محمد رمضان وصقر النور
(دار صفصافة، 2021)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادكما نحو الموضوع؟
محمد رمضان وصقر النور (م. ص.): بدأ هذا الكتاب حين عرض علينا الزميل محمد عبد الحكيم، مدير المبادرة المصرية للتعاونيات، للمشاركة في مشروع بحثي يستهدف فهم وتحليل السيادة الغذائية على المستوى المحلي في مصر. وتبلورت فكرة الكتاب من خلال العمل الميداني مع فريق المبادرة المصرية للتعاونيات والذي مثّل نقطة الانطلاق لهذا الكتاب.
في نفس الوقت، كانت شبكة شمال إفريقيا للسيادة الغذائية، وهي تجمّع لعدد من المؤسسات والمنظّمات التي تدعو إلى الحق في الغذاء والسيادة الغذائية في منطقة شمال إفريقيا، تعمل على مشاريع مشابهة في المغرب وتونس. بالتالي كان الكتاب أو الدراسة فرصة لاستكمال فهم إقليمي أوسع لواقع السيادة الغذائية في المنطقة.
دافع أساسي أيضًا للعمل على الكتاب تمثّل في غياب مفهوم إجرائي مستخلص من الدراسات الميدانية للسيادة الغذائية في الدراسات الريفية في مصر والمنطقة العربية؛ إذ عادة ما تدافع الدول والمؤسسات المستقلة عن مفاهيم أكثر "قومية " إذا كان لنا أن نصفها بذلك، مثل الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي، وهي مفاهيم تغفل أبعادًا اقتصادية شديدة الأهمية على المستوي المحلي.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(م. ص.): يهدف هذا الكتاب إلى تقديم قراءة نقدية وتحليلية لواقع ومحددات السيادة على الغذاء في مصر. في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والبيئية التي أبرزتها الأزمة الصحية العالمية المرتبطة بفيروس كوفيد-19، نطرح في هذا الكتاب مفهوم السيادة الغذائية كبديل ممكن لمواجهة عطب النظام الغذائي المهيمن حاليًّا، والقائم على سياسات الأمن الغذائي وتحكم الشركات والإنتاج الزراعي الرأسمالي في المنظومة الغذائية على المستوي العالمي.
يُعبّر مفهوم السيادة الغذائية عن حركة اجتماعية واسعة تحاول التركيز على إعادة الاعتبار للفلاحين والبيئة، وإعادة بناء نظام غذائي زراعي يمكّن الشعوب والمجتمعات المحلية والبلدان من تحديد سياساتها الخاصة بالزراعة والعمالة الزراعية وصيد الأسماك والغذاء والأراضي، بطريقة ملائمة بيئيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا. ويشمل الحق في الغذاء وإنتاج الغذاء، وأن لجميع الناس الحق في النفاذ لغذاء آمن ومغذٍّ وملائم ثقافيًّا، والنفاذ لموارد إنتاج الغذاء والقدرة على إعالة أنفسهم ومجتمعاتهم. السيادة الغذائية تضع الأولوية لحقوق الناس والمجتمعات المحلية في إنتاج الغذاء، مسبوقًا على الاعتبارات التجارية والأسواق العالمية. يحاول هذا الكتاب إذًا الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي السيادة الغذائية؟ كيف يمكن تحقيقها؟ ما هو واقع وتحديات تنفيذها في مصر؟ هل هناك علاقة بين واقع ممارسات الفلاحين ومفهوم السيادة الزراعية؟
(ج): ما هي التحديات التي جابهتكما أثناء البحث والكتابة؟
(م. ص.): نظرًا لقلة الدراسات الميدانية التي تتناول تحليل مكونات مفهوم السيادة الغذائية، فإن مرحلة تصميم استمارة البيانات وتحديد الأدوات اللازمة لجمع البيانات تطلبت بعض الوقت من حيث تصميم الاستمارة واختبارها ومناقشتها مع فريق العمل الميداني. يأتي بعد ذلك المشكلات العديدة المرتبطة بالعمل الميداني في العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية، مثل اختيار قرى الدراسة وتجنب المضايقات الأمنية للبحث الميداني عمومًا.
أخيرًا، عملية الكتابة وهي عملية صعبة بطبيعتها ويتطلب اختلاف التخصصات مزيدًا من النقاشات بين الشركاء، وإجراء العديد من الاجتماعات لمناقشة مختلف الأمور، خاصة وأن الكتاب أُنجز على يد اثنين، أي أننا اشتركنا معًا في كتابة كلّ الأجزاء عبر الإضافة والحذف والنقاش، فيما عدا الفصل السادس الذي كتب على يد ثلاثة باحثين، إذ شاركت معنا الباحثة مروة في كتابة أجزاء من هذا الفصل المتعلق بالنساء وإنتاج واستهلاك الغذاء. لكن الكتابة المشتركة، عمومًا، لها مميزات عديدة مرتبطة بالتحفيز والتفكير المشترك وتنقيح وتطوير الأفكار بشكل تشاركي، والخروج من العزلة وموجات الاكتئاب التي قد تولدها، أحيانًا، عمليات الكتابة المنفردة.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(م. ص.): يقدّم الكتاب قراءة تقاطعية تعتمد على الاقتصاد السياسي الزراعي والتحليل الاجتماعي التاريخي لواقع الزراعة الفلاحية، وسبل عيش الفلاحين وإمكانات ومعوّقات بناء نظام زراعي بديل مستدام بيئيًّا، وعادل اجتماعيًّا واقتصاديًّا، وملائم ثقافيًّا. فهو كتاب في الاقتصاد السياسي والاجتماع الريفي معًا. يتقاطع الكتاب مع العديد من الدراسات المتعلقة بالمسألة الزراعية والفلاحية في العالم العربي، مثل كتابات حبيب عايب، وراي بوش، ورامي زريق، وريم سعد، وآدم هنية، وياسمين معتز، وأيضًا كتابات ماكس أغل وكريستيان هندرسون.
يقدّم الكتاب إضافة نظرية ومنهجية لفهم وتحليل مسألة السيادة على الغذاء، إذ إننا نتجاوز التحليل الماكرو-سوسيولوجي (التحليل الاجتماعي على المستوى الكلي) المهيمن في معظم الدراسات المتعلقة بالمسألة الزراعية والغذائية في المنطقة، من خلال تقديم قراءة مركبة تجمع ما بين التحليل الجزئي والكلي، ودراسات الحالة في قرى محددة (قريتي أبوان في المنيا وهوارة المقطع في الفيوم) ومحاصيل معينة هي محاصيل البطاطس والبنجر والقمح والذرة.
يهتمّ الكتاب أيضًا بأشكال المقاومة والاندماج في السوق والعلاقات الجندرية داخل الأسرة المعيشية، وعلاقتها بخيارات الإنتاج والاستهلاك.
بهذه الطريقة يقدم الكتاب إضافة منهجية ونظرية للنقاشات حول الريف والزراعة في العالم العربي خصوصًا والجنوب العالمي عمومًا.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتكما الفكرية والإبداعية؟
(م. ص.): الكتاب هو استكمال لمشروعنا الفكري المرتبط بالاشتباك مع قضايا تمسّ حياة المواطنين اليومية، من خلال البحث والتحليل والعمل النظري والميداني والكتابة والترجمة والتشبيك. تظهر هذه التقاطعية بوضوح في قيام محمد رمضان على سبيل المثال بترجمة كتاب "نسوية من أجل الـ 99%" من تأليف نانسي فريزر، وتشينزيا أروتزا، وتثي باتاتشاريا، والذي صدر عن دار صفصافة عام 2020. وهو صنف من الكتب النادرة في المكتبة العربية، يعرض أفكارًا حول دراسة وتحليل، والاشتباك مع، قضايا النوع الاجتماعية والطبقة والعرق، هذا بالإضافة إلى اهتمامات رمضان ومقالاته المتعددة في الاقتصاد السياسي للزراعة والغذاء، والمنشورة في كتب مشتركة أو مواقع صحفية إلكترونية مثل مدى مصر وإضاءات وثمانية. أما صقر فاهتمامه أيضًا تتركّز حول قضايا الغذاء والزراعة، الأمر الذي ظهر في كتابه الأول "الأرض والفلاح والمستثمر: دراسة في المسألة الزراعية والفلاحية في مصر" والذي صدر عن دار المرايا عام 2017. بالاضافة إلى منشوراته في المجلات الأكاديمية أو المنشورة ضمن كتب مشتركة أو مواقع صحفية إلكترونية مثل مدى مصر والمنصة وجدلية.
باختصار، يمثل البحث انخراطًا مع قضايا المجتمع، مبنيًّا على تحليل الخطابات والممارسات، ما يفتح مجالات للحركة والتغيير الاجتماعي نحو مجتمع أكثر عدالة، من خلال طرح الأفكار وتحليل الواقع كما هو دون إضفاء طابع رومانسي أو مثالي عليه. ذلك كلّه يوجّه مشروعنا الفكري وهو الذي أدى لتقاطع مساراتنا وتشابك اهتماماتنا.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأملان أن يصل إليه القراء؟
(م. ص.): حاولنا أن يكون الكتاب مناسبًا لفئات عريضة من الجمهور المطلع والمهتم بالكتابات الاقتصادية والاجتماعية عمومًا. ولكنه يهمّ بشكل أساسي العاملين في حقل التنمية الريفية وصانعي السياسات، والمهتمين بقضايا الريف والزراعة ومستقبل السيادة على الغذاء في واقع يزداد تعقيدًا. كما أنه يعني طلاب الجامعات في كليات الزراعة والآداب، وأقسام الاجتماع والجغرافيا، بالإضافة إلى طلاب كليات الاقتصاد والعلوم السياسية.
لا نستهدف قرّاءً من مصر فحسب، إذ نأمل أن يُقرأ الكتاب على مستوى العالم العربي وأن يطرح مزيدًا من التساؤلات حول مستقبل النظم الزراعية وواقعها في دول المنطقة. وربما تتاح ترجمات في المستقبل لتوسيع النقاشات على مستوى الجنوب العالمي، فالأفكار التي يناقشها هذا الكتاب تعني غالبية دول الجنوب العالمي.
(ج): ما هي مشاريعكما الأخرى/المستقبلية؟
لدينا خطط مستقبلية في استمرار التعاون المشترك، وتوثيق التعاون مع المبادرة المصرية للتعاونيات، بالإضافة إلى الانخراط في فعاليات شبكة السيادة الغذائية لشمال إفريقيا، والتي تسعى إلى تشبيك الجهود على مستوى دول الشمال الإفريقي من أجل دعم الفلاحين وإقرار سياسات تحقق السيادة على الغذاء على المستوى الوطني والإقليمي.
مقتطفات من الكتاب
إن المنطق الذي يتبناه الفلاحون في إدارة أرضهم، وتصميم التركيب المحصولي، وتحديد الأولويات، مرتبط إذًا بأبعاد متعددة لا تقتصر على المفهوم الضيق للعائد الاقتصادي، وإن كان (أي هذا المنطق) لا يتم تجاهله تمامًا. فالفلاح يتعاقد بجزء من الأرض لزراعة البنجر مثلًا، ويزرع جزءًا منها للمنزل ويزرع جزءًا لإطعام الماشية، ويعمل على تدوير المحاصيل حتى يحافظ على التربة، ويخلط بين السماد العضوي والسماد الكيماوي لتوفير النفقات، ويستخدم العمالة المنزلية ويقلل من العمالة المأجورة كلما أمكن ذلك، وتسمح له الأرض بإتمام التبادل مع الفلاحين، سواء في تقاوي الخضروات أو في ناتجها النهائي.
رغم تغلّل السوق في العلاقات الزراعية يظل الهامش المرتبط بجزء من العمل الزراعي والخيارات المزرعية خارجًا عن سيطرة السوق. وهذا الهامش هو الذي يسمح لنا بالحديث عن إمكانات لتوجيه التحول نحو السيادة الغذائية. لم يخرج الإنتاج للاستهلاك المنزلي تمامًا من حسابات الفلاحين، بل ظلّ مكونًا أساسيًّا من مكونات التركيب المحصولي لدى الفلاحين الذين يملكون أقل من خمسة أفدنة. كما أن الاهتمام بإعادة إنتاج التقاوي في ما يتعلق بالخضروات التي تُستهلَك منزليًّا يمثّل ظاهرة جديرة بالملاحظة، ويرتبط بشكل أساسي بفكرة السيادة على الغذاء. هذه الرغبة الداخلية لتحقيق الأمان الغذائي في القمح والاستمرار في إنتاج أصناف تناسب إنتاج الخبز منزليًّا، والممارسات المتعددة لدى الفلاحين والفلاحات في تحقيق كفاية منازلهم وتوجسهم الدائم من السوق، هو ما نراه نواة أو كتلة صلبة لبناء السيادة الغذائية.
تلك الخيارات المزرعية والاعتبارات غير الاقتصادية التي يتبناها الفلاحون، وإعادة تعريف القيمة التي يقوم بها الفلاحون الصغار في مصر، تمثل لبنة في طريق بناء السيادة الغذائية. فكما أشرنا، يعبّر مفهوم السيادة الغذائية الذي تبنّته حركة طريق الفلاحين العالمية عن حق المجتمعات المحلية في غذاء صحي وملائم ثقافيًّا، يُنتَج من خلال أساليب صحيحة ومستدامة بيئيًّا، وحقها في تحديد نظمها الغذائية والزراعية. وتضع تطلّعات أولئك الذين ينتجون ويوزعون ويستهلكون الغذاء في قلب النظم والسياسات الغذائية، بدلًا من الطلب في الأسواق والشركات، وتدافع عن مصالح وإدماج الأجيال المقبلة. تقدّم الملاحظات الميدانية إذًا، تقاطعات مع مفهوم السيادة الغذائية، إذ يعطي هذا المفهوم مصالح المنتجين والمنتجات المحليين للغذاء الأولوية في تحديد الأنظمة الغذائية الملائمة لهم، ومن ثم فإنها تعمل على إعطاء الأولوية للمجتمعات المحلية والقومية للنفاذ للغذاء بصفتها منتجًا يحمل الخصوصية الثقافية والاقتصادية للمجتمعات، على عكس نظم الغذاء الحديثة التي تتجاهل تلك الحقائق.
يتضح لنا هنا أنه رغم سعي الدولة الدؤوب للإدماج الكامل للفلاحين في السوق العالمية، من خلال عدد من السياسات المركبة والتي يغلب عليها الطابع النيوليبرالي، إلا أن الفلاحين غالبًا ما احتفظوا بهوامش عديدة للمناورة ضد هذا الدمج الكامل. تلك المقاومة الصامتة واليومية لهؤلاء الفلاحين نابعة من انعدام الثقة العميق في آليات السوق في مصر. والخبرة التاريخية السيئة للفلاحين مع سياسات الدولة الزراعية وتعدد طرق استخلاص العائد منهم، جعلت اندماجهم جزئيًّا وحرصهم على تأمين بعض احتياجاتهم الغذائية الأساسية خارج قوى السوق.
كما أسلفنا، فإن الخيارات المزرعية الموجهة للاستهلاك الشخصي، وإعادة إنتاج مفهوم العمل التضامني بين الفلاحين، يعكسان هذا الانعدام الكبير للثقة بين الفلاح والسوق، وفي تلك الحالة بين الفلاح والدولة نفسها، التي يبدو دورها الأساسي في الحالة المصرية ليس فقط في عملية إنشاء السوق نفسها، وإنما رعاية الفاعلين الأساسيين في السوق (المحتكرين، سواء في القطاع الخاص أو الحكومي) للاستفادة القصوى من هؤلاء الفلاحين الصغار وأراضيهم القزمية للإنتاج من أجل المدينة والإنتاج من أجل التصدير.
لا ينفي هذا الهامش خضوع الفلاحين لقوى السوق بدرجة كبيرة، ومع ذلك، عبر الصدمات التي تلقاها الفلاحون، اكتسبوا شكلًا من أشكال التوجس حيال الدولة والسوق. هذا التوجس لا يعني انعدام الثقة أو رغبة في الانفصال التام كما يمكن أن يتصور البعض، ولكن علاقة حرص بألا يعتمد أو يتكل على أي منهما بشكل كامل في تأمين غذائه، ويحافظ لنفسه على هامش حركة، ولو كان محدودًا، في تأمين احتياجاته الغذائية الأساسية من الحبوب والخضروات والإنتاج الحيواني والداجني.