هشام البستاني
(المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
هشام البستاني (هـ. ب.): انطلقت فكرة الكتاب من نقاش بدأت في بحثه ونشره يتعلّق بمركزيّة "الهويّة" وأساسيّتها في تفريغ أي محاولة للتّغيير، وتفتيت المجتمعات إلى مجموعات، وتفكيك واحتواء مؤسسات المجتمع المسيّس (الأحزاب، النقابات، الجمعيّات)، وتمكين الزبائنيّة. النموذج التطبيقيّ على هذه الفكرة موجود بحدّة في الأردن، ويتمثّل (كما هو معروف) في التقسيم الهويّاتي القائم على أصول مواطنيه، بشكل رئيسيّ: المواطنون الذين تنحدر أصولهم من المنطقة الواقعة شرقيّ نهر الأردن، والمواطنون الذين تنحدر أصولهم من المنطقة الواقعة غربيّه. توسّع هذا النقاش لاحقًا ليشمل مقاربات تتعلّق بالهويّة الفلسطينيّة، والصهيونيّة (باعتبارها هويّة أخرى لصيقة بالهويّتين السّابقتين، بحيث تشكّل كلّها نقاط ارتكاز متبادلة لتخيّل "الذات" وبناء التعارضات مع "آخر" أو "آخرين"، واشتقاق الشرعيّة البينيّة باعتبارها جميعًا تتشارك في المنبت الاستعماريّ الذي أسّس لها ورعاها وما يزال).
وصادف أن تزامن هذا النقاش مع انطلاق الانتفاضات العربيّة نهاية عام 2010، والتحوّلات والمآلات التي تتابعت بعدها، والطريق المسدود الذي وصلته هذه التحرّكات الشعبيّة الكبرى والهامّة، فطوّرتُ النقاش ليحاول فهم أسباب هذا الانسداد: ما الذي كان ينقص هذه التحرّكات؟ لماذا عجزت عن الوصول إلى أهدافها؟ كيف عملت السّلطات القائمة على تفكيك، واحتواء، ومن ثم قمع، هذه التحرّكات؟ ما هي الآليات التي استخدمتها تلك السلطات –في بلدانٍ عدّة– لتستعيد توازنها وتعيد تثبيت نفسها؟ ما هو الدور الذي لعبته التيّارات السياسيّة الرئيسيّة في المنطقة العربيّة (الإسلاميّة والقوميّة واليساريّة والليبراليّة والعلمانيّة) في كلّ هذا، وأين موقعها منه؟
قاد هذا النقاش إلى دائرة أخرى مهمّة: مدى ارتباط الواقع الحاليّ للبلاد العربيّة ليس فقط بتاريخها الاستعماريّ، والمحدّدات التي أنتجها الاستعمار وبقيت فاعلة وحاضرة ومؤثّرة إلى اليوم، بل أيضًا بهشاشتها البنيويّة، وانعدام إمكانيّات بقائها إلا في ظلّ دائرة العلاقات التي ترسمها القوى الدوليّة والإقليميّة وتوازناتها على الأرض، والإمكانيّات التدخليّة العميقة التي تحظى بها هذه القوى (سواءً عسكريًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا)، خصوصًا في سياق الرأسمالية المعولمة القائمة اليوم، والمؤسسات "الدوليّة" القائمة التي تملك تلك القوى السيطرة عليها، ودورها في فرض السياسات، وصياغة المصائر، والتأثير الكبير في التحوّلات، وبالتالي، وصلتُ إلى مساءلة أفكار مثل "الاستقلال" و"السيادة"، وبحث ممارسة العنف –على المستوى الدوليّ– من قبل أطرافٍ على أطرافٍ أخرى، ما يقودنا –مرّة أخرى– إلى المشاكل البنيويّة التي تعيق إمكانيّات التغيير.
طبعًا، لا بدّ أن يوصلنا كلّ هذا إلى سؤال: "ماذا بعد؟"، لتكتمل دائرة المواضيع التي قاد واحدها إلى الأخرى: فقاد البحث في "الهويّة" إلى الجذور الاستعماريّة للكيانات القائمة وحدود ومحدّدات الممارسة السياسيّة فيها، فبحثتُ هذه الكيانات نفسها، شكل السّلطة فيها، كيف تسيطر على من تتسلّط عليهم، ما هو موقعها من القوى الإقليميّة والدوليّة وكيف تدير علاقتها معهم، وما هو موقعها ضمن النظام الاقتصاديّ السياسيّ الرأسماليّ العالميّ القائم اليوم، لنصل إلى تساؤل مركزيّ: هل يمكن أن نطلق على هذا الشكل من الوجود السياسيّ اسم "دولة"؟ هنا صار لزامًا عليّ أن أعرّف مفهوم الدولة، وكيفيّة افتراقه عمّا سمّيته: الكيان الوظيفيّ، وتوضيح الآليات التي تستخدمها السلطة الحاكمة في الكيان الوظيفيّ للبقاء والسّيطرة؛ وهذا بدوره قادني إلى بحث القوى التي كانت تسعى لتغيير هذا الوضع، وأسباب فشلها، وطبيعة تأثيرها على السلطة؛ فكان هذا الكتاب.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(هـ. ب.): ينطلق الكتاب من مساءلة تعريف ماكس ﭬيبر الشهير للدولة باعتبارها إطارًا إكراهيًّا يحتكر شرعيّة ممارسة العنف، في ظلّ عالمٍ يعمل نظامه الاقتصاديّ-السياسيّ، وتعمل حكومات دوله الأقوى، على مستوىً دوليّ وإقليميّ، وليس فقط على المستوى المحليّ. هناك أطر سياسيّة (كالولايات المتّحدة) تمارس العنف بأشكاله المختلفة، العسكريّ والاقتصاديّ والسياسيّ، أحيانًا بنفسها، وأحيانًا بالوكالة، وأحيانًا باستخدام مؤسّسات "دوليّة" (كالأمم والمتّحدة وصندوق النقد والبنك الدوليّين)، على أطر سياسيّة أخرى. هذه الأخيرة، على المستوى الدوليّ، وداخل بنية العلاقات الدوليّة التي يعمل من خلالها عالمنا المعاصر، لا يمكن اعتبارها دولًا بهذا المعنى الـﭬيبري، إذ يُمارس عليها العنف من جهة، فيما تحتكر الأولى شرعيّة ممارسة العنف من خلال سيطرتها على المؤسسات الدوليّة التي تشّرع للعنف، وتشرعنه، على المستوى الدوليّ.
إن أضفنا لما سبق الجذر الاستعماريّ لنشوء الكيانات السياسيّة جنوب العالم، باعتبارها مساحات جغرافيّة تخدم أغراضًا أو أدوارًا (وظائف) استعماريّة ما، والتأثيرات الكبرى اللاحقة على مصائر هذه الكيانات نتيجة لهذا الجذر الاستعماريّ، وارتباطها العميق اللاحق بهذا الجذر، واشتقاق شرعيّتها السياسيّة وهويّتها الوطنيّة منه، وعلاقة التبعيّة المستمرّة لهذه الكيانات بالمستعمِر السّابق و/أو مراكز القوى الدوليّة المهيمنة لاحقًا، وفشلها في تحقيق التنمية مقابل توطيد أركان التبعيّة وتعزيزها، وانعدام وجود مؤسسات حكم حقيقيّة (أي: نظام)، والاستخفاف الكامل القائم فيها بالأطر الدستوريّة والقانونيّة الناظمة لعملها أمام رغبات وارتجالات ونزق السّلطة، بما يتضمّنه كل ذلك من اختلالات بنيويّة عميقة لجهة عدم إمكانيّة تحرّر هذه الكيانات وتحقيقها لحدّ من الاستقلال والسيادة يمكّنها من صدّ إمكانيّات التدخّل بها وتوظيفها، وصلنا إلى فكرة أن هذا النوع من الكيانيّة السياسيّة لا يمكن تسميته بـ"الدولة"، بل هو كيان وظيفي، يُمارس عليه العنف على المستوى الدوليّ من قبل الدّول.
الدّولة إطار سياسيّ استكمل نظامه الحاكم هيمنته (بالمعنى الجرامشي) على الداخل إلى حدّ كبير، يحاول باستمرار صدّ هيمنة الدول الأخرى عليه، ويسعى لتوسيع نطاق هيمنته خارجه؛ الهيمنة –بهذا المعنى– هي المحدّد الرئيسيّ للدولة؛ أما الكيان الوظيفيّ فهو إطار سياسي يُمارس عليه العنف، ويشتق أهميّته من استمرار فائدته/دوره/وظيفيّته في إطار توازنات القوى الإقليميّة والدوليّة، ويظلّ يغيّر نفسه من أجل ذلك، هدفه الرئيسيّ يتعلّق ببقاء مجموعته الحاكمة، تلك التي وُجدت هي وكيانها الوظيفيّ كاشتقاق عن الاستعمار، لا كاشتقاق عن ضرورة موضوعيّة داخليّة-محليّة (كضرورات السوق القوميّة مثلًا). البقاء (بقاء المجموعة الحاكمة) هو المحدّد الرئيسيّ للكيان الوظيفيّ، وحوله تدور مجمل الممارسات السياسيّة، وهو (البقاء) من يرسم حدودها داخليًّا وخارجيًّا.
توصيفات "الدولة" و"الكيان الوظيفيّ" ليست أقدارًا مطلقة، بل طرفي مروحة متنوعة من الحالات البينيّة يمكن الانتقال بينهما: فمثلًا، انتقلت "إسرائيل" من وضعيّة الكيان الوظيفيّ إلى وضعيّة الدّولة؛ بينما تتحرّك اليونان اليوم (واقتصادها بيد فواعل خارجيّة كالاتحاد الأوروبيّ، وتحديدًا: ألمانيا) من وضعيّة الدّولة إلى وضعيّة الكيان الوظيفيّ.
يقدّم الكتاب في مجلّده الأول قراءة تطبيقيّة على ثلاثة من هذه الكيانات الوظيفيّة المترابطة: الأردن، وفلسطين، و"إسرائيل"، موضّحًا مركزيّة "الهويّة" في كلّ منها، وترابطها البينيّ، كآليّة لاشتقاق الشرعيّة والتحكّم الاجتماعي، ومركزيّة "الجذر الاستعماريّ" للكيانيّة الوظيفيّة وأهميّته التي تصير أهميّة وجوديّة تتبلور لاحقًا في أدوار يخدمها الكيان الوظيفيّ وتحقّقها مجموعته الحاكمة، فيما يقدّم القسم الأخير من المجلّد الأوّل نقاشًا (يتجادل مع أطروحات فلاديمير إليتش لينين وروزا لوكسمبورج حول "حق تقرير المصير") في إمكانيّة تحرّر "الكيانات الوظيفيّة" في عالم اليوم: عالم تسوده الرأسماليّة المعولمة وآليّاتها التدخليّة التي تعمل على المستوى الدوليّ.
يوضّح المجلّد الثاني من الكتاب كيف أن التيارات السياسيّة الرئيسيّة في المنطقة العربيّة (الإسلاميّة، والقوميّة، واليساريّة، والليبراليّة، والعلمانيّة)، ورغم أنّها رفعت دومًا شعارات "التغيير"، كانت جزءًا فعليًّا من استدامة الكيانات الوظيفيّة، وترسيخ سيطرة مجموعاتها الحاكمة، واشتقاق أبعاد وظيفيّة داخليّة جديدة لهذه الأخيرة؛ ثم ينتقل إلى شرح الكيفيّة التي تستخدم فيها المجموعات الحاكمة آليّات سياسيّة مثل الانتخابات، ومفاهيم مثل "الإسلام" و"الإرهاب"، وقطاعات مثل المثقفين، بل وحتى الاحتجاجات التي تقوم ضدّها وتستهدف إسقاطها، من أجل بقائها وتعزيز وظيفيّتها الداخليّة والخارجيّة.
يحاول الفصل الأخير من الكتاب، عبر الاستفادة من، ونقد، وتطوير، أطروحات لزيغمونت باومان وأنطونيو جرامشي وروزا لوكسمبورج وآلان باديو وجودي دين، تقديم محاولة للخروج من الأزمة التاريخيّة في مواجهة السّلطة في المنطقة العربيّة، أسمّيها: "التقويض الفعّال"، ترتكز إلى خلاصة تفيد بأن المجموعات الحاكمة (بترسيخها للتبعيّة خارجيًّا، وتدميرها للمجتمع المسيّس داخليًّا) تموضع نفسها بشكل مستمر على حافّة قبرها، على حافّة الهاوية، الأمر الذي يعزّز إمكانيّة توظيفها خارجيًّا (إذ إن اليد الخارجيّة قويّة وقادرة على دفعها إلى حتفها)، دون أن تخشى من القوى الداخليّة التي تعمل هي على تدميرها وتصفيتها باستمرار، ما يعني أن أي محاولة للتغيير يجب ألا تستند إلى محدّدات الكيانيّة الوظيفيّة التي جرّبتها، وسقطت فيها، القوى السياسيّة القائمة، وأن تعمل بآفاق ما فوق كيانيّة من جهة، مواجهةٍ للاستعمار وآثاره من جهة ثانية، وبآلياتٍ لا هويّاتيّة (اقترحت لها صيغة "نحن دافعي الضرائب") من جهة ثالثة، وتعمل على بناء مساحاتها السياسيّة الخاصّة (المحرّرة، مساحات الحكم الذاتي) خارج إطار نطاق سيطرة السّلطة ومحدّدات الكيان الوظيفي، من جهة رابعة.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(هـ. ب.): التحدّي الأكبر كان التفرّغ للبحث والكتابة، فكما يعرف الجميع لا توجد أيّ امكانيّة لكاتب يريد الحفاظ الكامل على استقلاليّته، والتمسّك بمقاربات نقديّة لا تجامل ولا تهادن، لأن يعتاش من كتابته، أو أن تُوفَّر له التسهيلات اللازمة لها (مثل منح التفرّغ والإقامات الكتابيّة والبحثيّة المطوّلة المدفوعة)، وأنا لست أكاديميًّا أو أستاذ جامعة، ولو كنت فلن يغيّر ذلك من الأمر شيئًا، فالحياة الأكاديميّة في المنطقة العربيّة طاردة للباحثين الجادّين، والتعيينات الأكاديميّة ترتبط بموافقات أمنيّة، ومواضيع البحث وحريّتها مقيّدة بكمّ كبير من المحظورات والسقوف والاعتبارات، ناهيك عن أن الجامعات نفسها هي نوعٌ من المدارس التلقينيّة الكبيرة، وشكلٌ من السّجون المحاطة بأسوار عالية ومداخل محصّنة ولا يمكن الولوج إليها ولا إلى مكتباتها من دون إبراز هويّة طالب أو عامل فيها، تمسخ –عمومًا– عقل الطالب، وتحضّره ليكون –قدر المستطاع– عضوًا طيّعًا في منظومة القمع السلطويّ القائمة.
التحدّي الثاني هو قلّة التفاعل مع ما أكتب أثناء الكتابة، وهو تفاعل مهمّ لتجويد الكتابة ورفع سويّة الأطروحات ونوعيّة البحث، فلا أحد ينشر مثل هذه المقاربات أثناء العمل عليها لطولها وطابعها البحثي-النظريّ، وإن وجد من ينشر، فمقابل النشر –ربطًا بما ذكرته أعلاه– متواضع يثير الرثاء، يُحبط الكاتب بدلًا من أن يشجعه، ويُشعره بالوضاعة بدلًا من أن يشعره بالقيمة، ولا مراكز بحوث تستضيف "البحث" لمناقشته وتطويره أثناء العمل عليه، ولا حياة ثقافيّة فاعلة تتيح إقامة ندوات وورشات، فالمشهد الثقافيّ –عمومًا- فقير، تسوده السطحيّة والرداءة إذ يحتفي بهما، ويبتعد عمّا يثير الجدل والنقاش، ويهرب من النقد.
التحدّي الثالث هو الوصول إلى مراجع البحث، وهذه كنت إما أن أشتريها مباشرةً، أو أستعين بأصدقاء أكاديميّين في جامعات غربيّة لديهم وصول إلى الأبحاث والكتب المنشورة إلكترونيًّا من خلال مكتبات جامعاتهم، فمكتبات الجامعات هنا (كما أسلفت) تقع داخل الأسوار وخلف البوابات، ولا يمكن دخولها إلا بالهويّة الجامعيّة، وحتى إن تسلّل الشخص من فوق الأسوار وتجاوز البوابات، فسيجدها فقيرةً بالمراجع ولا تتوفّر فيها اشتراكات بالمجلّات والدوريّات العالميّة المحكّمة والمعروفة.
لذا، ونتيجة لكلّ ذلك، استمرّ العمل على الكتاب أكثر من عشر سنوات، تراكم تطوّره البطيء من خلال تفاعل مستمرّ ويوميّ وماديّ مع الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الذي أعيش فيه وأنشط لتغييره مع آخرين، واستعضتُ عن حوارات المتخصّصين بحوارات مع فاعلين وقياديّين وأصدقاء مفكّرين أثروا أطروحات الكتاب وجوّدوها بعد أن تفاعلتُ مع ما قدّموه من نقد، خصوصًا وأنّني اشتققت الأطروحات من الواقع الموضوعي أثناء البحث، بدلًا من تأطير البحث ليخدم الأطروحات المفترضة مُسبقًا، ولعلّ الفصل الخاص بالاحتجاجات وتأثيرها على الكيانات الوظيفيّة (مع تطبيق مُحدّد على الأردن) دالّ جدًّا على هذه المقاربة، إذ بدأت بالكتابة وفي ذهني أن الاحتجاجات تغيّر في مسار المجموعات الحاكمة ووظيفيّة كياناتها، لأصل –في خضمّ البحث- إلى نتيجة معاكسة: أن المجموعات الحاكمة تستفيد تمامًا (في غياب البديل والمنافس الذي صفّته بتدميرها لمؤسسات المجتمع المُسيّس) من الاحتجاجات، تدعّم بها نفسها، وتشتق منها عناصر وظيفيّة داخليّة وخارجيّة جديدة.
لكن، أعتقد أن ثمّة إيجابيّات كثيرة نتجت عن هذا المسار الكتابيّ، أوّلها وأهمّها استقلاليّة البحث وحريّته، وثانيها أنّ الكتاب نضج على مهل، الأمر الذي أتاح لي إمكانيّة مراجعة الأجزاء السابقة التي كُتبت أولًا، وتجويدها، ومواءمتها، وإعادة النظر في بعضها، مع تطوّر الأطروحة لاحقًا وأخذها شكلًا أكثر تماسكًا.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(هـ. ب.): بظنّي أن هذا كتاب يقع في خانة يشتبك فيها الفكر السياسيّ - النظريّة السياسيّة بالعلوم السياسيّة وتطبيقاتها، بحيث تشتق المقولة السياسيّة من المفاعيل التي أنتجتها على الأرض، وكانت كتابة أجزاء منه تجربة فريدة تشبه كتابة الأدب، إذ كثيرًا ما تنتهي القطعة الأدبيّة في مكان يختلف عمّا تصوّره لها كاتبها عند البدء بها، فكان البحث في الموضوع يقود إلى استنتاج مغاير لذلك الذي تم افتراضه في البداية.
والكتاب يشتبك مع، ويستفيد من، مساقات معرفيّة مجاورة، على رأسها الفلسفة وعلم الاجتماع، ويقدّم مساهمة جادّة مدعّمة بالمراجع ومكتملة بالفهارس، في استعادةٍ للشكل البحثيّ الرصين الذي يحترم نفسه ويحترم قارئه، بعد أن صارت الكتابة الانطباعيّة هي السائدة في هذا المجال.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(هـ. ب.): هذا الكتاب هو السادس والأوّل.
السادس بعد خمسة كتب أدبيّة في القصّة والشعر والكتابة الهجينة والمولَّدة هي "عن الحب والموت" (الفارابي، 2008)، "الفوضى الرتيبة للوجود" (الفارابي، 2010؛ وستصدر ترجمته الإنجليزيّة عن الناشر الأميركيّ المستقلّ ماسون جار برس أوائل عام 2022)، "أرى المعنى" (الآداب، 2012، حاز على جائزة جامعة آركنسا للأدب العربي وترجمته، وصدر في نسخة ثنائيّة اللغة عن دار نشر جامعة سيراكيوز عام 2015)، "مقدّماتٌ لا بدّ منها لفناءٍ مؤجّل" (العين، 2014)، و"شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلّ شيء" (الكتب خان، 2018؛ وحزت من خلاله على زمالة الإقامة الأدبيّة التي تقدّمها مؤسّسة روكفلر الأميركيّة في مركزها في بيلّاجيو - إيطاليا).
والأوّل ككتاب فكريّ-بحثيّ، وإن سبقه نشر عدد كبير من الأوراق والأبحاث والمقالات الفكريّة في مجلّات ودوريّات عربيّة وعالميّة عدّة، منها الآداب وحبر وسطور وMonthly Review وRadical Philosophy وMiddle East Report وجدليّة وInamo وLes Cahiers de l'Orient، وViento Sur.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(هـ. ب.): أعتقد أن هذا الكتاب سيهمّ المتخصّصين والجمهور العام على حدّ سواء، فهو يطرح قضايا نظريّة متعدّدة من قبيل "الدولة" و"الهويّة" و"السلطة" و"العنف" و"الاحتجاج" و"التفكيك الاجتماعي" و"السيطرة"، كما يحاول أن يقدّم ضبطًا اصطلاحيًّا جديدًا للقوميّة والوطنيّة، وصياغات لغويّة جديدة مثل "الدولة الموطنيّة" و"الكيان الوظيفي" و"المجموعة الحاكمة"، ويستفيد من، ويتجادل مع، وينقد، منظورات ونتاجات معرفيّة كثيرة، لكتاب ومفكرين وباحثين كثر، ذكرت بعضهم أعلاه، وأضيف إليهم كل من عيسى بلومي وعلي القادري ونور مصالحة ومهدي عامل وسمير أمين.
لكنّه يتعامل دومًا مع هذه القضايا النظريّة بأسلوب تطبيقيّ مباشر، يستطيع القارئ من خلاله الولوج بسهولة إلى الأمثلة الموضوعية التي تشكّلت من خلالها هذه النظريّات، فيتم تطبيق مفاهيم "الهويّة" واشتقاقاتها على نماذج محدّدة (الأردن، وفلسطين، و"إسرائيل")، كما تُنقَد التيارات السياسيّة الرئيسيّة في المنطقة العربيّة وانخراطها في محدّدات الكيانات الوظيفيّة من خلال نماذج عمليّة، وكذلك فيما يتعلّق بالآليات التي تستخدمها المجموعات الحاكمة في تفكيك وإضعاف واحتواء وتصفية المجتمعات المسيّسة وإنتاج "التصحّر السياسيّ"، إلخ.
أعتقد أن الكتاب يطرح قضايا راهنة تمامًا، نشاهد مفاعيلها اليوم في كثير من الكيانات العربيّة، مثل لبنان والعراق واليمن ومصر وليبيا والبحرين وسوريّة وتونس والجزائر والمغرب والسودان، ويطرح رؤى معمّقة لموضوع الهويّة وتوظيفاتها، والمرجعيّات الاستعماريّة للكيانات القائمة اليوم، وحدود حركتها، وحدود التحرّك فيها، ومقاربات للخروج من هذه الأزمة، آمل أن يستفيد منها ويناقشها المعنيّون بالتغيير.
وأخيرًا، آمل أن يستفيد الأكاديميّون والدّارسون "الغربيّون" من هذا الكتاب، بوصفه قراءة تفاعليّة نظريّة-عمليّة من الداخل، كتبه مؤلّف من داخل المجتمع المبحوث، بل إن كاتبه كان وما يزال يعيش في المجتمع المبحوث، ويحاول أن يكون فاعلًا في مناوشة "الحدود السياسيّة" التي يكتب عنها، فهو –إذًا– ليس ملاحظًا من الخارج ينقصه الفهم المعمّق للمجتمع المدروس، وتغيب عنه الفوارق الدقيقة والملامح التفصيليّة والروابط المضمرة والمعاني الخبيئة والظلال، بل هو حاضر في التفاصيل من زاويتي القراءة والفعل معًا.
وعليه، آمل أن يصل قارئ الكتاب إلى فهم أعمق لكيفيّة عمل الكيانات الوظيفيّة ومجموعاتها الحاكمة، وآليات السيطرة التي تستخدمها للبقاء والتكيّف والتكييف، والحدود التي تحكم الممارسة السياسيّة فيها، وأن يناقش مقترحاتي لتجاوز العقبات البنيويّة المضمرة في الكيانات الوظيفيّة نحو التحرّر الفعليّ الذي ما زال حلمه يراود الناس حتى اليوم، فيحتجّون وينتفضون، دون أن تتحقّق أهدافهم.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(هـ. ب.): في الأدب: أقوم الآن بمراجعة صفّ صفحات الترجمة الإنجليزيّة لكتابي "الفوضى الرّتيبة للوجود"، والذي سيصدر أوائل العام القادم، 2021، عن دار النشر المستقلّة ماسون جار برس (Mason Jar Press) تحت عنوان The Monotonous Chaos of Existence، بترجمة أنجزتها ميّة ثابت، وستكون هذه الطبعة مطوّرة عن النسخة العربيّة، إذ ستتضمّن صورًا فوتوغرافيّة ومقطعًا مرسومًا على طريقة الكومِكس، إضافة إلى أجزاء مكتوبة كرسائل بخطّ اليد وأخرى على شكل رسائل بالآلة الطابعة. يحتوي الكتاب على مقاربات أدبيّة لمواضيع مثل الهويّة (قصّة: "فيصلي ووحدات"، ونص: "ورقة على الطاولة بجانب الكرسيّ المقلوب")، وفلسطين (ثلاثيّة: "العبور"؛ ونصّي: "غزّة")، والتغيّرات والتشوّهات المدينيّة (قصّة: "كوابيس المدينة")، والتأثيرات الرأسماليّة والتسليعيّة والفردانيّة المعاصرة على الوجود والبيئة والأفراد والحبّ والمشاعر (قصص: "غبار النجوم" و"نيكوتين" و"كأس من الفودكا على شاطئ البحر" و"المثقفون").
أجزاء من الكتاب المذكور أعلاه ستنشر كقصص مصوّرة في مشروع أتعاون فيه حاليًّا مع الرسّام المصريّ محمود حافظ، والناشر محمد شرقاوي (نول للكتب، وهي دار نشر عربيّة-فرنسيّة متخصصة في الكتب المصوّرة)، وهو مشروع فريد من نوعه لا يعتمد الصيغة التقليديّة المعتمدة لإنتاج القصص المصوّرة: تطويع وأقلَمة النصّ الأصليّ (adaptation)، أو تحويله إلى سيناريو، بل يعتمد على إبقاء النصّ الأصليّ كما هو، في حين يقدّم الرسّام قراءته الإبداعيّة الخاصّة، وبعدها أتحاور مع الرسّام لإجراء بعض التعديلات أو تطوير بعض الثيمات. وسيرى هذا الكتاب النّور أيضًا العام القادم بالعربيّة وربّما بالفرنسيّة.
وأخيرًا، أعمل حاليًّا على كتاب يجمع نصوصي الشعريّة (المنشورة والجديدة)، آمل من خلاله أن أضيف مساهمةً في الخروج من الإيقاعيّة والغنائيّة إلى الانسياب والانفعال، ومن الوجدانيّات الذاتيّة السطحيّة إلى التأمل الموضوعيّ العميق، ومن الأحاديّة الخطيّة للمعنى إلى التلقّي المتعدّد المفتوح على الاحتمالات التخليقيّة، وأفكّر مليًّا، وجديًّا: هل سيجد هذا الكتاب ناشرًا؟ سنرى!
على الصعيد الفكريّ، واستكمالًا لموضوع "الكيانات الوظيفيّة"، وآفاق الخروج من الأزمة والتغيير المرتبطة دومًا بشكل ما من أشكال العنف: عنف الاستعمار والتدخّل والرأسماليّة والسّلطة طبعًا، وهو –عمومًا– العنف "الأصليّ"، الابتدائي، والأقوى؛ وفي المقابل: عنف المحتجّين أو المتضرّرين أو الثوريّين (أو عدمه، إذ تسود اليوم مقاربات الاحتجاج "السلميّ" أو الـ"لا عنفيّ")؛ والصراع المرتبط بشرعيّة العنف وأخلاقيّته، سأعكف على هذا الموضوع الإشكاليّ: "العنف"، آملًا أن أقدّم مساهمة جادّة، وعضويّة، فيه.
مقطع من مقدمة الكتاب: في الفرق بين الدّولة والكيان الوظيفيّ
يُعرّف ماكس ڤيبر الدّولة استنادًا إلى شرط أساسيّ: قدرتها على احتكار ممارسة العنف، أو القوّة القهريّة، في حدود إقليم سياسيّ معيّن، واحتكار شرعيّة تلك الممارسة؛ أما في الماركسيّة (التي لا تقدّم تعريفًا واضحًا ومحدّدًا كما يفعل ڤيبر) فيمكن الاستنتاج أنّ الدّولة هي الإطار-الأداة اللذان يتمّ من خلالهما ممارسة القهر الطّبقيّ وشرعنته، وبالتّالي تتحقّق الشّيوعيّة من خلال، وتُحقِّق، "ذبول الدّولة" وتحلّلها وانتهاءها، على اعتبار أنّ المجتمع الذي لا طبقات فيه، لا يحتاج إلى مُؤسّسة إكراهيّة تتوسّط بين العنف الاستغلاليّ الطّبقي، وموضوع هذا العنف (النّاس)؛ نجد ذات عدم التّحديد الدّقيق لتعريف الدّولة عند أنطونيو غرامشي، لكنّنا يمكن أن نستدلّ على مفهومٍ للدّولة عنده يقوم على "الهيمنة"، أي قدرة الدّولة، من خلال مجتمعين يرتبطان بالسّلطة وينضويان في دائرة تأثيرها، هما المجتمع السّياسيّ (الإكراهيّ) والمجتمع المدنيّ (الإغوائيّ)، على تحصين نفسها ومواجهة الأخطار الدّاخليّة والخارجيّة استنادًا إليهما معًا، وتنشأ "أزمة النّفوذ" أو "أزمة الهيمنة" عند غرامشي عندما لا يعود عموم الناس مقتنعين بأهميّة وشرعيّة السّلطة-الدّولة، وينشأ شرخ "أيديولوجيّ" بين الاثنين، مفسحًا الإمكانيّة للتّغيير.
يعدّ عدد من الباحثين أنّ المقاربة الماركسيّة للدّولة قاصرة؛ إذ تُركّز على الأطر العامّة الاقتصاديّة-الاجتماعيّة، وتهمل الأطر السّياسيّة التي تفسّر جوانب أخرى لا تقع ضمن دائرة الاقتصاد، وهم في هذا مُحقّون، لكن الرّكون إلى تعريف ڤيبر واشتقاقاته المُحدَّثة، الذي يرونه أكثر شموليّة، غير كافٍ في رأيي، رغم أنّه التّعريف الأكثر انتشارًا والأوسع تأثيرًا في أوساط العلوم الاجتماعيّة والسّياسيّة؛ إذ يتعامل مع الدّول القاهرة، والكيانات المقهورة، على السّويّة نفسها، مُغفلًا بذلك العمليّة التي يُلحَق بها كيان مقهور بالدّولة القاهرة التي تستمدّ شرعيّة ممارسة العنف عليها من تاريخها الاستعماريّ الذي يتضمّن صناعة الكيان المقهور نفسه في كثير من الأحيان، والتّأثير المباشر على المجموعة الحاكمة فيه، والرّبط الاقتصادي بين المستعمَرة والمستعمِر "السّابقين"، إضافة إلى الدّور القهريّ الذي تمارسه ما تسمى "المؤسسّات الدّوليّة": مجلس الأمن – الأمم المتّحدة، وصندوق النّقد والبنك الدوليّين، ومنظّمة التّجارة العالميّة.
ممارسة العنف بهذه الوسائل، على المستوى العالميّ، يحتكره ويحتكر شرعيّته البعض (الأقوى)، ممن يمكن تسميتهم بهذا المعنى الڤيبريّ، حال توسيعه على نطاق العالم ومنظومته الاقتصاديّة الرّأسماليّة المتشابكة: دول؛ وهم يمارسون عنفهم هذا على أكثريّة ممن لا يمكن بهذا المنظور أن يكونوا دولًا، بل هم كيانات وظيفيّة، لكلّ منهم وظيفة في نطاق تقاسم النّفوذ الدّوليّ داخل إطار الرّأسماليّة، وهم موضوعٌ لممارسة العنف والتدخّل والإلحاق، وإن مارسوا واحتكروا الإكراه داخل حدودهم الجغرافيّة أو في محيطها، مُشكّلين ما سأُطلق عليه: نطاق سيطرة أو مساحة سيطرة.
فعلى المستوى الأكبر، العالميّ، لا تؤدّي القدرة على احتكار شرعيّة ممارسة العنف أو القوّة القهريّة على نطاق جغرافيّ بعينه، في سياق الرّأسماليّة المعاصرة، معنىً كاملًا في حال كانت هذه الشّرعيّة مشتقّة من مصدر خارجيّ، أو موجودة بواسطة (أو كوسيطٍ لـِ) قوّة قاهرة أكبر وأقدر؛ كما لن تؤدّي هذا المعنى الكامل في حال كانت دولٌ أكبر قادرة على احتكار شرعيّة ممارسة العنف على غيرها، ومن دون غيرها، من خلال مؤسّسات تُشرعن هذا العنف عبر القانون الدّولي (مثلًا) كمجلس الأمن بأعضائه الدّائمين الذين يملكون حقّ النّقض من جهة، ويملك وحده (من دون الهيئة العامّة للأمم المتّحدة التي تضمّ جميع "الدّول") حقّ تفعيل "الفصل السّابع" المتعلّق باستخدام الآليّات العنيفة (الحصار الاقتصاديّ، التّدخّل العسكريّ) بحقّ الغير.
أمّا على المستوى الأصغر، المحليّ، فما قد يُطلق عليه البعض اسم: "العصابات الإجراميّة" في أحياء الصفيح والعشوائيّات في ريو دي جانيرو في البرازيل، تحتكر فعليًّا ممارسة العنف والقوّة القهريّة، الماديّة والمعنويّة، وشرعيّته، على أعداد هائلة من السكّان، ومساحات جغرافيّة واسعة من الأرض، بل إنّها (وفي إطار تجاهل حكومة جافيير بولسونارو أخطار جائحة الكورونا المستجدّة عام 2020، وعدم اهتمامها بالإجراءات الصّحيّة الوقائيّة، خصوصًا عند القطاعات السّكّانيّة الفقيرة والمهمّشة) فرضت حظر التّجوّل وإجراءات الوقاية الصّحيّة على سكّان هذه المناطق. لكنّ أحدًا لن يصف هذه "العصابات" وأشباهها (والتي تعمل ضمن أشكال تراتبيّة وبيروقراطيّة ومؤسساتيّة مختلفة وعالية التّنظيم) بأنّها دولة مكتملة الأركان، وإن دُرست الدّولة نفسها باعتبارها الشّكل الأعلى من أشكال الجريمة المنظّمة.
الملاحظة نفسها تنطبق على مناطق جغرافيّة ومساحات سياسيّة يحتكر فيها حزب الله في لبنان القوّة الإكراهيّة وشرعيّتها بالكامل، بل إنّ الحكومة اللّبنانيّة نفسها تعترف بشرعيّة سلاح حزب الله صراحةً أو ضمنًا، بينما يسيطر الحزب على مواقع سياديّة مركزيّة في البلاد مثل مطار بيروت الدّولي، وهو –بهذه الوضعيّة– مثالٌ أكثر اكتمالًا من "العصابات" البرازيليّة، فهل يمكن، والحال هكذا، أن نتحدّث بارتياح عن "دولة حزب الله" استنادًا إلى تعريف ڤيبر المحدّد؟ وهل يمكن الحديث عن مثل هذه "الدّولة" الـ(حزب الله)ـــيَّة بينما يقع حزب الله نفسه في مجال التّأثير المباشر، والتّبعيّة، لدولةٍ أخرى خارجه، هي إيران؟
ما يمكننا أن نقوله بخصوص هذه الأمثلة إنّ تنظيمات المافيا، أو "عصابات" ريو دي جانيرو، أو حزب الله، هي كيانات تطمح، أو تسعى، لأن تكون دولة، أو تمتلك القابليّة للتحرّك بهذا الاتّجاه، لكنّها لا تمتلك كامل الإمكانيّات لتحقيق هذه المكانة بعد، أو أنّها تُعطّل صيرورة التّحوّل وتفضّل البقاء كما هي لسببٍ أو لآخر؛ وبالمنطق نفسه، تكون الدّولة البرازيليّة دولةً منقوصة، أو دولةً ضعيفة، أو دولةً فاشلة، في المساحة الجغرافيّة التي تقع داخل حدودها السّياسيّة، وخارج نطاق احتكارها لشرعيّة ممارسة القوّة الإكراهيّة، أي أنّها ليست دولة بهذا المعنى في ذلك النّطاق؛ أما إذا امتدّ هذا النّطاق على كامل مساحة "الدّولة" ووظائفها (السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة)، وصارت مكانًا جغرافيًّا لفعلِ غيرها (سواءٌ أكان الفاعل داخليًّا، كالتّنظيمات المُسلّحة، أم خارجيًا، كالقوى الإقليميّة والدوليّة أو مؤسّسات النّظام الرّأسماليّ العالميّ كصندوق النّقد الدّوليّ، أم مجموعة من هذه الفواعل معًا) فعندها يُمكن القول إنّ الدّولة هنا فقدت احتكار ممارسة العنف وشرعيّته من جهة، والأهمّ: أنّها صارت موضوعًا لممارسة العنف عليها، وانتقلت وضعيّتها إلى حالة الكيان الوظيفيّ.
الكيانات الوظيفيّة هي مجمل (ولكن ليست كلّ) الكيانات النّاشئة بعد الاستعمار، التي يسمّيها بندكت آندرسن: الموجة الأخيرة، وهي كيانات لا أعدّها دولًا مكتملة، لسببٍ يتعلّق بأنّ العامل الأساسيّ (لكن ليس الوحيد) لوجودها واستمراريّتها وبقائها يتعلّق بشروطٍ تقع خارجها، بالقوى الإقليميّة والدّوليّة، والاقتصاد الرّأسماليّ العالميّ واشتراطاته، وإمكانيّة أن تقوم هذه القوى الإقليميّة والدّوليّة، وأجهزة الاقتصاد الرّأسماليّ العالميّ، بإحداث تغييرات اقتصاديّة واجتماعيّة كبرى في هذه الكيانات عبر تدخّلها المباشر أو غير المباشر، بما قد يصل إلى تفكيكها وإدخالها في صراعات كبرى وإعادة ترتيبها وإخضاعها وإلغاء استقلاليّتها النّسبيّة وإدماجها عنوةً في الاقتصاد العالميّ (أمثلة: المنطقة العربيّة بعد الحرب العالميّة الأولى؛ اليمن الشّمالي نهاية سبعينيّات القرن الماضي؛ والعراق، وسوريّة، وليبيا، واليمن اليوم)، وعلى النّسق نفسه الذي تحدّثنا فيه عن "دولة" حزب الله في لبنان.
سنستفيد هنا من تعريف غرامشي للهيمنة لكن على صعيدٍ معاصر، تعمل فيه الرّأسماليّة والقوى الدّوليّة والإقليميّة على نطاق دوليّ. ففي حين تنطلق الدّول من دوافع أساسيّة تتعلّق بزيادة النّفوذ، وزيادة مساحات التّأثير والإلحاق، تنطلق الكيانات الوظيفيّة من دوافع مجموعاتها الحاكمة بالبقاء. هذا هو الفرق الأساسيّ الثّاني بين جانبي الطّيف الذي تمتدّ بينهما أشكال ودرجات الوجود السّياسيّ المعاصر: الهيمنة (hegemony) (بمعناها المعاصر الذي طرحته أعلاه) مقابل البقاء (survival)؛ إذ يتعرّف الكيان الوظيفيّ باعتباره الأداة الأساسيّة لدى المجموعة الحاكمة لضمان بقائها في إطار الوظيفيّة التي تؤدّيها في سياق نظام إقليميّ-دوليّ أقوى منها وقادر على التّأثير عليها بشكل جذريّ، أو استبدالها بالكامل.
هذا لا يعني أنّ المجموعات الحاكمة غير "فاعلة" في المجالين الدّاخلي والخّارجي، ولا تناور وتضغط وتحاول توسيع دائرة سيطرتها، لكن هذه الفاعليّة تظلّ محصورة في مربّع البقاء، مربّع الوظيفيّة، الذي إن تجاوزته، أو تمكّنت من تجاوزه، نحو اشتقاق فاعليّتها من ذاتها، وبالتّالي محاولة توسيع نفوذها الإقليميّ والدّوليّ، تبدأ بالانتقال من حالتها الوظيفيّة، نحو التّحوّل الفعليّ إلى دولة، وهو ما يتحقّق إلى حدّ كبير في "إسرائيل"، على سبيل المثال.
الدّولة بهذا المعنى، وفي ظل قوى دولية وإقليميّة ونظام اقتصاديّ رأسماليّ يعمل ويؤثّر على مستوى العالم، هي مساحة لفواعل داخليّة تسعى لتوسيع نفوذها على مستوى العالم الخارجيّ بعد أن استكملت هيمنتها الدّاخليّة إلى حدّ كبير، وهي –على الجهة الأخرى– مساحة لفواعل داخليّة تعمل على صدّ وردّ التأثيرات الخارجيّة التي تُهدّد، وتريد الانتقاص من، نفوذها وهيمنتها؛ أمّا الكيان الوظيفيّ فهو الشّكل المعكوس لمدن الصّفيح والعشوائيّات في ريو دي جانيرو: مساحة جغرافيّة تتسلّط عليها مجموعة حاكمة خاضعة لتأثيرٍ خارجيّ أكبر منها وأقوى، تستعمل الكيان الوظيفيّ لتناور من أجل البقاء، وتقوم في سياق ذلك بإنفاذ متطلّبات البقاء الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة التي توسّع نفوذ وهيمنة الدّول الأخرى. الدّولة إذًا هي إطار للفِعل، والكيان الوظيفيّ هو إطار للعمالة (clientelism).