نصوص صدرت حديثا (جامعة هارفرد للنشر، 2020)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟
محمود ممداني (م.م.): لقد كتبت أكثر من عشرة كتب على امتداد أربعين عاما من حياتي الأكاديميّة، ويبدو الآن أنني لا أفعل شيئا سوى الكتابة-بمعنى آخر، الكتابة هي "سبب وجودي"، ولا داعي لوجود أي حافز إضافي! وقد ركّزَت أعمالي السابقة على الاستعمار وما بعد الاستعمار، مبنيّة على فرضيّة أن القوميّة حلّت أولا ثم تبعها الاستعمار. كانت القوميّة هي الجانب الجيّد، والاستعمار هو الجانب السيء. تجلّى الجانب الجيّد في أوروبا، والجانب السيء خارج أوروبا. هذا الكتاب يبدأ بمساءلة لهذه الفرضيّة، بعد إدراك أن الاستعمار والقوميّة ولدا بالفعل معا، ويمثلان وجهين لعملة واحدة.
ج: ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
م.م.: يركّز هذا العمل على الدولة القومية، بشكليها الحضري المديني والاستعماري. أبدأ في سنة 1492 كونها تاريخ ولادة الدولة القوميّة في ايبيريا، وهي دولة تصهر كلا من القوميّة والدولة وتعيد النظر بالدولة كحافظة للقوميّة، مما يؤدّي إلى عمليات تطهير عرقي للأقليّات. وسنة 1492 هي أيضا تاريخ غزو الهنود في الأميركيتين.
ثم يتتبع الكتاب تاريخ الدولة القوميّة في أوروبا، من تاريخ من الحروب الدينيّة، إلى معاهدات وستفاليا والأعمال النظريّة لجون لوك، أناقش المبادئ الأساسيّة للنظريّة الليبراليّة للدولة القوميّة-سيادة الغالبية، الأمّة، والتسامح مع الأقليّات الّذين يتمتعون بحقوق لكنّهم لا يشاركون في السيادة.
أشكك بمؤلفات وأدبيات كاملة تتناول المواطنة، بدءاً من تي. هـ. مارشال الذي قدّم لنا سلالة المواطنة، بدء من الحقوق المدنية فالسياسيّة ثم الإجتماعيّة.
أنقل السؤال من "أي حقوق" إلى "حقوق من"، وبالتالي من قصة تطور إلى قصّة إقصاء يترافق مع احتواء. أربط ذلك بأدبيات حول العنف، مسائلا منطلق محاكمات نورنبرغ، والقائل بأنّه يجب اعتبار كل أنواع العنف بمثابة (عمل) جنائي وفردي. وأناقش أن العنف المطلق هو في الواقع سياسي: هو عنف تقوده جماهير كاملة معبأة إزاء قضايا معيّنة، ولا يمكن فهمه عبر تسميّة المحرّضين والتشهير بهم، كما تزعم في معظم الأحيان جماعات حقوق الإنسان. أجادل أن نورنبرغ فشلت لأنّها ركّزت على الأفراد المحرّضين، حتى لو كان عدّدهم يفوق المليون.
تجاهلت نورنبرغ المشروع السياسي النازي، وهو تطهير الدولة القومية من أقلياتها: اليهود، والغجر وإلى آخره. ومشروع تفكيك النازيّة انتهى بأنّه أنجز المشروع السياسي النازي، عبر خلق ألمانيا خاليّة من اليهود وتأسيس الأرضيّة لإسرائيل بلا فلسطينيين. هذا هو حلّ الدولتين الذي تحاول إسرائيل تحقيقه اليوم، بالانتقال من إسرائيل كدولة يهوديّة وديموقراطيّة، إلى إسرائيل كدولة يهوديّة.
ج: كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
م.م.: في كتابيّ السابقين، "مواطن وتابع" (جامعة برنستون للنشر، 2008)، "عرّف واحكم" (جامعة هارفرد للنشر، 2012)، حددت أصل دولة الحكم الاستعماري غير المباشر، بدء من الردّ البريطاني على أزمة الاستعمار العامّة في القرن التاسع عشر، من الانتفاضة الهنديّة إلى تمرّد خليج مورانت في الهند الغربيّة (جامايكا)، إلى الانتفاضة المهديّة في السودان.
ولكن، في هذا الكتاب أبدأ بإيضاح أننا نحتاج لأن نستوعب أن الحكم الاستعماري غير المباشر هو حلّ دولتين، وأن أصل حلّ الدولتين هو المحميات الهنديّة التي ابتكرت في أميركا الشماليّة. ألاحق أثر أصل حلّ الدولتين من الولايات المتّحدة إلى جنوب أفريقيا، مرورا بألمانيا النازيّة وما بعد النازيّة، وصولا إلى إسرائيل\فلسطين. وأظهر أيضا أنه يتعين على المهتمين ببدائل لحل الدولتين تأمل الصراع المناهض للتفرقة العنصريّة في جنوب أفريقيا، بالرغم من أوجه قصوره العديدة.
ج: من تأمل أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغب أن يخلّفه؟
م.م.: آمل أن يقرأ هذا الكتاب ثلاثة أنواع من القراء: الباحثون في مجال الدولة الليبراليّة، والباحثون في مجال الاستعمار الاستيطاني، والباحثون في حكم الاستعمار غير المباشر. أتمنّى أن يعلّم هذا الكتاب كل فئة منهم بأنّ هناك الكثير مما يتعين أن تتعلمّه من الأخرى، إذا وضعوا هدف تحليلهم في سياق امبريالي أوسع. وآمل أيضا أن يقرا الكتاب أشخاص لديهم وعي سياسي مع تركيز على مسائل العنف المتطرف والعدالة.
ج: ما هي المشاريع الأخرى التي تعمل على إنجازها الآن؟
م.م.: أعمل حاليا على مشروعين. الأولّ هو دراسة الأدبيات حول العبوديّة الأفريقيّة قبل عبور المحيط الأطلسي في العالم الأكاديمي الأميركي والغربي، وكيف تم تحريفها بمنظور صيغ في بداية دراسة العبوديّة الأطلسيّة. الثاني هو دراسة عن القائدين عيدي أمين ويوري موسيفني وقد كانا مركزيّين لمشروع صناعة دولة سوداء في أوغندا ما بعد الاستعمار.
ج: ما هو درس جنوب أفريقيا لإسرائيل\فلسطين المعاصرة؟
م.م.: هناك ثلاثة دروس أساسيّة. الأوّل، هو أن النضال المعادي للتفرقة العنصريّة انتصر حين حوّل نفسه من نضال عسكري إلى آخر سياسي. ثانيا، كان نظام التفرقة العنصرية قادرا عل النجاح طالما أنّه كان قادرا على تقسيم ضحاياه في مجموعات منفصلة، وقد بدأ النضال المناهض للتفرقة العنصرية بالصعود عندما أدرك أن مفتاح النجاح هو توحيد الصفوف وإبعاد العدو. الدرس الثالث تطلب أن تعي القوى المعادية للتفرقة العنصرية أن الصراع هو سياسي وليس عسكريا، وأن هدفها هو توحيد القوى في سلسلة من المناورات المترابطة، بدء بتوحيد المضطهدين كلهم (أفارقة، وهنود وسود)، ثم الانتقال إلى تحالف أوسع يتضمّن البيض-ليس فقط أولئك المعارضين للتفرقة العنصريّة، بل أيضا أولئك الّذين لا يؤيدونها بشكل مباشر. يقول ستيف بيكو أن "الأسود" ليس لونا، إذا كنت مضطهدا، فأنت أسود.
وعموما، فإن الهوية ليست بلا تاريخ. هي سياسيّة. انتقل البيض في جنوب أفريقيا من كونهم شركاء صغار في بناء نظام التفرقة العنصرية إلى الانضمام للتحالف المعادي للتفرقة العنصريّة. وبدأت القوى المعادية للتفرقة العنصرية بالتفكير بدولة مغايرة للدولة القوميّة، دولة ليست للغالبية القوميّة (بيض، أو سود) بل دولة منفصلة عن القوميّة.
مقتطفات من الكتاب (من الفصل الخامس، "مسألة إسرائيل\فلسطين)
تقدّم جنوب أفريقيا فرصة مقارنة مضيئة بشكل خاص لدى بحث مسألة إسرائيل\فلسطين. فتفرّد جنوب أفريقيا تحدّى فرضيّة أن الاختلاف الثقافي يعني حكما اختلافا سياسيا. في المقابل، على النقيض من ذلك، فإن هدف الصهيونيّة هو تحديدا ترجمة التالي: تحويل تجربة أن تكون يهوديا-وهي تاريخيا مسألة ممارسات دينيّة، ونشأة، وأصل (نسب)-إلى تجربة قوميّة وربط هذه القومية بدولة. في إسرائيل، الدولة قائمة لحماية وتدعيم مصالح الأمة اليهودية، التي تشكّل هويّة الغالبيّة الدائمة لإسرائيل.
وتصوّر تسيبي ليفني، وهي سياسيّة إسرائيليّة ليبراليّة، الأمر على هذا النحو: "أوّد أن أرى دولة إسرائيل وطنا للإسرائيليين العرب، لكن لا يمكن أن تكون وطنهم القومي." وإسرائيل بحدّ ذاتها، بدون الضفة الغربيّة وغزّة، هي في الواقع وطنا لفلسطينيين، نحو مليونين منهم. ولكن، ولأنّ إسرائيل ليست وطنهم القومي، فهم لا يحظون بالسيادة فيها.
والصهينة هي أكثر من مسألة قانونيّة. فهي، بصفتها مشروع دولة قوميّة، تتضمّن أيضا انصهار الدولة والمجتمع في هويّة واحدة. أن تكون صهيونيا لا يعني أن تؤمن بأن إسرائيل يجب أن تكون الوطن القومي لليهود فحسب، بل أيضا أن تساوي الشعب اليهودي بدولة إسرائيل. الحفاظ على المجتمع اليهودي يعني أن تحافظ على الدولة اليهوديّة.
إذا كان يتعين على إسرائيل أن تكون دولة لليهود وحدهم، فعليها أن تجيب على سؤال "من هو اليهودي؟". ولا يمكن لجوابها أن يتجنّب تسطيح تنوع يهود العالم وتحويلهم إلى اليهود الّذين تعتمدهم الأمّة. هذا هو الوجه الآخر للتهويد: ليس إلغاء غير اليهود فحسب، بل أيضا الأوجه غير المقبولة من اليهودية. النوع المقبول متّصل بالأشكيناز، والذين تعود أصولهم إلى الأجزاء الناطقة بالإيديشيّة في أوروبا. وكان الأشكيناز هم مؤسسو الدولة، الذين اتخّذوا دور الممدّنين الذين يجعلون اليهود الآخرين يتماشون مع النموذج القومي. وعلى وجه الخصوص، سعى الأشكيناز إلى تمدين المزراحيين، أي اليهود العرب. ويطرح اليهود العرب تحديا خاصا للصهيونيّة، بما أن الصهيونيّة تفترض أن الهويتين العربية واليهوديّة لا تتوافقان وهما حكما معاديتان كل للأخرى-وإلّا لن يكون هناك حاجة لدولة يهوديّة في فلسطين التاريخيّة.
إن انصهار الدولة والمجتمع ومشاريع الصهينة والتهويد المرافقة لم تكن ضرورات تاريخيّة. يمكن للشعب اليهودي أن يعيش، وهو يعيش، بحريّة وأمان في دول ليس لها طابع يهودي، دول بإمكانهم ممارسة السيادة فيها عبر أداء أدوار فعّالة في السياسة الديموقراطيّة. وهم إذ أدركوا ذلك، فقد غادرت أعداد كبيرة من اليهود إسرائيل إلى دول غير صهيونيّة لا تقدّم امتيازات لليهود. وفعليا، كان من الممكن وجود مجتمع يهودي في فلسطين من دون دولّة يهوديّة. كان هناك مجتمع يهودي في فلسطين في غياب دولة يهودية-في غياب أي جهد حتّى لبناء دولة كتلك.... اليهود الّذين حجّوا إلى فلسطين لم يكونوا مستوطنين. كانوا مهاجرين. اختاروا أن ينتموا إلى جماعة محليّة سياسيّة كانت موجودة من قبلهم، وليس إنشاء جماعتهم الخاصّة. وهذا الواقع حاسم لتمييز الصهيونيّة عن الوجود اليهودي المبكر في فلسطين. المهاجرون ليسوا مسلّحين، المستوطنون يأتون مسلّحين بالأسلحة من جهة، وببرنامج قوميّ من جهة أخرى. المهاجرون يأتون بحثا عن وطن، وليس دولة، بالنسبة للمستوطنين لا يمكن أن يكون هناك وطن بلا دولة. بالنسبة للمهاجرين، الوطن تمكن مشاركته، بالنسبة للمستوطنين، الدولة يجب أن تكون دولة قوميّة، محميّة الأمّة حيث الآخرين كلّهم هم على الأكثر ضيوف سمح بوجودهم.
وهكذا، فإن ما أطلق جدليّة عدائيّة بين اليهود وغير اليهود ليست هجرة اليهود إلى فلسطين، بلّ بالأحرى الافتراض القائم بين اليهود بأنّ الأرض هي حقهّم الحصري. قبل قيام الدولة، أسّس الصهاينة هويّة قوميّة يهوديّة في فلسطين تدعمها مؤسسات يهوديّة، مما فجّر التوتر مع السكان المحليّين. وأدّت الجهود الصهيونيّة الرسميّة لتهويد المزراحيين إلى تقويض الإرث العلماني للصهيونيّة –وبالتالي إلى مباركة الميول الدينيّة المتطرفة لدى كل من المزراحيين وجاليات أخرى-وأدّى ضخّ التديّن في المستوطنات وضخّ المستوطنين في الأراضي المحتلّة إلى تأجيج الإحساس بوعي وطني فلسطيني.
إن إمكانية حل الدولتين انتهت مع اتفاق أوسلو في منتصف التسعينيات، حيث تخلّى ممثلو الفلسطينيين عن السيادة على دولتهم المستقبليّة المنشودة لصالح الإسرائيليين. وقد نتج عن ذلك اهتمام متنام في مجموعة من احتمالات قيام دولة واحدة، بما فيها احتمال دولة مزدوجة القوميّة، وهي فكرة سبقت إقامة الدولة.
عوضا عن تلك الأفكار، أشير إلى تفكيك الصهينة، الذي يمكن أن يفصل الدولة عن الأمّة. في صلب تفكيك الصهينة، هو جعل إسرائيل دولة لجميع مواطنيها. أتطلّع إلى فرادة جنوب أفريقيا كنموذج لتفكيك الصهينة.
[نشرت على «جدلية». ترجمة هنادي سلمان]