مضاوي الرشيد: الملك الابن: الإصلاح والقمع في السعوديّة (هيرست وجامعة أوكسفورد للنشر، 2020)
جدلية (ج): ما الذي دفعكِ إلى كتابة هذا الكتاب؟
مضاوي الرشيد (م. أ.ر): هذا الكتاب هو محاولة لفهم توتر مركزي يشوب المجتمع السعودي منذ بروز الملك سلمان وابنه، وليّ العهد، الأمير محمّد. منذ العام 2017 بدأ الملك ووليّ العهد بإجراء إصلاحات اجتماعيّة مثل السماح للنساء بقيادة السيارات، وإلغاء بعض جوانب نظام الولاية، وزيادة توظيف النساء، واتخاذ خطوات باتجاه المزيد من التحرر الاجتماعي. وقد وعد الاثنان بإعادة السعوديّة إلى الإسلام المعتدل النقي عبر تحجيم سلطات رجال الدين والشرطة.
اقتصاديّا، كان هناك أيضا وعد بتوسيع التوظيف، وبتنويع الاقتصاد، وحتى بخصخصة شركة "أرامكو" النفطيّة. ووعد الأمير بفتح السعوديّة أمام الرساميل الدوليّة، وإقامة حفلات ترفيهيّة، وعلى السياحة. كان هناك إحساس بالحماس العارم فيما القيادة تعد بيوتوبيا سعوديّة جديدة-ليس فقط داخل البلاد، بل أيضا عن طريق استعادة السعودية لتأثيرها الدولي والإقليمي.
ورحّب المراقبون والصحافيون والحكومات الغربيّة بالأمير كمصلح عظيم له رؤية تطويريّة لتحويل السعوديّة من دولة "محافظة مغلقة" إلى مجتمع منفتح. كانت تلك هي السرديّة السائدة لنحو ثلاث سنوات بين 2015 و2018.
منذ بروز وليّ العهد الجديد، بدأتُ أتّبع تقييما نقديّا للتغيير الثوري المفروض من القمّة إلى القاعدة، فيما كنت أوثّق ارتفاع عدد الشبّان السعوديين طالبي اللجوء في الخارج، والعدّد الصادم للمعتقلين داخل البلاد. وكان معظم المعتقلين من أصحاب المهن الحرّة، والكتّاب، والنسويين، والناشطين الدينيين، والليبراليين. وكانت هذه المجموعة من السجناء المنتمين لقطاعات واسعة في السعوديّة قد لفتت انتباهي إلى ازدواجيّة الإصلاح والقمع.
أردت استكشاف هذه المسألة لإضاءة علاقة الدولة والمجتمع خلال حكم الملك سلمان وابنه. بدأت أجمع معلومات عن الإصلاحات السعوديّة وأرصد القمع الذي تفشّى وأدى إلى قتل الصحافي جمال الخاشقجي في القنصليّة السعوديّة في إسطنبول في الثاني من تشرين الأول\أكتوبر 2018. أضحى الكتاب فرصة لإدراج أصوات العديد من الناشطين السعوديين في الخارج، ومن الشتات السعودي الناشئ، وكان النظام يستهدف كلا الطرفين. بشكل من الأشكال، فإنّ الكتاب هو حكاية النفي، والتشريد، والصراع في سبيل الحريّة.
وأنظر في مسألة الوطنيّة المفرطة الجديدة التي استحدثها وليّ العهد وكيف أدّت تجاوزاتها إلى قتل خاشقجي.
ج: ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
م. أ.ر: يقدّم الكتاب تقييما نقديا للسرديات الاستشراقيّة عن المجتمع السعودي التيّ تسيطر على التقارير الصحافيّة، والتي تتناول البلاد على أساس أنّها "محافظة اجتماعيا، ومتطرّفة دينيا، وكسولة اقتصاديا، وتعتمد على نظام الرعاية الاجتماعيّة".
كما أنظر في أسباب اعتبار وليّ العهد الجديد مصلحا. وأربط ذلك بمواطن قصور الّذين أرادوا رؤيّة إصلاحات اجتماعيّة واقتصاديّة ودينيّة من دون (الاضطرار إلى) معالجة مسألة الإصلاح السياسي الشائكة.
وكان يُعتقد أنّه إذا أرادت السعوديّة تجنّب الانتفاضات العربيّة للعام 2011، فإنّ الطريق الوحيد أمامها هو إجراء ثورة من القمّة إلى القاعدة. ولكن القمع الذي رافق ما يُسمّى بالإصلاح، أظهر أوجه التناقض غي هذه الافتراضات. وفي سبيل إعادة تحديد العلاقات بين المجتمع وبين الدوّلة، أدرس فكرة الوطنيّة المفرطة الّتي أطلقها وليّ العهد وكيف قادت التجاوزات الناجمة عنها إلى قتل خاشقجي، وإلى هجرة المنشّقين (المعارضين) والناشطين إلى ملاذات آمنة.
واستند على الأدبيات الكثيرة التي تتناول النشاط السياسي والوطني والنسوي في الشتات. ولكنّني كنت أريد أن يكون الكتاب في متناول القرّاء العاديين لذلك تراجعت عن إشباعه بالكثير من النظريات التي لا تهّم إلا المختّصين الأكاديميين.
في الكتاب أصوات كثيرة من الشتات لأشخاص يدوّنون سيرهم الذاتيّة وتجاربهم قبل مغادرتهم لوطنهم وبعدها. وأستكشف أيضا تنوّع المجتمع الإيديولوجي، والمناطقي والديني والسياسي، وهو الذي يحدّد كيف يختبر المواطنون النظام السياسي. ولسياسات الشباب، وأصوات النساء أهميّة في الكتاب لإظهار التنوّع في الطموحات والإجماع على الحريّة. كما أنّ نشاط الجيل الجديد عبر الإنترنت حديثا هو مركزي في تحليلي وتقييمي لمستقبل هذه الفئة العمريّة من النساء والرجال.
ج: كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
م. أ.ر: أعتقد أنّ الكتاب هو ببساطة استمراريّة لاهتمامي في توثيق تنّوع المجتمع السعودي وتطلعاته. الليبراليون، والإسلاميون، والأقليّات الدينيّة، والمهاجرون، والنسويات كلهم مُمَثلون في هذا الكتاب. لطالما اخترت موضوعات صعبة لا تلقى ما يكفي من الانتباه، خاصة في بلد تعتمد فيه القيادة بقوة على السيّطرة على الإعلام والأبحاث، وتحاول دفن الأصوات المعارضة لخلق إجماع مزيّف حول سياسة النظام.
ج: من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغبين أن يخلّفه؟
م. أ.ر: بالإضافة إلى جمهور الأكاديميين والمختّصين، آمل أن يجذب الكتاب الجمهور العريض الذّي صُدم بمقتل خاشقجي. وأشرح لماذا وقعت الجريمة فيما كان العديد من المراقبين يظنون أن السعودية ولجت طريق الإصلاح. وكان آخرون يعتقدون جديّا أن النظام السعودي يختلف جذريا عن الجمهوريات العربيّة المعروفة باستخدام القوة المفرطة لإسكات أي معارضة. ويقوم الكتاب بطمس الحدود بين الجمهوريات العربيّة العدوانيّة وبين ما يسمى بالأنظمة الملكية المُحسنة في الخليج وأنحاء أخرى من العالم العربي.
هو تحليل لكيفيّة ممارسة القوة وخلق الشرعية في آن، مع إعطاء الانتباه اللازم لردود فعل المجتمع ومقاومته.
ج: ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟
م. أ.ر: أفكّر بإجراء بحث حول المدن العربية والغربية التي عشت فيها لكتابة تقرير حول "أن تشهد الحياة المدينية والتاريخ" عبر الترعرع في دول عدّة. من بيروت خلال الحرب الأهليّة، إلى راحة الحياة الأكاديميّة في كل من كامبردج وأوكسفورد، أوّد توثيق كيف يختبر العربي الحياة بعيدا عن بلده وفي أماكن يختبر فيها أيضا تغييرات جذريّة.
مقتطفات من الكتاب
يستكشف (كتاب) "الملك الابن" سياسة نظام لم يكن، حتّى مقتل خاشقجي، يُعتبر وحشيّا، أو يمارس سبلا قمعيّة مشابهة لتلك التي تنتشر في الجمهوريّات الاستبداديّة في بقيّة العالم العربي. على عكس تقييمهم أنظمة الجمهوريّات العربية القمعيّة، كان العديد من المراقبين يعتبرون أن الحكّام السعوديين يتمتّعون بشرعيّة قويّة طابعها تقليديّ، يوطّدها عقد اجتماعي فعّال بين الأمراء وبين العامة، المستفيدين من معونات النفط السخيّة وخدمات الرعاية.
كانت تلك السرديّة نمطيّة في "المعرفة في زمن النفط"، حين أصبحت السعوديّة بتلك الأهميّة بالنسبة لشركائها الغربيين. وهؤلاء اعتبروها قلعة من الاستقرار، ليس محليّا فحسب، بل على امتداد العالم العربي. فثروتها النفطية الوافرة، والسوق المحتمل للاستثمارات الأجنبية الذي يتمتع بتقدير عال، وصفقات استيرادات الأسلحةـ ورؤوس المال العالميّة، ومؤخرا، صناعة الترفيه المزدهرة بالنسبة للفنانين الغربيين، كلها كانت عناصر كافية للإبقاء على شراكة مع النظام.
مع محمد بن سلمان، دخلت السعوديّة، برأي العديد من المراقبين الأجانب، في مرحلة جديدة من الانفتاح والازدهار والتنويع الاقتصادي، بالإضافة إلى وفرة فرص الاستثمار والسياحة. وكان الملك المستقبليّ الشّاب يُصوّر بطريقة تمزج بين التقييم الجدّي وبين العلاقات العامّة الترويجيّة، وبين التمنيّات وبين تحوير المعرفة عن البلاد، وهي كلّها من صنع ولي العهد، ويقبلها الإعلام الخارجي كما هي.
وتطوّر الترويج للوعد بنقل الخلافة للجيل الثاني من الأمراء، وبتعيين محمد بن سلمان الشاب كوليٍ للعهد، ليتحوّل إلى "ظاهرة الملك الابن". في الصحافة الغربيّة، اختُصِر اسمه الطويل ليصبح "ام. بي. اس." لتسهيل التعرّف السريع عليّه، ولوَسْمِه. وأصبح رؤيويا أيقونيا، ليس داخل البلاد فحسب، بل عالميّا، من واشنطن إلى طوكيو. وكان لـ "الظاهرة" العديد من الأتباع، من مأجورين ومن غير المأجورين، ينشرون صورا وأساطير حول إصلاحاته العظيمة ويدعون الجماهير المشكّكة إلى الانضمام للاحتفال بالتحوّل الذي أحدثه الأمير العربي الشاب صاحب الكاريزما.
وتشبه جهود الإعلام السائد التابع للنظام لتدعيم ظاهرة "ام. بي. اس." ما يصفه بول فيين بالـ euergetism. وهذا المفهوم الذي ازدهر في اليونان وروما في القِدَم، يتعلّق بالمدن التي كانت تكرّم الأشخاص المرموقين الذين بأموالهم أو نشاطهم العام، "يقدّمون الخير للمدينة". ولكي تكون هذه الظاهرة مرئيّة وفعّالة، كان يجب أن تُبنى على "الخبز والسيرك"، جامعة بين المال، والسلطة، والترفيه، والوجاهة. حين أحسّت أدوات الدولة أو اعتقدت أنّها مهدّدة من بعض مصالح رعاياها، لاسيّما الشبّان منهم، قام ولي العهد بسرعة بتقديم الترفيه الثقافي الجماهيري لرعاياه، ووعدهم بالمزيد من الخبز.
كان الأمير يريد أن يتجاوز السعوديون الاعتماد على النفط عبر التحّول إلى رجال أعمال. كما أنّه وفّر فرصا كثيرة لـ "السيرك" كجزء من ثقافة جماهريّة جديدة. وهو يجسّد توّقع جوفينال بأنه "أمّا وأنّه ليس هناك من يشتري أصواتنا الانتخابيّة، فإن الجماهير تخلّت منذ زمن طويل عن الاكتراث. الناس الذين أعطوا الأوامر ذات يوم، والقيادة والجيوش وكلّ شيء آخر، توقّفوا الآن عن التدخّل وهم يتوقون بلهفة لشيئين فقط-الخبز والسيرك".
وحين يكون السيرك مصنوعا بالكامل في الخارج ومستوردا بكلفة عالية، لا تكفي المقاربات الماركسيّة القديمة التي تدين الثقافة الجماهيريّة ولا وجهات النظر الليبراليّة المحتفيّة بإمكانيته على إحداث تقدّم، لتفسير القرار الجديد والسريع لاستيراد سبل ترفيه أجنبيّة إلى السعوديّة جملة وتفصيلا.
إنّ قرار إدخال الترفيه إلى السعوديّة هو من دون شكّ من عمل المستشارين الأجانب الذين يتحرّكون ضمن إطار العمل النيوليبرالي، وجاء ردّا على عقود من الاتهامات الموجّهة للسعودية بأنّها تطبّق نظاما دينيّا صارما كانت تفرضه على مواطنيها المعاصرين. وكان يُعتقد أنّ المحظورات السابقة قد ساهمت في تغذيّة الإرهاب. لذلك، أراد وليّ العهد التخلّي عن ذلك الماضي وإغراق السعوديين بسرعة بالترفيه كشكل من التحوّل عكس السيطرة الاجتماعيّة والدينيّة السابقة.
وفيما الترفيه هو جزء من التنويع الاقتصادي، إلّا إنّه أيضا وسيلة تمويه عظيمة عن الأفكار والطموحات الأكثر إلحاحا. يبيع السيرك وهم الحريّة للسعوديين، فيما الأمير يكدّس أرباحا جديدة ويؤّمن أن رعاياه يستبدلون التديّن بـ "انحلال" شرعي.
ولكنه هو نفسه ليس خارج السيرك، أو مجرّد مستوردٍ لمغرياته الكثيرة. في الواقع، هو في القلب من الثقافة الجماهيريّة والترفيه. ففي حين يتم استيراد أبطال الملاكمة والمغنيين العالميين لقاء مبالغ هائلة، فإنّ الأمير ذاته هو من يتحوّل إلى الشخصيّة الشهيرة الأساسيّة، كونه "البطل" في كل حدث.
ويتم تحليل ما يرتديه، ووقفته، ولغة جسده والتعليق عليها بأدقّ تفاصيلها، أمّا صور أحذيته ومعاطفه الخارجة عن المألوف فيبدأ معجبوه مباشرة بتداولها على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي قلب السيرك، نراه محاطا بمساعديه، والإعلام العالمي، والصحافيين المحليين المتلهفين للحصول على نظرة على الأمير الشهير.
يقاوم الكثير من الحكّام المستبدّين الثقافة الجماهيريّة واسعة النطاق لأنهم يعتقدون أنّه "إذا سمحنا للناس بإقامة مهرجانات، وهي نشاطات بريئة بحد ذاتها، فإنّهم سيفترضون أنّهم أحرار بالقيام بما يشاؤون، وسيتوقفون عن الرغبة في الإطاعة أم المحاربة". ولكن حلّ ولي العهد كان بتوفير متعة عامّة محدودة ببعض الأوقات المعيّنة، مثلا مهرجاني الرياض والدرعيّة، الّذين تحوّلا إلى حدثين وطنيين.
وعروض القوّة هذه، التّي تقدّم حفلات موسيقيّة غربيّة شعبيّة، وسباقات سيارات، ومباريات ملاكمة، وعروض كرة قدم، وسينما، ومسرح كلّها تؤكّد حق وليّ العهد في أن يُطاع، يجب تحقيق ذلك والتعبير عنه عبر استهلاك واضح في ظروف تحت السيطرة. ولذلك الهدف، أسّس الأمير "سلطة الترفيه"، التي تسيطر على التسليّة والمهرجانات، وتقدّمها في مواسم وأماكن محدّدة. وغنيّ عن القول أنّ الترفيه الجديد، من الحفلات الموسيقيّة إلى مباريات الملاكمة أثبتت أنها وسيلة إلهاء جيّدة لجيل الألفيّة الجديدة المتحمّس، وقد كان حتى الآن محروما من التسلية.
وفيما ازدهرت ظاهرة "ام. بي. اس." في الخارج، إلّا أنّ اختصار اسمه الكامل لم يكن يستخدم محليا. وفقط أولئك المعارضين لسياساته كانوا يشيرون إليه بـ "ام بي اس"، مصادرين اسمه الفنّي لتحويله ضد حملته الترويجية.
[نشرت بالإنكليزية على «جدلية». ترجمتها هنادي سلمان]