في سبعينيات القرن السابع عشر الميلادي، كان الرحالة العثماني الكبير أوليا جلبي يزور القاهرة، ضمن جولة استمرت لعشر سنوات (1672 - 1682)، ساح خلالها في مصر والبلدان الواقعة جنوبها حتى الحبشة. وفي التاسع والعشرين من شهر شعبان، عاين جلبي الموكب الضخم الذي كان يجوب شوارع العاصمة المصرية في ذلك الوقت من كل عام، احتفالاً برؤية هلال شهر رمضان، وعرف باسم «موكب المحتسب»، نسبة لـمحتسب القاهرة، المسؤول عن الرقابة على أسواق المدينة، والذي كان يقود الموكب رسمياً.
في ختام وصفه الحافل والملون للموكب، والذي أودع لاحقاً القسم المصري من رحلته الطويلة المسماة «سياحتنامه»، أكد أوليا جلبي أن المدافع في قلعة الجبل، وفي حال ثبوت رؤية الهلال، كانت تطلق قذائفها أربعين طلقة أو أكثر فرحاً بقدوم رمضان، حتى «تهتز السماء والأرض».
تعد إشارة الرحالة العثماني إلى «مدفع الإثبات»، واحدة من أقدم السجلات التي نملكها اليوم حول استعمال المدفع في الاحتفال بشهر رمضان. وهي لا تقدم لنا فحسب غرضاً مغايراً للمدفع يخالف مدفع الإفطار الشهير الذي ينبه جمهور الصائمين بحلول موعد الإفطار يوميا طوال الشهر، والذي لا يزال يقاوم الزمن في العديد من الأقطار الإسلامية، وإنما تجبر كذلك على طرح النظريات الثلاث الشائعة حول مدفع رمضان أرضاً. وهي التي ترجح ظهوره لأول مرة في مصر عن طريق «الصدفة البحتة» على يد المماليك، أو أحد أفراد أسرة محمد علي باشا (1805 - 1952).
على العكس من ذلك، يذهب المقال الحالي، ومن خلال سوق النصوص التي تضمها مجموعة من المصادر المنتمية إلى الحقبة المملوكية - العثمانية، ثم إلى فترة ما بعد التحديث في الشرق الإسلامي خلال القرن التاسع عشر الميلادي، إلى أن مدفع رمضان، لم يرتبط بأي حال بـ «صدفة» دفعته للتحول إلى مظهر ملازم للشهر، وإنما انتمي في الحقيقة إلى تقليد تاريخي طويل ومنظم أسسه العثمانيون، قام على الاستخدام الواسع لبارود المدافع في الاحتفالات المختلفة، ومن بينها شهر رمضان.
كما أنه من ناحية أخرى، ولأن أوليا جلبي قدّم لنا بفضول الرحالة الغريب، التفاصيل الأغزر على الإطلاق حول موكب المحتسب، مقارنة بـالإشارات المقتضبة في التواريخ المصرية، والتي كتبها مؤرخون وطنيون لم يظن الواحد منهم أن تقليد الموكب سوف يتحول يوماً ما إلى جزء من الماضي، فإن المقال في توسعة لأغراضه، سوف يستعين بوصف جلبي لمهرجان الرؤية، في التأريخ للبروليتاريا المصرية قبل الحديثة، والمعروفة بـ «طوائف الحرف»، والتي كانت أحد أبرز ضحايا التحديث في مصر القرن التاسع عشر. وذلك إيماناً بأن الهيمنة التي مارستها تلك الطوائف لقرون على موكب المحتسب، ثم نزعها منها بأمر الدولة الحديثة، يعد في الحقيقة سرداً موازياً لسيرة ازدهار واندثار الطبقة الوسطى المصرية القديمة، والتي كان الإعلان عن وفاتها، إيذاناً بولادة مجتمع جديد في مصر، لا تزال الأخيرة تعيش تجلياته إلى اليوم.
«موكب المحتسب»
وفقا لما سجله المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي في عمله الطبوغرافي العمدة، الخطط (الجزء الثاني، بتحقيق أيمن فؤاد السيد، ص591 وما بعدها)، فإن موكب المحتسب كان المقابل السنّي الذي حل في مصر عقب سقوط الفاطميين، موضع الموكب الكرنفالي الشيعي المعروف بـ «ركوب الخليفة الفاطمي»، والذي كان يقوم به الخليفة في أول أيام شهر رمضان، بحضور قطاعات المجتمع المديني في القاهرة، وعلى رأسها طوائف الحرف.
رغم تلك المقابلة المذهبية الحادة، فإن إشارات وردت عند المؤرخ المصري ابن إياس، في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، تؤكد أن المماليك حافظوا على تقليد الاحتفال الفاطمي بغرة رمضان، ولكن بعد انتزاع معظم الأبهة منه ومنحها إلى موكب رؤية الهلال في التاسع والعشرين من شعبان.
فبدلا من «شق القاهرة» على طريقة الخليفة الفاطمي، كان السلطان المملوكي يكتفي بالنزول إلى الميدان الرئيسي لقلعة الجبل، والاطمئنان من المحتسب على توفّر السلع الغذائية الأساسية التي يستهلكها المصريون بكثافة طوال الشهر. ثم يسمح للمحتسب بعد ذلك بالهبوط من القلعة، والسير في شوارع القاهرة لنقل رسالة الطمأنينة نفسها إلى الجماهير.
أما موكب رؤية الهلال، فقد احتفظ ابن إياس نفسه، وعبر مواضع متفرقة من «بدائع الزهور» بصورة لنسخته المملوكية. ووفقاً له، كان المحتسب يخرج رفقة القضاة الأربعة إلى مدرسة المنصور قلاوون، أو المدرسة المنصورية في شارع النحاسين (شارع المعز حاليا)، لاستطلاع هلال شهر رمضان من فوق منارتها العالية (يشير بعض المؤرخين إليها كمنارة المارستان المجاور، وهو منسوب كذلك إلى المنصور قلاوون). فإذا ثبتت الرؤية، كان المحتسب يخرج في موكب احتفالي، تحمل فيه عامة الناس الفوانيس والمشاعل، ولا ينتهي سوى أمام أبواب بيته.
استمر موكب المحتسب في الانعقاد بالقاهرة المملوكية بصفة منتظمة، ولم يتوقف إلا نتيجة وقوع حوادث خطيرة. فقد مرت ليلة رؤية هلال رمضان سنة 922 هـ/ 1516 حزينة دون الأفراح المعتادة، بعد أن حلت عقب وقت قصير من بلوغ القاهرة أنباء هزيمة المماليك أمام العثمانيين في معركة مرج دابق شمال الشام. ولكن حتى في تلك الحالة، لم يعني الأمر تجميداً طويلاً لموكب المحتسب، لأنه بمجرد قدوم السلطان العثماني سليم الأول إلى مصر، وانتصاره مرة أخرى على المماليك في معركة الريدانية، ثم إعدامه آخر سلاطينهم طومان باي فوق باب زويلة، عاد الموكب للسير من جديد في شوارع المدينة خلال العام التالي (رمضان 923 هـ/ 1517). وقد أشار ابن إياس إلى قيادة الزيني بركات بن موسى - وهو محتسب القاهرة الشهير الذي منحه الأديب المصري جمال الغيطاني خلوداً سلبياً في الذاكرة المصرية برواية عن وقائع الغزو العثماني تحمل اسمه - الموكب في بهرجة زائدة، ربما تعبيراً عن سلطة العثمانيين، السادة الجدد لمصر.
«بهجة البارود»
لا يظهر المدفع في مواكب المحتسب المتعاقبة خلال عصر المماليك، رغم معرفة الأخيرين الوثيقة بالبارود وسلاح المدفعية. وحتى السلطان المملوكي خشقدم (1460 - 1467) الذي تنسب إليه بعض الروايات اختراع مدفع الإفطار في رمضان بالصدفة، لا تظهر المدافع في الحوليات الخاصة بعهده - عند جمال الدين أبو المحاسن مثلا - سوى كآلة قتل مدمرة استعملت في الحرب الأهلية بين المماليك في شوارع القاهرة. والظاهر أن سلاطين المماليك آثروا الإبقاء على دق الطبول (الكوسات) من قلعة الجبل، كوسيلة تقليدية للاحتفال بشهر رمضان، وغيره من المناسبات الدينية أو الاجتماعية. ولم يستعينوا بالمدافع في الكرنفالات سوى خلال حالات محدودة، على شاكلة الاحتفال الذي أقامه السلطان قانصوه الغوري في مرفأ بولاق، بعد انضمام سفن جديدة إلى الأسطول المصري (ابن إياس، الجزء الرابع، ص 142).
على نقيض ذلك، توسع العثمانيون جداً في الاحتفال بطلقات المدافع، وهم الذين عدت دولتهم من قبل المستشرق الأمريكي مارشال هودجسون، واحدة من إمبراطوريات البارود الثلاث في الإسلام، إلى جانب الدولة الصفوية في إيران، والإمبراطورية المغالية في الهند. والمطلع على المصادر التاريخية المختلفة من العصر العثماني، ومن أقطار مختلفة خضعت لإرادة إسطنبول، يمكنه بسهولة أن يلاحظ استخدامات كرنفالية لا حصر لها للمدفع.
ففي مصر على سبيل المثال، عدد أوليا جلبي اثنا عشر موكباً احتفالياً في القاهرة، كانت المدافع تدوي فيها جميعاً، صحبة عرض رائع - ولكنه خطير في الوقت نفسه - للألعاب النارية يعرف باسم «شنك الصواريخ». كان من ضمن تلك المواكب، الاحتفالات الصاخبة بوفاء النيل، وكسر الخليج القاهري، ورؤية هلال رمضان، والعيدين: الصغير (الفطر) والكبير (الأضحى)، وموكب كسوة الكعبة. كما استخدم المدفع أيضاً لتنبيه الجماهير بوقوع أحداث سياسية وعسكرية مهمة. مثل الإعلان عن تنصيب الوالي العثماني الجديد، أو التجديد له، أو حتى عزله، وكذلك في توديع الجيوش الخارجة للحرب، أو للاحتفال بعودتها مظفرة.
كانت تلك الاستعانة المكثفة بالمدفع، والتي يمكن أن ندعوها بـ «بهجة البارود»، تعبيرا عن رغبة عثمانية في «عصرنة» مبدأ الكرنفال نفسه، من خلال اعتماد صخب القذائف بدلا من الأصوات الهادرة للطبول. كما أنها يمكن أن تعتبر كذلك، احتفاءاً رمزياً من العثمانيين بسلاحهم الفتاك الذي نجحوا في ترويضه، وامتطوا طلقاته إبان عصر بطولتهم العسكرية، لتحقيق أبرز الانتصارات في البر والبحر.
وبالنسبة لاحتفالات رمضان تحديداً، فإن إشارات أخرى متفرقة، تؤكد المنشأ العثماني - خلال تاريخ نجهله بدقة - لإطلاق المدافع احتفالا بالشهر، سواء في مصر أو غيرها من الولايات. ففي مواضع أخرى من (سياحتنامة)، أشار أوليا جلبي إلى إطلاق دانات المدافع في مدينة بورصة التركية عقب الإعلان عن ثبوت هلال رمضان، كما أنه أكد احتفال البحرية العثمانية بالمناسبة نفسها من خلال إطلاق مدافعها. وفي دمشق منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، كان المؤرخ الشعبي أحمد البديري، والمعروف بـ حلاق دمشق، حريصا في حولياته التي غطت أكثر من عقدين من الزمن (1741 - 1762)، على الحديث عن إطلاق «مدفع الإثبات» من قلعة المدينة، كلما شوهد هلال رمضان في سمائها. وأخيراً، فإن الروايات المخزونة في الذاكرة الشعبية إلى اليوم، في المدن التي كانت يوماً ما عثمانية، مثل القدس وتونس والجزائر وبغداد، تؤيد الطرح نفسه.
موكب الجماهير
رغم ذلك، بقيت القاهرة وحدها، ولا تزال، المدينة التي تجمعها ببهجة البارود في رمضان علاقة خاصة. لأن مدفع الإثبات فيها ألحق بموكب المحتسب، الاحتفالية ذات الصيت الشعبي الكاسح داخل الخيال الجمعي للمصريين، والتي كانت قد تحولت قبل دخول العثمانيين بفترة طويلة، إلى تقليد اجتماعي يحرص عليه أهل القاهرة سنوياً في شوارع مدينتهم.
وفقا لـ أوليا جلبي، احتل موكب الرؤية في مصر العثمانية، المرتبة الثالثة في قائمة الاحتفالات الرسمية بالبلاد. مباشرة بعد مهرجانات فيضان النيل، التي كانت تحتفي بالنهر المانح لمصر مصدر حياتها الأساسي. وعلى العكس من احتفالات النيل التي كانت نخبوية - شعبية مزيجة، يحضرها بالضرورة الباشا العثماني وكبار رجاله، كان موكب الرؤية كرنفالاً شعبياً بامتياز، تمتلكه الجماهير المصرية العادية، وتموله من رأس مالها الخاص، ولا يظهر فيه أحدٌ من الموظفين الرسميين، بخلاف المحتسب نفسه، ومعه الصوباشي الذي يشار إلى وظيفته في نص جلبي كـوكيل للسلطان العثماني في القاهرة. كما لم يكن مدعواً إلى الموكب أعيان مصر ووجهائها، من العلماء ومشايخ الطرق الصوفية والتجار.
كان هذا يعني أن العثمانيين فضلوا الإبقاء على الروح الجماهيرية التي ألفوها موجودة أصلا لـموكب المحتسب. وإن أبدوا حرصاً في الوقت نفسه على إضافة بعض الترتيبات فوق المهرجان الكبير، شددت في رمزيتها على السلطة السياسية والتشريعية العليا للعثمانيين فوق مصر.
ففي نسخة الموكب التي شاهدها جلبي، أصبح على محتسب القاهرة الصعود أولاً إلى قلعة الجبل قبل بداية الموكب، للقاء الوالي العثماني في ديوان الغوري بالقلعة، وأخذ إذنه لرصد الهلال، بدلاً من التوجه مباشرة رفقة القضاة الأربعة على المذاهب السنية إلى المدرسة المنصورية والرصد كما كان في الزمن المملوكي. وبعد حصوله على موافقة الباشا، كان المحتسب يبدأ موكبه الحافل رفقة الصوباشي، وقادة وجنود الوجاقات السبعة (الفرق العسكرية العثمانية) في مصر، متخذاً من الساحة أمام جامع المحمودية (جامع محمود باشا في ميدان محمد علي حاليا) نقطة الانطلاق للموكب الشعبي.
كما أن القضاة الأربعة أنفسهم، أصحاب النفوذ المؤثر في الماضي المملوكي، لم يعد لهم أصلاً حق المشاركة بشكل رسمي في موكب المحتسب، وتحولوا بدلاً من ذلك إلى هيئة استشارية شرعية يستعين بها قاضي العسكر العثماني على المذهب الحنفي، المذهب الرسمي للدولة العثمانية، في رصد الهلال من فوق منارة قلاوون. وفي تدليل على سيادة الجهاز الديني العثماني في مصر، كانت كلمة قاضي العسكر وحدها، بثبوت الرؤية أو عدمها، والتي يبلغها للمحتسب عند وصول الموكب أمام داره المعروفة إلى الآن ببيت القاضي في منطقة بين القصرين، هي التي تحدد مصير اليوم، سواء بالاحتفال والتجهز لاستقبال شهر رمضان، أو الانتظار يوماً آخر، متمماً لشهر شعبان.
بخلاف تلك الإجراءات الجديدة، ظل موكب المحتسب خالصاً للمصريين. يحضره جميع من في القاهرة تقريباً حتى تفرغ البيوت من ساكنيها. ويشارك فيه ممثلون عن جميع أطياف الشعب المصري العامل، حتى الفلاحين من الأقاليم البعيدة عن العاصمة، والذين ساروا - كما يقرر أوليا جلبي - في طليعة الموكب كأول الأطياف الشعبية الممثلة، تكريما لتاريخهم كأقدم فئة منتجة على الإطلاق في مصر. وهذه معلومة مدهشة في دلالاتها، خاصة إذا ما قورنت بموجات التنمر الواسعة التي شنها أدباء القاهرة ضد الطبقة الفلاحية خلال القرن السابع عشر نفسه الذي عاين فيه الرحالة العثماني كرنفال الرؤية (أنظر مثلاً: هز القحوف بشرح قصيد أبي شادوف، ليوسف الشربيني).
بروليتاريا «متعسكرة»
كانت طوائف الحرف في الحقيقة، وهي الكتلة الحرجة والنشيطة في القاهرة، والتي مثلت جزءاً بالغ الأهمية من الطبقة الوسطى المنحصرة بين النخبة العثمانية الحاكمة والطبقات الدنيا البليدة والخطرة، هي الأكثر لفتاً للانتباه في موكب المحتسب. بما أنها مولته أولاً، واستأثرت ثانياً باستعراض قوتها الاقتصادية والاجتماعية - بل والسياسية حتى - خلاله. حتى أن البهرجة الزائدة من الحرفيين في الاحتفال، كانت هي التي دفعت أوليا جلبي إلى المبالغة باعتبار موكب المحتسب أعظم مهرجانات العالم على الإطلاق. كما أنه اعتبر الموكب من جهة أخرى، ونتيجة التمثيل العام لطوائف الحرف فيه، حتى أكثرها احتقاراً في الخيال المصري (الجزارون والدباغون مثلا)، أو أكثرها إثارة للحنق الديني (بائعو النبيذ والخمور من أهل الذمة)، فرصة مثالية لرصد حجم الطبقة المصنعة في مصر، من حيث قوتها البشرية والانتاجية.
تمثل تلك الإحصاءات التي قدمها جلبي عن البروليتاريا المصرية في القرن السابع عشر، والتي جاءت على هامش وصفه لموكب المحتسب، أحد الأدلة الداعمة للأطروحات التي قدمها المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون، وتابعتها بعده المؤرخة المصرية نيللي حنا، حول نمو طوائف الحرف في العصر العثماني، في طرح عكسي للسرديات القومية السائدة حول اضمحلال تلك الطوائف خلال العصر نفسه.
كانت دراسات ريمون - حنا، واستناداً على سجلات المحكمة الشرعية في القاهرة، قد قالت باستفادة «صنايعية مصر» المزدوجة من استيلاء العثمانيين على الشرق الإسلامي إبان القرن السادس عشر الميلادي. فمن ناحية، ساهم النجاح العثماني في إعادة إغلاق البحر الأحمر أمام الخطر البرتغالي، والوجود الأوروبي عموماً، وما أتبع ذلك من تأمين عمليات الشحن التجاري الإسلامي مع الهند، في إعادة ربط المنتجات التي كانت البروليتاريا المصرية تنتجها بالاقتصاد العالمي من جديد. ومن ناحية أخرى، كان تحول القاهرة إلى واحدة من مدن الإمبراطورية العثمانية، وإن أفقدها ميزتها كعاصمة مركزية كما كانت في عصر المماليك، قد أفاد طوائف الحرف في ضمان تصريف منتجاتها داخل السوق الداخلية الضخمة للإمبراطورية العثمانية.
لكن، وكبحاً لجماح تلك النظرة الرومانسية، يؤكد أندريه ريمون أن البروليتاريا ظلت رغم كل نشاطها، تشغل حيزاً محدوداً من البنية الاقتصادية العامة في مصر، وتمتلك قدراً محدوداً من رأس المال المتراكم، في مقابل النخبة البرجوازية التي مثلها التجار، من الذين احتكروا تجارة البن والتوابل مع أوروبا، واستحوذوا على معظم أرباح الاقتصاد المصري. وكان على أعضاء طوائف الحرف من الطامحين إلى تحقيق ثروات أكبر، والراغبين في الانعتاق من تذبذب الوضع المالي للطبقة الوسطى، أن يلتحقوا - كما أوضحت نيللي حنا في دراستها «حرفيون ومستثمرون» - بالعمل في التجارة المربحة لاقتصاد المحيط الهندي.
كانت أحد العوامل التي خففت من وطأة الحقائق السلبية السابقة على طوائف الحرف، أنها استفادت من "عسكرة الاقتصاد" التي قام بها العثمانيون في مصر منذ أواخر القرن السادس عشر الميلادي. فنتيجة تراخي القبضة المركزية في إسطنبول خلال ذلك الوقت، عقد الباشوات الولاة في قلعة الجبل تحالفاً وثيقاً مع تجار القاهرة، أنجز الطرفان على أساسه صفقات ضخمة بعيداً عن أعين السلطنة. وفي سياق موازٍ، وقع تحرك مزدوج - كما يقول ريمون - بين البروليتاريا وأعضاء الوجاقات العثمانية في مصر، حيث انضمت أعداداً كبيرة من تلك الأخيرة إلى طوائف الحرف المختلفة وانتسبوا إليها، مستغلين الفرمان العثماني الذي سمح للجنود العثمانيين بالتكسب وطلب الرزق إلى جانب مهماتهم القتالية. بينما أعلن الصنايعية المصريين انتمائهم إلى أحد الوجاقات للحصول على حمايتها، مستفيدين من تعديل نظام التجنيد في السلطنة، والذي سمح بقبول أبناء المسلمين الأحرار للانضمام إلى الجيش العثماني، بدلا من المسترقين البيض المجلوبين من البلقان.
تسويات السلطة
ألحق هذا التحول الخطير في البناء العسكري والاقتصادي المصري، والذي تكرر في الحواضر العثمانية الأخرى، الضرر بالنظام العسكري العثماني العام، بعد أن أفقده روحه الحربية الخالصة، وأحال أفراده من مقاتلين لا هم لهم سوى تحقيق النصر، إلى مجموعة من المنشغلة قلوبهم في الحرب، بأرزاق خلفوها ورائهم في المدينة. ولكن التحول نفسه، وفي نفعية لحظية، كان مفيداً للحرفيين في القاهرة، بعد أن أصبحوا الآن يمتلكون تحالفاً مقابلاً لحلف الباشوات - التجار. هذا الحلف - وإن كان أقل قوة وثراءاً من نظيره – منح الصنايعية نفوذاً لا ينكر في المدينة، إضافة إلى «موقع ما» داخل الفضاء السياسي العثماني بمصر.
نظرت طوائف الحرف إلى موكب المحتسب، والذي كانت تتوارث ملكيته منذ قرون، كفرصة للتفاخر بموقعها ذاك. وهو ما يفسر عرضها العسكري المتبجح في الموكب الذي شاهده أوليا جلبي خلال الربع الأخير من القرن السابع عشر، والذي ظهر فيه أعضاء الطوائف مرتدين السلاح الكامل، رغم مشاركة ممثلين عن الحامية العثمانية في القاهرة، كانت طوابيرهم تنهي مسيرات المهرجان.
إن ظهور البروليتاريا المصرية على هذه الصورة في الموكب، وكذلك احتكارها للاحتفال تقريبا، كان في حقيقته لوناً من التسوية الرمزية التي قبلت بها السلطة العثمانية في القاهرة بين الأطراف الفاعلة في البلاد، ومنحت على أساسها الجزء النشيط والمستقيم من الشعب فرصة للتعبير عن قوته الذاتية دون مزاحمة. وقد كان من حسن طالع أوليا جلبي - وطالعنا كذلك - أنه شاهد مهرجان الرؤية في واحدة من فترات الازدهار التي عاشتها طوائف الحرف في الزمن العثماني. وبالتالي، جاء وصفه قياسياً، يمكن مقارنته بالفترات اللاحقة التي سوف تشهد، ونتيجة تغيرات سياسية مختلفة العمق والتأثير، تفريغ موكب المحتسب المستمر من المعاني الحقيقية التي كان يشير إليها، وتحوله إلى كرنفال مجرد، أو عادة اجتماعية تمارس بصورة ميكانيكية دون أن يكون لها مغزى.
المعارضة والثورة
ففي السنوات اللاحقة لرحيل أوليا جلبي عن مصر، تضافرت مجموعة من العوامل التي أصابت قوة الأحلاف المتقابلة في المجتمع المصري بالضعف المتفاوت. فمن ناحية النخبة الحاكمة، تهاوت سلطة الباشوات العثمانيين بحدة في القاهرة، نتيجة التراجع المتنامي للمركزية العثمانية نفسها، وصعدت محلها بيوتات مملوكية أصبحت هي السيد الحقيقي في القاهرة. وبحلول العام 1760، الذي يميزه المؤرخ الأمريكي بيتر جران كبداية تقريبية للتحول الرأسمالي في مصر، ظهرت فئة جديدة من المماليك، كان أشهر أفرادها علي بك الكبير (1767 - 1773)، عمدت إلى إنهاء الوجود العثماني في مصر بشكل كامل، ونجحت في ذلك فعلا تحت قيادة علي بك، ولكن لفترة قصيرة لم تدم أكثر من أربعة أعوام.
رغم فشل مشروع علي بك الكبير، ورجوع القاهرة إلى حوزة السلطنة العثمانية، فإن كل الظواهر كانت تشير إلى اندثار سلطة الباشوات للأبد، وتحولها إلى ظل شبحي أمام السيادة المتكاثفة لبكوات المماليك فوق الاقتصاد والسياسة في مصر.
أصبحت طوائف الحرف أحد أكثر أطياف المجتمع المصري تضرراً من ذلك التحول الكبير، بما أنها خسرت أولاً حلفاءها الأقوياء في الوجاقات العثمانية، والتي أصبحت هي الأخرى منقادة تابعة للمماليك. وثانياً بعد أن صعقت أفراد الطوائف نفسها سياسات الاحتكار والابتزاز المملوكية.
أفرزت تلك الأوضاع اضطراباً خطيراً في حياة البروليتاريا المصرية خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي، وتكررت ثوراتها في القاهرة ضد المماليك، بعد أن تحالفت مع علماء الأزهر، الذين كانوا كذلك من فئات الطبقة الوسطى المتضررة من النظام المملوكي.
وقد أدرك نابليون بونابرت عندما غزا مصر في العام 1798 مصطحباً قوات الحملة الفرنسية، حقيقة الغليان الاجتماعي الذي أحدثه ذلك التحالف (طوائف الحرف - علماء الأزهر) في القاهرة، وسعى إلى ضمه لصفوفه ضد النخبة المملوكية. وهذا يفسر حرص بونابرت على حضور موكب المحتسب الذي أقامته طوائف الحرف احتفالاً برؤية هلال رمضان سنة 1213هـ /1799 بنفسه. وعلى الرغم من عدم ثبوت ميل البروليتاريا في القاهرة إلى الفرنسيين، أو تحالفهم الفعلي معها، فإن إشارة الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، إلى التأنق الزائد في ذلك الموكب تحديداً، توحي بأن تفاهماً جزئياً وغير مكتمل ربما وقع بين طوائف الحرف والفرنسيين. كما أن حديث الجبرتي اللاحق عن إنفاق مشايخ تلك الطوائف لخمسين ألف درهم كاملة على موكب المحتسب في العام 1215 هـ/1801، أي بعد خروج الفرنسيين من مصر وعودة البلاد إلى السطوة العثمانية - المملوكية، من الممكن أن يقرأ في سياق محاولة البروليتاريا المصرية، الإفلات من تهمة التعاون مع الغازي الأجنبي. وكانت تلك تهمة وجهها العثمانيون والمماليك لبعض أبناء الطبقة الوسطى في مصر، ومنهم الجبرتي نفسه، الذي ألف كتابه (مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس) لإزالة الشبهات عن نفسه، كما يشير شموئيل موريه في مقدمة تحقيقه لـ «عجائب الآثار».
بروليتاريا «محطمة»
وإذا كانت طوائف الحرف قد أفلتت من كل تلك التقلبات السياسية الحادة في انعطافة القرن التاسع عشر، فإن السنوات التالية في الحقيقة، والتي شهدت إقامة محمد علي باشا دولة جديدة في القاهرة، اختلفت تماماً عن كل الأنظمة السابقة، كانت هي التي جلبت فصل الختام المحزن في حياة البروليتاريا المصرية قبل الحديثة، ومعها موكب المحتسب.
ففي «الدولة» التي أراد الباشا أن تكون استنساخاً للتجربة السياسية الأوروبية الحداثية، والتي تؤمن بإعادة تشكيل الذات الفردية وإخضاعها إلى الدولة وحدها، معتبرة كل أشكال الأخويات المستقلة والجمعيات النقابية الحرة منافساً واجب الإزاحة، لم يكن من الممكن لطوائف الحرف أن تجد موطئ قدم لنفسها كي تستمر.
تحول محمد علي باشا بناظره نحو طوائف الحرف، بعد أن تخلص بالدم والمكيدة من النخبة المملوكية، وسلطة علماء الأزهر، وشرع في سياسة بعيدة هدفها الدمج القسري للبروليتاريا في مشروعه الكبير. وعبر التدخل في تعيين مشايخ الطوائف، ومراقبة تصرفات أعضائها، ومنع بعض الحرف أصلاً من الاستمرارية بعد احتكار حق العمل فيها حصراً لصالح مصانعه المنشأة حديثاً، وتحويل جزء من الحرفيين إلى العمل في تلك المصانع نفسها، وإنهاء احتكار الطوائف لتقنياتهم الصناعية، استطاع الباشا أن يمهد الأرض لتحطيم حرية الصنايعية المصريين إلى الأبد.
وسط ذلك كله، كان من الطبيعي أن يصبح موكب المحتسب، برمزيته الخاصة بالنسبة لطوائف الحرف، والتي أدركها محمد علي جيداً، هدفاً آخر للدولة الحديثة، كي تؤكد سحقها كل استقلالية ممكنة للطوائف. ورغم الأسف لوفاة الجبرتي في العام 1822، وعدم معاصرته تلك اللحظة التاريخية في عمر الموكب، التي استبدل فيها محمد علي رمزية المهرجان الأصلية بأخرى تشير إلى سلطته، فإن الأقدار شاءت أن يحتفظ لنا رحالة جديد، هو الإنجليزي إدوارد وليم لين (1801 - 1876)، ببعض التفاصيل عن ذلك التحول الحاسم في مصير موكب الرؤية، ومعه مصير طوائف الحرف برمتها.
زار وليم لين القاهرة مرتين، الأولى في العام 1825، والثانية بين عامي 1833 و 1835. وقد دون رحلته في كتاب شهير ومهم سماه (عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم)، اعتبره إدوارد سعيد أحد كتابات الاستشراق المؤسسة للشخصية الشرقية المنمطة في الذهنية الغربية.
في نص الرحلة، وأثناء حديثه عن موكب المحتسب، أكد وليم لين حرمان طوائف الحرف، والتي يسميها صراحة بـ «الطبقة الفقيرة»، من القيام بعرضها العسكري المعتاد في المهرجان، مشيراً إلى استبدال محمد علي باشا ذلك العرض، بآخر يقوم به مشاة الجيش المصري.
لا يقدم لنا الرحالة الإنجليزي تاريخاً دقيقاً لإلغاء ظهور الصنايعية المصريين في الموكب. ولأن دخوله الأول لمصر، جاء بعد عام واحد من إنشاء محمد علي الجيش المصري الحديث، من مادة بشرية شكلها الفلاحون المصريون الذين جندوا جبرياً، فإن الاحتمالات تبقى مفتوحة. فربما اعتبر الباشا موكب رؤية هلال رمضان سنة 1240 هـ/1825 فرصة لاستعراض انضباط ونظام قواته المشكلة حديثا أمام الجماهير. وربما تأخر ذلك التعديل إلى ثلاثينات القرن التاسع عشر، التي حقق خلالها الجيش المصري انتصارات عسكرية رائعة على الجيش العثماني في بلاد الشام، ويكون وليم لين وفقا لذلك، قد أسس حديثه عن موكب المحتسب، بناءاً على مشاهدة نسختين مختلفتين منه في شوارع القاهرة.
أيا ما كانت الحقيقة، فإن الملاحظة البارزة التي وردت في (عادات المصريين)، كانت تشير إلى رغبة محمد علي في التأكيد على سلطة الدولة، والتي اعتبر الجيش النظامي الجديد نموذجها الأعلى. ولا شك أن قرار الباشا بعزل طوائف الحرف عن موكب المحتسب، وعزل الموكب عن الطوائف، كان له وقع سلبي عميق على المصريين، الذين فقدوا الآن رسمياً ملكية مهرجانهم الأثير، وحرموا من استعراض قوتهم خلاله - حتى لو أصبحت تلك القوة غير حقيقية - لصالح نسخة أخرى كئيبة، احتكرت فيها الدولة حق التفاخر بقدراتها على الحشد والتجنيد، والأهم، السيطرة.
ورغم أننا لا نعلم مرة أخرى، الموعد الذي ألغي فيه موكب المحتسب بصورة نهائية، فإن عصر التحديث الثاني في مصر القرن التاسع عشر، أي عصر الخديوي إسماعيل، ربما كان هو الذي أعلن خلاله سقوط احتفال رؤية الهلال من الأجندة الرسمية والشعبية في القاهرة. ففي كتاب «الحياة الاجتماعية في مصر» للمؤرخ والأثري الإنجليزي ستانلي لين بول، والذي زار مصر في العام 1883، أي بعد عام واحد من الاحتلال البريطاني، لا ترد أي إِشارة إلى موكب الرؤية ضمن الاحتفالات الجماهيرية الحية في البلاد. وقد أفرد لين بول سطورا مهمة في الكتاب نفسه حول إلغاء بعض الفقرات في احتفالية المولد النبوي ابتداءاً من عهد إسماعيل، بتهمة همجيتها وبعدها عن التحضر، توحي بأن موكب المحتسب - ومعه منصب المحتسب نفسه - غيب رسميا في الفترة ذاتها، بعد أن أصبح معاكساً للروح الحديثة لدولة كانت آخذة في التغريب بوتيرة مرتفعة.
أما طوائف الحرف، فقد فرض عليها بعد فشل التحول الصناعي لمحمد علي، أن تقاوم وحيدة إغراق السوق المصرية بالصناعات الأوروبية حتى نهاية القرن التاسع عشر. ثم أجبرت العديد من الطوائف على حل نفسها ذاتياً بعد صدور ضريبة المهن الحرة في عام 1890، والتي عجزوا عن سدادها. بينما استمرت البقية الباقية من الطوائف تقاوم حتى فترة الحرب العظمى (1914 - 1918)، لتختفي بعدها نهائيا من بنية الاقتصاد المصري.
وبينما ماتت البروليتاريا المصرية قبل الحديثة على تلك الصورة، وجرد موكب المحتسب قبل ذلك من كافة معانيه، حتى تبدد هو نفسه، كانت بهجة البارود، رفقة مظاهر احتفالية أخرى، مثل تزيين الشوارع، وإضاءة الجوامع، هي التي بقيت من احتفالات الزمن القديم بشهر رمضان. وبدلا من مدفع الإثبات الذي كان يطلق في خاتمة الموكب الملغى، أصبحت مدافع تطلق وقت الإفطار والسحور والإمساك (أحمد أمين، قاموس العادات والتقاليد، مادة مدفع)، تشير تقارير إلى نشأتها لأول مرة في تركيا العثمانية العام 1821، ثم انتقالها خلال الربع قرن التالية إلى بقية الأقاليم العثمانية، هي التي تربط بين شهر رمضان والخيال الإسلامي العام، ولكن من دون حمولات سياسية، أو شوارع يحتشد فيها الصنايعية وهم في سلاحهم الكامل، يتبادلون النكات في سعادة، ويلوحون بملكيتهم في وجه السلطة.
المصادر
تقي الدين المقريزي، المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار
جمال الدين أبو المحاسن، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور
أوليا جلبي، الرحلة إلى مصر والسودان والحبشة
عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار
الشيخ أحمد البديري الحلاق، حوادث دمشق اليومية
إدوارد وليم لين، عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم
ستانلي لين بول، الحياة الاجتماعية في مصر - وصف للبلد وأهلها
أندريه ريمون، الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر
نيللي حنا، حرفيون ومستثمرون، بواكير تطور الرأسمالية في مصر
بيتر جران، الجذور الإسلامية للرأسمالية، مصر (1760 - 1840)
عبد السلام عامر، طوائف الحرف في مصر (1805 - 1914)
أحمد أمين، قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية
تعرف على قصة مدفع إفطار رمضان وما أول مدينة استخدمته؟، تقرير موقع العربية
kallie szczepanski, the gunpowder empires: ottoman, safavid, and mughal