مبادرات محدودة للخروج من الحرب في اليمن

[صنعاء، 26 مارس/آذار 2021. تجمع بمناسبة الذكرى السادسة لتدخل التحالف العربي بقيادة السعودية رفع خلاله المتظاهرون صورة قائدهم عبد الملك الحوثي.] [صنعاء، 26 مارس/آذار 2021. تجمع بمناسبة الذكرى السادسة لتدخل التحالف العربي بقيادة السعودية رفع خلاله المتظاهرون صورة قائدهم عبد الملك الحوثي.]

مبادرات محدودة للخروج من الحرب في اليمن

By : Arabic Editors

هيلين لاكنر

يتصدر اليمن مجددا الأخبار العالمية. فقد اعترفت الأمم المتحدة بالمجاعة التي يعاني منها السكان، بينما يتقدم الحوثيون نحو مأرب. في الأثناء، تحث الولايات المتحدة الأمريكية المملكة العربية السعودية على القيام باقتراحات لإنهاء الحرب.

الكارثة الإنسانية -إن لم نقل المجاعة- هي أولوية اليمنيين اليوم. لكنها أولوية لا يشاركها فيها المجتمع الدولي. في الأول من مارس/آذار 2021، ذكّر الأمين العام للأمم المتحدة الممولين الحاضرين خلال مؤتمر المانحين السنوي أن “أكثر من 16 مليون شخص يعانون من المجاعة هذا العام. وقد لقى حوالي 50 ألف يمني حتفهم في ظروف شبيهة بالمجاعة”. وبعد خطابه بساعات، عبّر الأمين العام عن إحباطه أمام ضعف وعود التبرعات التي لم تتجاوز 1,7 مليار دولار، أي أقل من نصف المبلغ المطلوب والذي كان 3,8 مليار دولار. ضعف تمويل النداءات الإنسانية ليس بالجديد، إذا استثنينا سنة 2019 حيث حصدت جمعية الأمم المتحدة 86% من أغلى مبلغ طالبت به، وذلك بعد أن ساهمت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة معا بما يقارب ملياري دولار، وهو طبعا مبلغ صغير مقارنة بنفقاتهم الحربية في البلد.

يتركز اهتمام العالم بأسره حول الضربات الجوية التي يقوم بها التحالف الذي تقوده السعودية، لكن أغلب الوفيات وجزء كبير من معاناة السكان هي نتيجة الحصار البحري على مواني البحر الأحمر وخاصة ميناء الحديدة، التي تدخل منه المواد الغذائية والمحروقات والمواد الطبية. فالوقود ضروري لنقل البضائع ولعمل مضخات الماء ومولدات الكهرباء العديدة الخاصة والمتعددة الحجم، والتي تقوم مكان شبكة الكهرباء الحكومية التي دمرتها الحرب. وقد تسبب التحالف في تأخير جميع ناقلات النفط، بموافقة الحكومة المعترف بها دوليا. ففي الثلاثية الأولى من هذه السنة، لم يتم تنزيل سوى 8% من حاجيات الديزل و0% من حاجيات البنزين. لا عجب إذن أن المستشفيات لم تعد قادرة على تشغيل مولداتها بسبب نقص الكهرباء، ناهيك عن إغلاق المصانع وغيرها من المؤسسات.

تصعيد في مأرب

رغم المجاعة والأمراض وغيرها من الأهوال، تتواصل الحرب ويواصل المستفيدون من كل المشارب نشاطهم. منذ بداية شهر فبراير/شباط، تركز النشاط العسكري حول الهجوم الجديد الذي يقوده الحوثيون على مدينة مأرب والتي تقع على بعد 170 كيلومترا شرق العاصمة صنعاء. وقد بدأ هذا الهجوم مطلع سنة 2020، لكنه تصاعد مؤخرا، وقد كثفت السعودية قصفها الجوي لتمنع الحوثيين من التقدم على المسافة الصغيرة التي تفصلهم عن المدينة، لكنهم يسيطرون على جزء من المخيمات التي استقر فيها اليمنيون النازحون وعددها 130. وتعد مدينة مأرب حاليا أكثر من مليون ساكنا، من بينهم مئات آلاف النازحين.

العزيمة التي يبديها طرفا الحرب أفضل دليل على أهمية مدينة مأرب. وقد قامت القوات المناهضة للحوثيين بتعبئة قوات كانت موجودة على جبهات أخرى لتعزيز مقاومتها على جبهة مأرب، بما في ذلك بعض القوات التي لديها علاقة صعبة بالحكومة المعترف بها دوليا. فمأرب هي آخر مدينة كبيرة ما زالت تحت سلطة الأخيرة التي لا تتمتع بوجود قوي في عاصمتها الرسمية “المؤقتة” عدن بسبب الصراعات الحالية في صفوف القوات المناهضة للحوثيين ومن بينها الفصيل الانفصالي الذي يُعرف تحت اسم “المجلس الانتقالي الجنوبي”. كما تأوي مأرب كبار مسؤولي الحكومة المعترف بها دوليا، لا سيما أولئك الذين أتوا من شمال البلاد، والتي تحظى بإخلاص محافظ المدينة.

إلى حد الآن، تمكنت قوى الحكومة المعترف بها دوليا من مقاومة الحوثيين بفضل القصف الجوي السعودي. لكن نقص الدعم المادي يعرقل تقدم الجيش النظامي والعشائري المتواجد في الخط الأمامي على أرض المعركة، بسبب نقص العتاد والذخيرة. ويظن البعض أن الفساد الموجود في سلسلة الإمداد العسكري يساهم في إضعاف القوى المناهضة للحوثيين، وأن سبب نقص العتاد هو خوف السعوديين من أن ينتهي المطاف بالأسلحة التي تمدها عند الحوثيين، كما حدث في السابق.

هناك تفسير آخر ليس بديهيا لكنه مهم جدا، وهو المنافسة بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. فالأخيرة تساند بثبات حلفاءها في المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يعارض الحكومة، رغم أنهما شريكان في الحكم -رسميا- منذ ديسمبر/كانون الأول 2020. بيد أن مصالح المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يتميز بموقف انفصالي قد تتشارك مع مصالح الحوثيين، إذ أن هزيمة الحكومة قد تؤدي إلى مفاوضات بين “الشمال” و“الجنوب”، يكون فيها المجلس الانتقالي ممثلا عن الجنوب. لكن الحوثيين يواصلون التأكيد على دعمهم لفكرة يمن موحّد يكون لهم فيه السلطة المطلقة أو على الأقل التأثير الأهم.

أطلقت العديد من النداءات في الأعوام الأخيرة حتى يتم استبدال القرار 2216 بنص آخر يأخذ بعين الاعتبار واقع الوضع الراهن ويمكن اعتماده كقاعدة لمفاوضات جدية. لكن المملكة المتحدة التي تقود تحرير القرارات في مجلس الأمن تعطي الأولوية لعلاقاتها مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على حساب حياة 30 مليون يمني.

سقوط مدينة ومحافظة مأرب بين أيدي الحوثيين سيشكل نكسة كبيرة بالنسبة للحكومة وللسعوديين على السواء، من شأنها أن تضعفهم بشكل كبير في أي مفاوضات. من جهتهم، يواصل الحوثيون الهجوم رغم الخسائر المهمة التي يتكبدونها على أرضية غير مناسبة لقواتهم ومعداتهم. صحيح أنهم يهاجمون المدينة من الأمام لكنها ليست الأولوية بالنسبة لهم، فقد سيطروا خلال السنة الماضية على جزء كبير من المحافظة وهم يسعون حاليا من خلال حركة أشبه بحركة الكماشة أن يصلوا إلى موارد المحروقات والمصفاة ومحطة الطاقة. وستسمح لهم السيطرة على هذه الموارد دون إتلافها من حلّ مشاكلهم المالية واحتياجاتهم للوقود. أما المصلحة الإضافية فستكون قطع الطريق الرئيسية الرابطة بين حدود السعودية ومحافظات شبوة وحضرموت لفتح الطريق أمامهم نحو هذين المحافظتين، وربما حتى المهرة والحدود العمانية رغم بعدها (حوالي 900 كيلومتر).

تتزايد التوترات الداخلية لكل شق بتواصل معركة مأرب. يوجد من بين الحوثيين من هم مستعدون للتفاوض انطلاقا من مراكز القوة الحالية، بينما يصر آخرون على المراهنة على أسبقيتهم العسكرية حتى النهاية. أما بالنسبة للحكومة، فالحفاظ على سيطرتها على مأرب أمر ضروري، لكن المعركة مع المجلس الانتقالي لا تهدأ، إذ أن الأخير لم يتنازل عن سيطرته على عدن وبدا، مطلع شهر أبريل/نيسان، وكأنه يستعد لهجوم عسكري جديد ضد مجموعة الرئيس منصور هادي، بينما كانت المعارك في أبين قد انطلقت.

مبادرات جو بايدن والمملكة العربية السعودية

كان اليمن على رأس الأجندة الرئاسي الأمريكي منذ الأياما لأولى لإدارة الرئيس بايدن. ففي الرابع من فبراير/شباط، خلال خطابه الأول حول السياسة الخارجية، أعلن الرئيس الأمريكي أن نهاية الحرب في اليمن أولوية ديبلوماسية “لفرض وقف إطلاق نار [...] وإعادة إقامة محادثات السلام التي علّقت منذ فترة طويلة”. وستضع الولايات المتحدة حدا “للدعم أمريكي للعمليات الهجومية في الحرب باليمن، بما في ذلك بيع الأسلحة”، لكنها ستواصل في نفس الوقت “دعم ومساعدة المملكة العربية السعودية في الدفاع عن سيادتها وسلامتها الإقليمية وشعبها”.

إذا أخذنا بعين الاعتبار الهجمات التي تكاد تكون يومية والتي يشنها الحوثيون على المملكة بواسطة الصواريخ والطائرات دون طيار، فقد لا يكون هذا الوقت الأمثل بالنسبة للولايات المتحدة لوقف بيع الأسلحة للرياض. فلولا القصف الجوي السعودي حول مارب، لانهزمت الحكومة المعترف بها دوليا خلال أسابيع. وقد قام الموفد الأمريكي الخاص تيم ليندركينغ الذي تم تعيينه يوم الخطاب بجولة طويلة في المنطقة، اكتشف خلالها أن وضع حد للحرب لا يتوقف على الضغط على النظام السعودي.

يبدو أن بايدن أخطأ التقدير عندما ظن أن الملف اليمني سهل نسبيا، مقارنة ببقية الفخاخ التي تركها دونالد ترامب خلفه: توترات كبيرة مع روسيا والصين وكوريا الشمالية، وتدفق المهاجرين على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، وعلى المستوى الداخلي، أزمة كوفيد-19. جزء كبير من الكونغرس يساند فكرة وقف بيع الأسلحة للمملكة حتى يعي ولي العهد محمد بن سلمان أن زمن الدعم اللا مشروط قد ولّى. وقد يساعد ذلك في المحادثات مع إيران حول خطة العمل الشاملة المشتركة، مستند المعاهدة النووية الإيرانية. لكن بعد مرور شهرين، يبدو الوضع أكثر تعقيدا.

علاوة على كون الهجمات الحوثية على الأراضي السعودية تبرر تواصل الدعم العسكري للرياض، توجد صعوبات أخرى، أهمها الهدف المعلن من طرف إدارة بايدن بالعمل ضمن الإطار الذي يفرضه مجلس الأمن. فأهم قرار أممي حول اليمن هو القرار 2216 بتاريخ أبريل/نيسان 2015 والذي يفرض استسلام الحوثيين وانسحابهم إلى مواقعهم قبل سنة 2014. لكنهم اليوم يسيطرون على الجزء الأكبر من الشعب اليمني وعلى مناطق أوسع بكثير من تلك التي كانوا يتحكمون فيها سنة 2014، لذا فمن المحال أن يقبلوا بهذا الشرط.

أطلقت العديد من النداءات في الأعوام الأخيرة حتى يتم استبدال القرار 2216 بنص آخر يأخذ بعين الاعتبار واقع الوضع الراهن ويمكن اعتماده كقاعدة لمفاوضات جدية. لكن المملكة المتحدة التي تقود تحرير القرارات في مجلس الأمن تعطي الأولوية لعلاقاتها مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على حساب حياة 30 مليون يمني. بإمكان الولايات المتحدة أن تتولى هذه المبادرة بحكم تأثيرها على المملكة المتحدة.

بعد مضي قرابة شهرين عن مبادرة بايدن، وكما قبيل رمضان في السنة الماضية، أعلن السعوديون مبادرتهم الخاصة بـ“خطة وقف إطلاق النار”، الذي لم يكن له تأثير كبير منذ سنة على مستوى المعارك. وقد تشهد الخطة الحالية المصير نفسه، إذ تم رفضها في الإبان من قبل الحوثيين الذين أعلنوا أنها لا تمثل تحسنا مقارنة بالمقترحات السابقة. وينتبنا نفس الشعور عند قراءة نص هذه الخطة التي تستند إلى “ثلاثة مراجع”، وهي قرار 2216 لمجلس الأمن، ونتائج مؤتمر الحوار الوطني (الذي انتهى مطلع 2014)، واتفاق مجلس التعاون الخليجي لسنة 2011. وإن كان المرجعان الأخيران غير دقيقين، فإن الاستناد إلى المرجع الأول لا يمكن أن يفضي إلا إلى رفض الحوثيين. كما أن اقتراحات الخطة بإعادة فتح مطار صنعاء والوصول إلى ميناء الحديدة مشروط، في حين أنها تتجاهل مطالب الحوثيين برفع لا مشروط للحصار ووقف تام للقصف الجوي.

وضع داخلي شائك

خلال السنوات الست الأخيرة، ما فتئ القادة اليمنيون والأمم المتحدة وباقي المسؤولون الدوليون المعنيون بهذا الملف بالقول إن حل هذه الأزمة لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، بينما كانوا يطبقون عمليا خطة عسكرية. وقد أفضت جهود الأمم المتحدة الديبلوماسية المتواصلة إلى انعقاد ثلاث اجتماعات خلال العامين الأولين، من بينها ثلاثة أشهر من المفاوضات غير المجدية في 2016. وقد تم على نطاق واسع تقديم اتفاقية ستوكهولم (ديسمبر/كانون الأول 2018) على أنها خطوة أولى نحو السلام، لكنها لم تسفر سوى على وقف إطلاق نار محدود في الحديدة واستقرار بعثة أممية في المدينة. لكن هذه البعثة علقت أشغالها منذ أكثر من سنة. واكتفت الحكومة المعترف بها دوليا بشعار “المراجع الثلاثة”.

إن عجز السياسة اليمنية الرسمية خلال السنوات الأخيرة مثير للانتباه، بينما نشهد إنشاء تنظيمات منافسة في الجنوب، إن كانت انفصالية أم لا، ومعارك فردية حول مناصب حكومية. لكن هذا الوضع قد يتغير، إذ أعلن طارق صالح -ابن أخ الرئيس السابق علي عبد الله صالح وقائد المؤسسة العسكرية الرئيسية التي تساندها دولة الإمارات- في 25 مارس/آذار عن إنشاء مكتب سياسي سيباشر أعماله في منطقة تهامة. وهو لا يتمتع ببرنامج خاص، بل يقترح المشاركة في المفاوضات المستقبلية على نفس أسس مشاركة المجلس الانتقالي الجنوبي".

بعيد هذا الإعلان، تداولت معلومات حول إنشاء جبهة إنقاذ وطني بمشاركة عناصر مختلفة من بينها “الإصلاح” (النابعة من حركة الإخوان المسلمين) والجنوبيين وبعض العناصر المعزولة التابعة للمؤتمر الشعبي العام، وهو حزب الرئيس السابق علي عبد الله صالح. لكنهم إلى اليوم لم يتحدثوا باسم برنامج واضح.

قد يستحسن الملاحظون ظهور مجموعات سياسية جديدة، لكن المجموعتين الأخيرتين تعدان قيادات من المنظومة القديمة ذات الخلفيات المشبوهة. من غير المحتمل إذن أن تضع هذه المجموعات منظمات قادرة على تلبية المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية والسياسية لمعظم اليمنيين. لكن قد يحث وجودهم أشخاصا آخرين ملتزمين حقا بمبادئ العدالة والتنمية على اقتراح البديل.

[ترجمت المقال من الفرنسية سارة قريرة.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت] 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬