(العالمُ سماءٌ احتشدت فيها الغيوم الحبلى بأطفال السراب، تمطرُ على البحار والأنهار، وتبقى الصحراء تغرقُ في عطشها)
قالها وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء بحسرةٍ ظاهرة، ثم أردف (يضطر الإنسان إلى محاربة ذاته الطالبة للحياة، ويعلّمها كيف تتأقلم جوهرياً مع الألم، كيلا يصبح رماد حريق الخيبة).
أول مرةٍ رأيته فيها كانت قبل أربع سنوات، حين أوصاني بشراءِ عشر عُلَب سجائر، دخلت خيمته، كان وحيدًا، وأشباح الغائبين تحيط به فيبتسمُ لصورٍ بالأبيضِ والأسود مُعَلَّقةٌ على جدار خيمته.
الصورة الأولى: يقفُ مام درويش لابسًا زيّه العسكري الخاكي، بيده كلاشنكوف، مذيّلة بتاريخ الصورة، 1985م، الحرب العراقية-الأيرانية.
الصورة الثانية: يقفُ ببدلةٍ رسميّةٍ باللَّون الرمادي بجانب إمرأةٍ تلبسُ الأبيض، زوجته، تداعب فستانها بقلقٍ وخجلٍ، تعتقلُ ابتسامةً تحاول التحرر من شفتيها، وخلفهما سدرة فقدت خريفها تحت سطوة سواد الكاميرا 1998.
الصورة الثالثة: ينحني لترتيبِ بلوزة ابنته، يبدو أن زوجته التقطت الصورة، فالدقة شحيحة وتكاد تبدو غائبة تمامًا، يلبس سترة جلدية وبين شفتيه سيجارة، خلفهما مرجوحة معلّقة بغصن شجرة في حديقة البيت 2002.
الصورة الرابعة: تحت شجرة توت، فائقة الخضرة، يشربُ البيرة رافعًا الزجاجة إلى جانب رجلٍ يشبه الأمريكيين بملابسه وشعره، صورة ملوَّنة 2005.
الصورة الخامسة: على قمَّةٍ جبلية، يفتح ذراعيه حاضنًا اللاشيء المرئي، والشيء اللامرئي في خياله، بلا تاريخ.
الصورة السادسة: يجلسُ حول المائدة، مع زوجته وبناته الثلاث، تنشغل كل واحدة منهن بترتيب شيء، وحده يركز مع الصورة، في باحة منزله في (كوجو)، 2009.
كُنتُ -وما زلت- أدخن بالسِّر، فأبي، رُغم أنَّه مدخن منذ خمسٍ وثلاثين عامًا، ويدخن أكثر من أربعين سيجارة في اليوم، لا يسمح لأحد من إخوتي بالتدخين. كُلّما رآني مام درويش، كان يبتسمَ لي ويرسمَ على خدّيه وحول فمه رقم ثمانية أفقيًا <>، ثُمَّ يدعوني إلى حفلة التدخين في خيمته ويسردُ لي قصته، حتى حفظتها عن ظهر قلب وذكرته ببعض أحداثها حين ينساها وقتَ يسردها لي:
(انتهيتُ من الدراسة في عام 1983، ممرضًا، أثناء ارتيادي لمعهد التمريض، كنت أعمل في مطعم لأتمكن من تحمُّلِ مصاريفي. فقد طردني أبي حين أصررت على إكمال دراستي، وحين عرفَ أنَّها سوف تكون في منطقةٍ غريبةٍ، أصرّ على ذلك كل الإصرار خوفًا من أن انحرف عن ديني ومجتمعي بالدراسة. لكنني وقفت في وجهه لأول مرةٍ في حياتي وقلت له إنني سوف أكملها في كل الأحوال، بعد ذلك بعام، أُجبرت على الألتحاق بالجيش، كان لي عشرة أصدقاء، لم يبقَ سواي، غادروا هذا العالم، وبقوا يلوحون لي وهم يغرقون في قلبي. ثم تزوجت، وأنجبتُ بنتًا سمّيتها (هاجر)، ثم بنتًا أخرى (فلك) ثم (أميرة). مارستُ مهنتي في مستشفى سنوني بعد بناءها. أثناء هجوم داعش، على مدينة سنجار، خطفوني وعائلتي. الأمير الداعشي (أبو أحمد) أخذ بناتي وزوجتي، قائلًا أنّهن كنزٌ لن يستغني عنه مهما حدث. كان سيقتلني، ثُمَّ قال إن قتلي سوف ينهي ألمي، فتركني أموتُ حيّاً، كما تراني الآن، أنتظرُ عائلتي ولا أغادر الخيمة بتاتاً خوفاً من عودتها وعدم رؤيتها لي.)
حرصتُ، خلال أربع سنوات، على حصَّته من كل طبخةٍ لذيذة تطبخها أمي. فكانَ كُلّما رآني أحملُ صحنًا، فرك يديه التي ظهرت عروقها واصطبغت باللون الأخضر لنحافته المفرطة والضغط النفسي الكبير. أحدبٌ بعض الشيء، تقوَّس ظهره، صارَ سنبلة قمحٍ في حقلٍ احترقت تربته وبقيت السنبلة تقاوِّمُ عواصف الريح.
قبل أسبوع، أخبرني أنَّه يُشعرُ بغيمةٍ سوداء تكتسحُ سماء قلبه، أعطاني آخر علبة سجائر يملكها، وطلب أن أعده باستقبال عائلته إن تحرَّرت. وإخبارهن أنه انتظرَ ولم يكف لحظة واحدة عن ترقب طريق عودتهن. ولو كان بمقدوره لَصارَ طريقًا لإيابهن إليه، لصارَ رصاصةً تخترقُ قلبه قبلَ أن يختطفوا بناته وزوجته.
(العالم مسرحية، لكُلٍ مِنّا دورٌ يمثله، لكن يا عزيزي، القاتل والمقتول والعجوز والطفل والعائلة، الآن صارَ بوسع الجميع تمثيل دور القاتل، ولا أحد يسمح لأنسانيته بالظهور، لهذه المسرحية مشاهدٌ واحدٌ، يضحكُ على آلامنا، ويعبثُ بالموسيقى والإخراج المسرحي والنص، من هو؟)
فجر يوم الثلاثاء، مات مام درويش، لم يبكِ عليه أحد، لم يكن هنا أحدٌ ليبكي عليه، وقفتُ قبالة جثته، حاولتُ أن أبكي، كان الأمر أكبر من تلخيصه ببضعة دموع، أو صراخ، تَطَلَّبَ الأمر أيامًا من الصمت، والغرق في الفراغ.