1
في أول السّهلِ التقيا
الذئبُ وليلى
قالت: ما أنتَ؟
قال: تبًا..
2
ثوبها فضفاضٌ أكثر مما ينبغي
تسألُ كطفلةٍ وتجيبُ كامرأةٍ
ملتبسةً كفجرِ الدَّغلِ
ومناغاةٌ كالهديل
3
تبصّرت ليلى بصفرةِ عينيهِ
وقالت: لهاثك يغمرُ حسَّ الطريق
ووجيبُ قلبك أشعره في وجدان الجوِّ
شيءٌ كما الجوع لكنه ليس جوعًا
ضعفٌ يخيفُ وهزالٌ يرعبُ عافية الكون
ما اسمك؟
قال: اسمي الذئب
عمري أكثرُ من قرن
وأقلُّ من أزلٍ
ولدتُ يوم الحكايةِ وعمدتني العجوز الثرثارة باقرًا للبطون
وربّتني مشهدًا أبديًا
منحتْ الليل بدرًا، وأعطتني توحد الغابة، وذهان الجبل، وسُعار الريح، وعُصاب الليل، وذعار السدرة الوحيدة
مسختني بالسردِ الإباحيِّ الخرافيّ
والخرافة ابنة الخرفِ
وقالت اذهب، لك التّوحشُ كلّه
وصدّقوها
قالت ليلي: أنت الذي أكلت جدّتي إذن؟
قال: بل أكلني لسانُها
4
تقول ليلي: عرف بنفسك أكثر، أخِفني.
قال الذئب: أنا الذنب والذؤابة والذل، ذاوٍ وذابل، وأنا من ذابَ في الحكاية مستسلمًا
أمضيتُ عمري أجري دون معنى
فقالوا: لا يهرول عبثا
معط البردُ والريحُ والجوعُ فضَة شعري
فحشروني في بهتان الكناية وقالوا يا له من أمعط
زهدتُ بالنور
فقالوا: يخاف نار القوافل
ونوَّعوا:
يشربُ الدم
وقال قائل: يرشفه رشفًا
وقال ثانٍ: يمصُّه مصًّا
وقال ثالثٌ: يعبُّه عبَّا
ماذا أفعل يا ليلى؟
وعوى..
عوى ااااا
فامتلأ الليل بصريره الوحشي
أنا خائفٌ يا ليلى
وأخافُ من يخافني
الخائفُ يخيفُ يا ليلى
الخائف مخيف.
5
قالت ليلى: لا تخف.
قال الذئب: خائفٌ من يقول لا تخف
واعترفت ليلى: تلك العجوز التي مسختك، مسختني
خوفوني منك فخفتُ
لكنّي صرت أخاف الخوفْ
وها أنت دون أن تدري
تفتح بابًا لسلام مع الروح، حميميَّ الملمسِ
نهائيٌ كالحكمةِ
جديدٌ كالحبِّ
6
يقولُ الذئبُ لليلى:
لقد خفتكِ في البدءِ
وأخافني أحمرك القاطعْ
وغناؤك يوزع اللا مبالاة في كسل السهبِ
رأيتِني فما رأيتِ نابين وعينين مصفرة الاخضرار
وقلتِ:
ساقاه رفيعتان وهو أضمرُ من شاة
وعرفتِ، كيف عرفتِ؟
أن الذئب تصوّر المتوجّس وتمظهر الخائفِ
وأنني أحيا بالاكتراث
وأنتِ لم تكترثي
أو هكذا بدا لي
وحينها، عرفتُ أنني لست ذئبًا
أنا استذئابهم لي
وأنا هروبهم مني
وأنك لستِ الطريدةْ
أنت الطرقةُ على بابِ القلبِ
وأنتِ الطريقة
وربما أنت الدلالة للمخفيّ فيّ
وأنت التي يسميها المتعبون الحقيقة.
7
قالت ليلى:
لماذا يسمون صوتك الرماديَّ عواءً؟
سمعتُك فقلتُ: هذا محضُ نشيج..
صوتٌ معبديٌ أقرب للضراعةِ
صوت الوحيدِ إلى البعيد
لا صوت المشاكسِ والمعاكس
صوت التربّص والتريّث من نيفٍ ومن بعدٍ
يرسل الغرابة في الأنحاءِ
ويفتح للتأويل جهةً وليلًا
سمعتكَ فكان صوتك أقرب للنداء
هل ناديتني يومًا؟
لقد ناديتني مرارًا أيها الضال
أنا هي، أنا ضالّتك
8
واستطردت ليلى:
لم يأسرني فروُكَ القمريّ
ولا لجين ظلك المراوغ على الرملِ
لم يأسرني وقارُك الأسديّ
لا اللفتات الشحيحة المخيفةْ
لا العفاف عن الجيفةْ
لا طقسك الصارم في الافتراس
لا انعدام الثعلبِ فيك، لا الضبعُ القليل
لا اندغام الفهد بالصقر في جوّك الغامض
سألتك: من أنت؟
فقلتَ: أنا ابن آبائي الذين مات نصفهم جياعًا لسوء الحظ، وقتل سوء الفهم نصفهم الآخر.
وتعاطفتُ، أنا التي تعرفُ الحيفَ
وسألتكَ: كن صديقي
فقلتَ: لا أصادق من أشتهي.
وعدت سألتك: هل أنا شبقك الموسميّ؟
فقلت: المواسم كلها، الشبق كله
وأسقط في يدي
وأسرني،
صوتك وأنت تتكلم
وجهك وأنت تعترف
شكلك وأنتَ لا تفكر
منهارًا كالحجّةِ الفارغة
أسرتني
ولا ألام
فأنا مهما ادعيتُ اختلافا
فتاةٌ يغويها الكلام.
8
قال الذئبُ:
يريبني الفيض الغنائي، يموسقُ السَّرد الصارم برأسي
ويربكني أني أغادرُ دم الغريزة في الفجر، وأصدّقُ في الليل حدسي
كأني تكونت من شِعرٍ
قد كنت أخيف الأشياء وأخافها
وها أنا الآن في ذروةِ النشوةِ أخافُ نفسي
أخافُ المتصاعدَ بداخلي
شططٌ خياليَّ الخيالِ يأخذني إلى لعبةٍ صاخبة
أخاف البداياتِ وزخمها الموتور وأخافُ أكثر، العاقبة
وأستحي أن أقول أريدُ ضمانات
وأستحي أكثرَ أن أقول، أمطريني بالوعودِ الكاذبة
يخيفني يا ليلي هذا المتدافع الجسور بقلبي
وأحسّه برغم كل ما فيه من الشطحِ الناريّ محض طفلٍ سيتعب
إن كان هذا الذي أحسُّه حبًا
فهذا كائن قابل للكسر في أية لحظة
لا تكسريني يا ليلى
9
فأجابت ليلى: ماذا أقول سوى.. أنا أنتَ
لكنّي التأخر بخطوتين
وأنا التردّدُ
وانا صاعان من تمهلٍ على صاع الغواية
وأنا القاب قوسين ولا تدنو
فأنا الحياء والاشتهاء
وأنا الكادَ المريب، مفضوحةً كفرح القلبِ
وأنا الـ برغم جدتي، كامنة جاهزة
وأنا الشيئان، الثلاثة، المئة، في شيءٍ
وأنا المعطياتُ وأنت السياق
وأنا التي أعطبها الإيمان وما زلتُ إليه أحنُّ
تمعن بوجهي وسترى سحنة الدَّربِ الذي سيأخذك إلى الإنسيّ فيك
وسأفهمك وأتفهمك وأتفاهم معك
وأقصيك من قصتهم بقصّتي
أنا ليلى
أنا الرعايةُ والمراعاة ومرعاك
وأنا التجاوز والتعاطف
وأنا جبر خاطرك المكسور من غابرٍ
وأنا حسن طالعك ومفترق طريقك
وأنا صحتك واكتفاؤك
وأنا اليا لي من ليلى
حرونًا، وتروّضني
وأنت اليا لك من ذئبٍ
غامضًا، ويذبحني الفضولُ
عفيفًا، ويبتعد الوصولُ
ونحن الذين سنخطئ سويًا
ونحن التغافرُ
وأنا التي ستأوّلك معنىً وجدوى
وأنتَ الذي سيخرجني من المبدأ ويدخلني في التجربة
ممارسة
ممارسة
وسأسقط، وتمد لي عينين من صفحٍ
وستسقط وأسقط معك
بشكلي السهل وطبعك الصعب
متمرغين بطين ذواتنا الحار
متطفلين على سرّ الأسرار
ونمضي عميقا في عناد خامتنا
لا نلوي على شيءٍ
أعميين يتحسَّسان بشرة الأرضِ
مبصرين يتحرشان بالدنيا
[كتب هذا النص بتحريض من نص الروائية بثينة العيسى: (ليلى والذئب؛ من الحكاية إلى القصيدة)]