تسقط المعاني كلّها، وحده القهر يستوطن مدويّا: كم عمرا تريدين بعد يا بيروت؟

[غرافيتي في بيروت] [غرافيتي في بيروت]

تسقط المعاني كلّها، وحده القهر يستوطن مدويّا: كم عمرا تريدين بعد يا بيروت؟

By : Hanady Salman هنادي سلمان

هنادي سلمان

سريعا حلّ واستقر، أمّ أنّه كان يتغلغل ببطء، ثم هبط مدويّا حتّى استوطن الأماكن والمكامن كلّها؟

هذه بلاد أفلست وماضيّة كأنّها لم تفلس. سياسيّا واجتماعيّا وأخلاقيّا، مفلسة منذ تأسيسها. لكنها، الآن هنا، باتت مفلسة، علنا، اقتصاديا وماليا، مرمي من فيها للعوز والقهر لأجل غير مسمى. غير منظور.

كان الرفاه النسبي، المتفاوت بحسب المناطق والحظوظ والقدرة على النفاق والتحايل، يسمح بغض الطرف والأطراف ويميّع أيّ رغبة بالتغيير. كلا، لم يكن هناك "ثوّار" يعملون من أجل إسقاط النظام. كان حاملو جواز سفر هذه الجمهوريّة، ومازالوا، مجموعات متباينة، بينهم المستفيد، والمهاجر والراضي، والعاجز، والجاهل، والثري، والرافض، والعاصي، وبينهم الّذي يكّد لبناء حياة لأبنائه وشيخوخة لائقة لأهله، وبينهم الساعي للرحيل، والمقهور لتعذّر الرحيل، وبين كلّ هؤلاء قلة من سعاة التغيّير: بالقلم، بالفن، بالتذمّر، أو بما تبقى من العمل السياسي والحزبي الفعليين من أجل القضاء على النظام الطائفي المتشابك والطبقيّة وأرباب الاحتكارات، و...السياسات الإقليميّة.

كيف أستتر الطبقي، ويستتر، تحت قناع الطائفي، ثم المذهبي، كي تستمر حفنة من الأسر، يزيد عددها أو ينخفض، تتغير أسماؤها أحيانا والوجوه، في تحديد مصير ملايين البشر الذين لا يعرف أحد عددهم بعد؟ 

كيف كان لهذا العدد من الكفاءات المتميزة في الآداب والفنون والعلوم، وفي الوطنية، في الداخل وفي الخارج، أن يرضى بأن يحكمه من هو دونه حبا لحياته، للحياة كما ينبغي أن تكون؟ 

منفى العرب، واحة العرب، كتاب العرب، مقهى العرب، ملهى العرب، خمّارة العرب، ملجأ العرب، جامعة العرب، قاهر الفقراء من العرب، وصيّاد الأغنياء منهم، حاضن اللاجئين الفلسطينيين وقامعهم في آن، ممتعض علنا من لجوء النازحين السوريين ومستفيد من الهبات المخصّصة لهم. عنصري ومحتفٍ بالغريب في آن.

جبل، وبحر، وشنطة تسّوق. مقاومة من الأطياف كافة، أنهت الاحتلال الإسرائيلي ثم عادت وهزمته. مطّبعون ومطبّعات، خونة ووطنيون. وطنيون يختلفون على معنى الوطنية والوطن، خونة كل يرى في خيانته وجهة نظر.

مركز صاخب برّاق متباه، تبقيه الرُشى منغمسا في ذاته، ساع للمزيد من الرقص في الوقت الضائع. وأطراف لا أحد يعرف أسماءها، تعتاش مما يفيض عن غيرها: إن طرحت الأرض ما يسد جوع، إن توظّف منها في الرتب الدنيا من القطاع العام، إن ضحك القدر في وجه أحد أبنائها واستقبلته بلاد الغربة وخيراتها. بالسرقة، بالخروج عن القانون، بالدعاء، بالصبر الذي بلا نهاية.

مجرد عشرة آلاف وأربعمئة واثنين وخمسين كيلومترا، ومن في جنوبها لم يزر يوما شمالها والعكس. أفراد يعيش كل في قريته، منطقته، منطقه، جماعته، مذهبه، ولا يعرف كم أن "الآخر" يشبهه، أو لا.

كيف يمكن لهذا القدر من الغربة أن ينشأ بين فئات تعيش على أرض لا يفصل أقصاها عن أقصاها أكثر من ساعة أو ساعتين بالسيارة؟

هل تحولت هذه البلاد إلى وطن في السنوات المئة منذ أن أُعلن قيام الدولة؟

سريعا حلّ واستقر، أمّ أنّه كان يتغلغل ببطء، ثم هبط مدويّا حتّى استوطن الأماكن والمكامن كلّها؟

في تلك الطنّطنة، الّتي تحّل في 13 نيسان من كلّ عام، في ذكرى اندلاع الحرب الأهليّة، (بين الأهل). سيعود الخطاب ذاته، محدّثا بحسب ما آلت إليه الأوضاع اليوم، ليسود: فالمتكلّمون هنا صادروا الحداثة والتحديث أيضا. 

في تلك الطنّطنة، سيُعلك الكلام ذاتّه على الألسنة ذاتها، كما يحصل كلّ عام، بلا حياء.

لم يحلّ سريعا، بل كان يتغلغل ببطء. وكنّا نراه في تغلّله.

وتلك الحرب، لمَ نحيى ذكراها هي دونا عن سواها؟

كم من حرب غيرها وقعت على هذه الأرض؟ كم من حرب تدور رحاها اليوم بين زحام الركام الذي يسمى حياتنا؟

متى كانت هذه الرقعة الجغرافية وطنا؟

لم نحيى ذكراها ويومياتها المضنية مازالت تعشش في مكانة بين الضلوع وبين الرئتين، تطبق على الصدور، وتلوث ما نتنفسه ونراه ونسمعه ونقوله ونفعله، فيما نحن نمعن دوما في رفض ولوج الطريق المؤلم الوحيد القادر على إخراجها منا وإخراجنا منها.

من يريد أن يقرأ اليوم أو يسمع تفاصيل تلك الحياة التي كانت تنحصر بين زقاقين ونيف، تدور بطيئة لزجة في الظلمة والعطش؟ حياة مفاتيحها بين أيدي فتيان مسلحين بلحى يأتمرون بأوامر أمراء شوارع نحيا ونموت على وقع أمزجتهم وحساباتهم.

كيف، وهم هم من يملكون منذ ذلك اليوم مفاتيح الموت والحياة؟

لكنه موت بطيء، ما نحياه اليوم. مازالت لعبتهم قائمة، وحسابات الربح والخسارة لم تتغير: نحن البيادق، وكلما جمع طرف منهم عددا أكبر منا، كلما اقترب من الفوز. ونحن ننساق، في كل مرة. نتكتل كالأشياء بالقرب من أحدهم. نقتنع أن ما من وسيلة أخرى لرد العوز، والمرض، والجهل، والعراء عن أولادنا. أو نقتنع بأن الهجرة هي الحل.

نحن وقود نار نضرمها في كل مرة لتحرقنا. نحن ندور كالفراشة حول ضي ليس ضيا، تلسعنا شراراته ونستمر، ونقنع أنفسنا أن ما من سبيل آخر.

والاستهتار بالأرواح الذي ساد بين العامين 1975 و1990 مازال سائدا. توقفوا عن قتلنا بالرصاص والصواريخ. باتت سبل القتل متنوعة: فساد، سرقة منظّمة، تجهيل، عوز، مياه ملوثة، نعرف بوجودها ولا نملك إلا أن نشرب منها. طرقات بحفر كفيلة بزهق حصيلة يومية ثابتة من الأرواح. مبيدات محظورة لإنضاج ما نأكله ونطعمه لأطفالنا. مليارات الدولارات من شقائنا ومن مستقبل أولادنا لكهرباء مظلمة وظالمة. قوانين تطبق اعتباطيا، وأخرى لم يعد يتذكرها أحد. نساء بأولاد بلا جنسية. مغتربون لم يطأوا أرضها يقررون من يحكمها. سكاكين وأياد تتشابك في ملاعب مدارس يفترض أنها حكومية. مرضى يلفظون أنفاسهم الأخيرة على أبواب مستشفيات توصد في وجه آلامهم. أخطاء طبية قاتلة تحميها قوانين نقابية، تكاد تشرعها. مبان تنهار فوق أجساد أصحابها. أطراف تتجمد كل شتاء، ولا تجد إلا أغصان الأشجار النضرة وسيلة لرد البرد. غلاء مستشر. محاكم معطلة. هيئات أمنية تفتقر إلى المصداقية. أدوية فاسدة ومنتهية الصلاحية. زحمة سير، غني وفقير، قلة ذوق. وعلى فكرة، أين تقع عكار؟

أطفال دون الخامسة ينتزعون من أحضان أمهاتهم بحجة أن الأب أولى، وأجدر. نساء تذوين لأن لا قوانين تحميهن: في الزواج، في الطلاق، إن عنفن، إن ضربن، وحتى إن قتلن بداعي "الشرف". رجال تمتهن كراماتهم في سعيهم للعيش الكريم. أصحاب حاجات خاصة مهملون، مخدرات على أبواب المدارس، "جامعات" خاصة بمناهج "خاصة جدا". "فنانات" وفنانون على قدر عدد الفانات. سيارات أجرة عددها يكاد يفوق عدد الركاب. باصات عملاقة فارغة تجوب شوارع المدينة ومحيطها. مخيمات فلسطينية محاصرة، مهانة، وعرضة لهجوم مسلح في أي وقت.

سني وشيعي، عوني وقواتي. سوريا واسرائيل. مستوصفات ومدارس خاصة لكل المذكورين. حياة رديفة، رشوة مستترة، خدمات تضرم النار كلما خمدت.

لم تنته الحرب. انتهى تساقط الحمم المعدنية. كيف يستتر ما نعيشه اليوم تحت قناع السلم الأهلي؟

لم تنته الحرب، فقط تلاشى الأمل الذي كان يحفز على الصمود في وجهها، الأمل بما سيكون يوم أن تتوقف.

لم تنته الحرب. لم تنته قط. ما حصل هو أن قانون عفو صدر. هم أصدروه. هم عفوا عن أنفسهم. ونحن مازلنا نتكتل من حولهم.

وهم، لم يعفوا عنّا: تبييض أموال، نهب للمال العام، تهرّب ضريبي، وبعد. ثمّ، لم يكتفوا، فاستولوا على ما جيوبنا أيضا، وأعلنوا إفلاس البلاد، وزاد ثراؤهم.

ماذا يعني أن تجلس اليوم في منزلك، وتتمنى أن يطيعك قلبك ويتوقف عن الخفقان: ماذا سأفعل إذا؟ قوت ابنتي، أقساط المدرسة، ثمن الدواء، كلفة المرض، وشيء من الماضي اسمه الغدّ ....

توقفوا عن قتلنا بالرصاص والصواريخ. باتت سبل القتل متنوعة: فساد، سرقة منظّمة، تجهيل، عوز، مياه ملوثة، نعرف بوجودها ولا نملك إلا أن نشرب منها. طرقات بحفر كفيلة بزهق حصيلة يومية ثابتة من الأرواح. مبيدات محظورة لإنضاج ما نأكله ونطعمه لأطفالنا. مليارات الدولارات من شقائنا ومن مستقبل أولادنا لكهرباء مظلمة وظالمة.

ماذا أفعل بعد؟ لقد عملت من كل قلبي وعقلي لعشرات السنين. وفرّت ما يمكن أن يغطي كلفة تعليمها، ثم صادر المصرف الجنى والضنا. هكذا.

لا مسكن للألم في الصيدليات. رفوف محلات التسوق نصفها خاو. أسعار النصف الممتلئ تجعلك تسرع بالابتعاد عنها.

ماذا فعلت؟ ماذا فعلت غير ما يفعله الآخرون كلهم؟ درست. عملت. مرضت. تجاوزت عددا لا بأس به من الحروب. وقعت. نهضت. وقعت مجدّدا ثم عدت ونهضّت مرارا، بعدها عدت وعايشت حربين أو أكثر قليلا أو أقل. ثمّ نهضت وعدت إلى العمل. كما كلّ الناس.

كان لدي ما أفعله هنا. كان لدي ما أقوله هنا. كان هنا هو كل شيء. ثم، لفظني الهنا...لفظني حتّى جعلني ألفظه، لدرجة أني نبذت نفسي.

أين أذهب الآن؟ كيف أرسم غدها بعد؟

الكارثة حلّت، وأنت مازلت تجلس تخشاها تنتظرها وكأنّها لم تحلّ بعد وتعرف أنك، هذه المرة، لن تهزمها.. ولكن، وأنت جالس تنتظر (ما هو قائم)، ماذا تفعل؟

في كلّ ما كان قبل اليوم وحلّ، شعور واحدُ لم أعرفه يوما: الخوف. تعرّفت عليه أخيرا. من قبل، كان للطريق معالم ومسار ووجهة للوصول. لم يعد اليوم من طريق. لم يعد اليوم من وجهة. أضحى هناك فراغ كبير، يودي إلى مجهول هائل.

مع الوقت، مع القهر، تسقط المعاني عن الأشياء كلّها. ماذا يعني أن تستيقظ كلّ صباح وتغيّر ملابسك؟ أو تستحم؟ أو تغطيّ الشيب الذّي انتشر في شعرك؟

ماذا يعني كلّ ما اقتنيته على امتداد أعوام: كتب ولوحات وأسطوانات موسيقيّة، أي، أشياء "تحبّها". ماذا يعني فستان جدّتي الّذي احتفظت به يوم وفاتها.. للذكرى؟

ماذا يعني أن تنظر إلى وجهك في المرآة؟

لماذا تتصّل بمن تحب أو تعرفه؟ ما ستقوله بات مكرّرا حتى فقد معناه: غلاء. مرض. غبن. خوف. لا أمل. لا ضي في نهاية النفق. "كيفك؟" كيف أنا؟ كلّ شيء واضح ومكشوف. كيف يمكن أن أكون؟

حتى خبر الموت يكاد يتحوّل إلى مجرد معلومة تخفّ وطأة تأثيرها مع ارتفاع أعداد الموتى. تدفع النهار بيديك كي يمضي وتعود إلى النوم. لا شيء هنا. لا حياة.

أقاطع الأخبار، مكتوبة ومرئية ومسموعة، ثم ذات يوم أقرّر أن أتلصص على حياتي، فافتح على نشرة الأخبار، وأغيّر القناة بعد دقائق.

سريعا حلّ واستقر، أمّ أنّه كان يتغلغل ببطء، ثم هبط مدويّا حتّى استوطن الأماكن والمكامن كلّها؟

سريعا حلّ، بعدما كان يتغلّغل ببطء. القهر.

كورونا هنّا ليست سوى تفصيل طارئ. سبب آخر للموت المجاني على أبواب المستشفيات.

تسقط المعاني كلّها. حتى في عزّ الحرب كان شارع الحمرا لي، يشبهني وأشبهه. ما هذا الذّي حلّ مكانه الآن، هنا؟

صوت زخّات المطر، العصفور الصغير الذي يزور شرفتي كلّ صباح لدقائق قبل أن تحمله جناحاه إلى حيث يريد. الياسمينة التي أزهرت في الشهر الأول من السنة، الزرع الذي أراه من خلال الزجاج، من "مقرّي" على الكنبة، والذي ينمو لأنّني أهتّم به أحيانا. صوت الرعد الذي يدفعني في كلّ مرة كي أتمنّى لو أن لديّ حضنا يلفّني مع صرخاته. أشعة الشمس المتسلّلة بدفء كي تتفتّح شقائق النعمان في حقول فلسطين في آذار، "شهر الفصول المدللّ". عيناها، ووجه أبي. كلّ هذه، لا أريد لمعناها أن يستمر في التسّرب من بين أصابعي. وحده معناها أريده أن يبقى.

أريد أن أصرخ بأعلى صوت. أريد لصوتي أن يطير نحو السماء، ويرتطم بالأرض، ويتخبّط يمينا ويسارا حتّى يصبح أعلى. لا أريد له مستمعين. أريد فقط أن ينطلق، يتبعثر، أن يحمل هذا الثقل الذي في قلبي إلى الخارج، إلى خارجي، وأعود كالجماد من جديد.

[تنشر بالتزامن مع https://talalsalman.com]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬