطبقة العاملة للبلد الاستعماري مصالح مشتركة. إن تاريخ حروب التحرير التي قادتها الشعوب المستعمرة هو تاريخ عدم صحة هذه الأطروحة”. (“من أجل الثورة الإفريقية، كتابات سياسية” 1964).

توافق المصالح هذا مازال لم يُعثر عليه. ويبقى الالتباس بين العرق والطبقة كاملا.

[ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬