الجنس والسِجن: مَن يمتلك حقّ الجسد؟

[رسم ديما دالي، فنانة سورية، الصورة من كتاب "أجساد راقصة" للكاتب] [رسم ديما دالي، فنانة سورية، الصورة من كتاب "أجساد راقصة" للكاتب]

الجنس والسِجن: مَن يمتلك حقّ الجسد؟

By : Ahmed Abdel Halim أحمد عبد الحليم

مقدمة

نال السجناء السياسيون في الكثير من الدراسات، وبالأخص الدراسات الحقوقية، القدر الأكبر من الاهتمام، لما لديهم من قضايا تشغل الرأي العام، بالإضافة إلى ما يحدث لهم من انتهاكات إنسانية وحقوقية يدوّى صداها في منظمات إعلاميّة بعيّنها. ولذا نحن في دراستنا لا نفرّق بين سجين وسجين، نحن نتناول النفس السجينيّة وجسدها غاضّينَ البصر عن أيديولوجيتها أو انتمائها. وبما أننا نُحاجّجّ أنّ المؤسسة العقابية في مصر، هي بيوسلّطة [1] biopower تُهندس جسد وروح السجين من جديد ليُصبح آلة إنتاجٍ صغيرة في منظومة عملٍ كبرى، نتساءل ماذا عن الاحتياج الجنسي الغريزي للإنسان/ بوصفه سجين/ة؟

وانطلاقا من هنا. نحاول مناقشة الاحتياج الجنسي للسجين/ة في مصر. عن طريق توضيح الفلسفة الحياتية داخل السجن. والسياق التاريخي والنفسي للاحتياج الجنسي داخل السجن، فضلا عن قصص هؤلاء السجناء/السجينات وما هي الطرق والوسائل التي ربما يستخدمونها لإشباع هذا الاحتياج، وكيف تُحوّكم السلطة احتياجات الجنس لدى السجناء؟ وما هي محاولات التقنين في السياق التاريخي والحقوقي؟ نحاجج أيضا أن الجنس كرمزيّةٍ سياسية هو بمثابة ثورة تحرريّة ضد أي نوع استبداديٍّ قائم.

الحياة داخل السجن.. جسدٌ ورقم

بدايةً، منذ نزول السجين بنوعيه الثابت ورقيا أكان ذكرا أو أنثى من عربة الترحيلات ودخوله إلى بوابة السجن، وصولا إلى التسكين في عنبر وزنزانة بعينها، يُعامل من قِبل السلطة العقابية على أنّه جسدٌ مُرقّم جديد، أتى لها وبدورها تبدأ في هندسته على الحياة الجديدة التي سوف يعيشها، حياة الخضوع لسلطة أقوى منه بكثير. حيث مع الوقت تبدأ السلطة في محو كينونة وذات هذا السجين، وتهندس جسده على حركاتٍ بعينها، كلّها بلا استثناء تدل على الخضوع والطاعة العمياء لتلك السلطة[2].

تستخدم السلطة وسائل عدّة أشهرها الضرب المُبرح عند دخول السجين الجديد من بوابة السجن فيما يُعرف بالتشريفة، ناهيك عن عُريّ الجسد عدا الشورت الداخليّ فقط، مرورا بتسكينِه بدايةً فيما يُعرف بالإيراد لمدة قانونية تُقدّر ب 11 يوما، في غرفةٍ مزدحمة بالسجناء حتى يتم توزيعه على العنبر والزنزانة المكتوبة عليه الإقامة فيها[3].

أما فيما يخصّ جسد السجين، لا سيّما الأعضاء التناسلية منه، فَتستبيحها السلطة، وهذا ما يستغربه الكثيرون من السجناء، خاصةً السجينات، لأنّهم لم يتوقعوا أن تتعامل سلطة السجن مع أجسادهم بتلك الاستباحة. فمع السجين يتم دعك الخصيتين عند التفتيش بواسطة رجل السلطة، وبعد الانتهاء من التفتيش يأُخذ السجين "الإيراد الجديد" إلى زنزانة تكون أكثر ضيقا ويُجبر على التقرفص ويبدأ في التبرّز أمام رجل السلطة، ومن ثمّ يفرز رجل السلطة برازه حتى يتأكد أنّه لم يخبئ شيئا في فتحة شرجه[4].

وبِخصوص السجينة تتعامل السلطة العقابية معها بتلك الإجراءات بلا اختلاف غير أنّ "رجل" السلطة تكون امرأة. سواء مسؤولة داخل السجن، أو سجينة جنائية قديمة تستخدمها السلطة في تفتيش السجينات الجديدات. يتم التفتيش في غرفةٍ ما داخل أحد المباني السجينية بالداخل. تطلب المفتشة من السجينة خلع ملابسها كُليّا ومن ثمَّ تنحني إلى الأمام بِجسدها وبدورها، أي المفتشة، تمسك كيسا في كفّة يدها وتفحص فتحة شرج السجينة، ومرة أُخرى عند مِهبلها، وبذلك ينتهي التفتيش وتُسكّن السجينة الجديدة في الإيراد، لمدةٍ زمنية تزيد أو تقل عن 11 يوما، ثمَّ تُسكّن في عنبر السجينات المُقيمات[5].

بهذه الإجراءات، تبرهن السلطة العقابية منذ البداية استباحتها لِجسد السجين واقتحامها خصوصيته، بل وتعريته أمام ذاته. يشعر بطريقة أو بأُخرى أنّ لا قيمة لما يُسمّيه خصوصيته وحاجته في الاحتفاظ بأقل الأشياء التي تجعل منه إنسانا ذو قيمة، وله احتياجات إنسانية تساعده على العيش والتأقلم، وليس جسدا خشبيا أو آلة مُرقّمة، تتعامل معها السلطة السجينية القائمة على حياته[6].

السردية النفسية للاحتياج الجنسي

لا يستطيع أي شخص بالغ أن يعيش سنواتٍ طويلة دون ممارسة الجنس، ولكنّ السجين في مصر تُلازمه تلك المُعضلة التي لم تُحلّ إلى الآن من قبل الجهات المُشرعة والمُنفذة للقوانين التي تخص حقوق السجين كنفس بشرية تحتاج إلى الكرامة والعدل [7].

الجنس عند فرويد هو تفسيرٌ لكل شيءٍ واقعيّ وغير واقعي. يُعطي فرويد الاحتياج الجنسي للإنسان أهميةً كبيرةً جدا، أهمية يستطيع من خلالها معرفة ومعالجة السلوكيات العصبية للإنسان التي برأيه هي لغزها الوحيد في الاحتياج والنشاط الجنسي له[8].

في مصر يُحرم السجين لسنوات طويلة من عمره من هذا الاحتياج الغريزيّ، من الجماع مع الزوجة، وتحرم الزوجة كذلك من جِماع زوجها، ممّا يسبب أضرارا نفسية وسلوكية لكلٍ منهما يترتب عليها تكسير نفسية السجين/ة داخل السجن، وربما في الخارج تحدّث حالات طلاقٍ أو خلعٍ من كلا الطرفين وتذوب الأسرة بشكلٍ كامل بسبب نظام لا يُراعي أدنى الحقوق الغريزية السجناء. 

الجنس والسجين، كواليس سجينيّة

يبقى السجين حائرا متحيرا في تلك الغريزة التي تلحُ عليه دائما ولا طريقة أو خُلوة تجمعه بزوجته أو زوجها. وحتى السجين الأعزب لا خروج له حتى يقيم علاقات جنسية في الخارج، لذلك يلجأ السجين إلى عدة وسائل وطرق لِتصبير حاجته إلى الجنس.

عندما يجتمع السجين مع زوجته خلال زيارة الثانية له، يحاول بعض السجناء التقرب من زوجته أكثر وأكثر، وإقامة علاقة غير متكاملة معها، مثل تقبيلها أو ملامسة جسدها بطريقةٍ حميميّة، وهى الأُخرى بدورها تفعل مثله، قد يصل إحداهما إلى النشوة. لكن، مثل تلك الأمور تكون بطريقة مواربة عن أعين مُخبري ورجال السلطة المتواجدين في فضاء الزيارة، فإن حدث وتمّت رؤية الزوجين وهما يلامسان بعضهما البعض بطريقة حميمة، تُلغى زيارة السجين، ويُؤخذ إلى التأديب بعد ضربه في معظم الأوقات لعدم احترامه آداب الزيارة. ولذا تحاول السلطة إغلاق الحمامات إن وجدت في قاعات الزيارة، حتى لا يتم دخولها من قبل المتزوجين، وينتشر مخبرو وأمناء الشرطة لمراقبة السجناء والزائرين لضمان عدم وجود أي مخالفات أخلاقية. السجناء يعرفون بالطبع عقاب السلطة لهم عند امساكهم في تلك الحالة مع زوجاتهنّ. لكنّ الاحتياج يغلب أحياناً الخوف من العقاب والتأديب [9].

في وقت آخر، داخل إحدى السجون في منطقة الدلتا، أتى طاقم تمريض (الطاقم عبارة عن مُمرضاتٍ شاباتٍ) لتطعيم نزلاء السجن كافّة. تأهب السجن كسُلطة، وقام رؤساؤه باستدعاء كتيبةً من قوات الأمن المجاورة للسجن لوجودهم في حالة حدوث أي شغبٍ. كان حديث السجناء وقتها في أعينهم، وهم يتحسسون عن بُعد أجساد المُمرضات، فهم في حرمانٍ دائم لرؤية أجساد الطرف الآخر من العلاقة، لذلك كان الأمر بالنسبة للسجناء شيئاً غير اعتيادي وحديثاً للساعة واليوم. حيث رأوا أجساد النساء عن قرب، وأيادي الممرضات تلمس أجسادهم لإعطائهم حقنة التطعيم. يعرف رجال السلطة السجينية أيضا خطورة هذا الأمر سيّما من النزلاء الجنائيين، حيث يكونون أكثر جرأةً من السياسيين الذي يغلبُ عليهم الطابع الأخلاقي، لذلك استُدعيتْ قواتٍ الأمن لِمَنع الشغب تخوّفا من أي حالاتٍ للتحرش أو ما شابه [10].

يُسمح أيضا للسجناء دخول الجرائد والمجلات مع الزائرين أو حتى شرائها من داخل "كنتين" السجن. وفي عنابر النزلاء الجنائيين تتوفر بعض قنوات التلفزيون للمشاهدة، عكس السياسيين الذين لا يتمتّعون بمشاهدة قنوات التلفاز، وهذا ربما لإمكانية عزل عقولهم عن متابعة الأحداث السياسيّة في البلاد. تتوفّر داخل تلك الجرائد والمجلات وقنوات التلفزيون صور لفنانات أو راقصات ضمن الأخبار واللقاءات الفنيّة وغيرها، ولذا تكون تلك الصور هي بمثابة مِخيال جنسيّ جديد ودائم في عقلية السجين المحروم من حاجته الغريزية لجسد المرأة [11.

مع تلك الوسائل القليلة المسموحة للسجين من قبل السلطة، تبقى وسيلة السجين الأولى في تفريغ كبته الجنسيّ هي الاستمناء. وهي تحدث بالفعل بين الرجال المتزوجين أو العزباء حيث يذهب كلٌ منهم إلى الخلاء (دورة المياه) ويُفرغ منيته على مِخياله الجنسي الذي أتى به لنفسه. وينطبق الأمر على السجينات النساء اللواتي لا يختلفنَّ عن الرجال في حاجتهنّ لِلإشباع الجنسي، فضلا عن الاحتلام وهي الظاهرة الطبيعية التي تحدث للبالغين أثناء نومهم عند استدعاء عقلهم اللاواعي مخيالاً جنسيّاً معيناً [12] [13].

من قراءات وشهادات سابقة وحالية يتبيّن أنّ مُمارسة العلاقات المثليّة داخل المجتمع السجينيّ ليست بالنسبة الهينة. لكن تصريحات سابقة لوزارة الداخلية قالت إنّ وجود مثل تلك العلاقات بالفعل أمر واقعيّ، ولكنّه بنسبٍ بسيطةٍ جدا، وتكون خفاءً بين مُريدي تلك العلاقة، وهى غير مقبولة تماما سواء وسط السجناء أو السلطة. ما يأخذنا إلى الثقافة الذكورية داخل الفضاء السجيني، حيث مكانة السجين بداخله ترتقي أو تنخفض حسب قوة العضلات وفحولتها، خشونة الصوت، وطريقة المشي. إذ يُكنّى السجين الذي لا تتوفّر فيه تلك السمات بألقابٍ مثل (الحاج - عجلة - جدع ميري) دلالةً على أنّ هذا السجين يميل إلى المضاجعة من الرجال، وعند النساء كذلك، تُلقّب السجينة التي يُلاحظ عليها ميّلها إلى ممارسة الجنس المثلي بألقاب (مخاوية - مركوبة) ويُنبذون جميعهم وتُسلّط عليهم أجساد زملائهم/ن للافتراء عليهم واحتقارهم داخل الزنزانة والعنبر. بينما تعاقب السلطة السجناء والسجينات، بعمل محضرٍ لهم، وتأديبهم بشكلٍ عنيف جدا، أحيانا بفلك الرجال وسط ساحة مَكانيّة فارغة للعقاب، وضرب مُبرح من مخبري السلطة للنساء، وعزلهم في التأديب أو نقلهم إلى عنبرٍ أشدّ قسوة معيشيّة، وأوقات أُخرى تَغريبهم إلى سجنٍ آخر [14] [15].

لا تهتم السلطة بإبداء ما وراء إقامة تلك العلاقة، هل هو احتياج جنسي للطرف الآخر أدى إلى وقوع علاقة مثلية الجنس كنوعٍ من محاكاة الآخر وفقط، بعض الأطباء في وقت سابق، وعلى رأسهم نقيب الأطباء المصري السابق الدكتور حمدي السيد، ذكروا أن انتشار حالات المثلية بين السجناء، هو أمرٌ فُرِض على السجين نفسيا وجسديا نظرا لحرمانه واحتياجه لإقامة العلاقة الجنسية، أيضا عن طريق محاكاة الأجساد لبعضها البعض في الزنازين الضيّقة حيث ينام السجين ملاصقا بشدّة لِجسد السجين الآخر، وربما في أوقاتٍ كثيرة، يصل هذا الالتصاق لاحتكاك قضيب الجسد في مؤخرة الجسد اللاصق، فضلا عن استباحة عُريّ الجسد في تلك الأماكن، حيث في أماكن الاحتجاز الأكثر عشوائية، أي أقسام ومراكز الاحتجاز الفورية، ربما يستحم السجين مع زميله في وقتٍ واحد، وغير ذلك من مواقف مستباحة للجسد وعوراته تصل إلى العنف الجنسيّ والاغتصاب [16] [17].

وفي أوقاتٍ أُخرى يكون السجين مثليّ الجنس، وتلك تكون فرصة له للبحث عن صديق وشخص آمن يقيم تلك العلاقة معه في الخفاء بعيدا عن السجناء الآخرين ورجال السلطة داخل السجن وذلك اجتنابا وخوفا من العقاب الذي سيحلّ بهما [18]

تلك الوسائل والطرق الذي يستخدمها السجين في حاجته الجنسيّة، ليست سرديات لحظية حدثت مؤخرا، بل هي سرديةٌ تاريخية موجودة منذ نشأة السجون الحديثة في مصر وتكدسها بالسجناء. تجد حكايات الروائي صنع الله إبراهيم في مذكراته "أيام الواحات" عندما كان سجينا  فيما يخص استباحة الجنائيين لحرمات الأجساد، بل وتجسسهم أيضًا عليها، يتذكر بينما هو نائمٌ على سريره يحاول الاستمناء بيدهِ، حيث انقض عليه سجينٌ آخر ليكشف عملية استمنائه حتى أفسدها عليّه. يحكي صنع الله أيضا ذكرى أُخرى في كتابه "شرف" عن العلاقات الجنسية المثليّة التي كانت قائمة بين السجناء فضلًا عن حالات العنف الجسدي التي تصل إلى اغتصاب جنسيٍّ أحيانًا، نتيجةً لفقرهم الجنسي وحرمانهم من الإناث لأعوام كثيرة حتى شُوّهت ميولهم وأصبحت "شاذة" بتعبير رفقاء الروائي صنع الله [19] [20].

كيف تحوكم السلطة الاحتياج الجنسي للسجناء؟

تعرف السلطة جيدا الاحتياج المتلازم والغريزي لسُجنائها رجالا ونساءً، ولكنّها تحاول حوكمته بعدة وسائل غاضّة البصر عن هذا الاحتياج، وتبرر ذلك دائما أنّها ليست جهة تشريعية، بل هي جهةٌ منفّذة للقانون، فحينَ يُشرَّع قانون لتلبية الاحتياج الجنسي للسجين، وقّتها تبدأ السلطة العقابية في تنفيذه وفقا للوائح المتاحة، قد يبدو قانونيا هذا الأمر منطقيا، ولكنّه فلسفيا، وبالنظر إلى الحياة السجينيّة شيئا خياليًا، فالسجين في نظر السلطة العقابية جسدٌ مرقّم فقط، تستلمه وتهندسه على الخضوع والطاعة للقانون المرئيّ وفقا لنظام حياتها، بل تصنع من جسده آلة إنتاج جديدة تساعده في العمل داخل السجن في الورش والتصنيع ومخابز العيش والكنتين والحلاقة والمَطبخ لطهي الطعام، وتلك الخدمات بالطبع تقدم لآلاف السجناء المتواجدين داخل السجن، بالإضافة إلى مئات من رجال السلطة من ضباط وأمناء ومُخبري الشرطة، براتبٍ يوميّ قدره 7 جنيهات فقط، راتبٌ ضئيلٌ جدا من المستحيل أنّ تدفعه السلطة لأي عامل تأتي به من الخارج للعمل في خدمات تلك المنظومة [21].

السجين/ة تمتلكه السلطة العقابية وفقا لفلسفة حياتها، منذ دخوله السجن حتى الإفراج عنّه، تمتلك السلطة كل ما في السجين، روحه وذاته وجسده، وتبدأ في مَحو قيمته الإنسانية، بدايةً بعري جسده، واستباحة أعضائه التناسلية وهى قيْد تفتيش السلطة على الملأ، وعن طريق فلسفة التعامل اليومية، يُهندس جسد السجين على الخضوع والطاعة. فَينام ويستيقظ ويتحدث ويعمل ويتحرك كما تُملي عليه فلسفة القانون المرئيّ التي تُحددها السلطة.

لذا هي تعرف بالتأكيد استمناء السجين/ة لتفريغ كَبته الجنسي المتلازم والمتجدد، فضلا عن محاولة تشكّلات العلاقات مثليّة الجنس، ولكن هي تحوّكم الوسائل، أي تُفتش عن الجرائد والمجلات التي تدخل للسجين، إن تواجدت فيها صور غير لائقة ومثيرة تمنع دخولها على الفور، وهذا أيضا يرجع لنِسبيّة الحكم لدى المفتش، أيضا تمنع السلطة قنوات الفضائيات في تلفزيونات العنابر، تكتفي بعدة قنوات لِمشاهدة المباريات وأهم الأخبار القومية مثل إنشاء المشاريع الحكومية الكبرى وغير ذلك، ومن يتحكّم في المشاهدة هو نوبتجي الزنزانة وهو على صلة رسمية بأمناء الشرطة ومُخبري السلطة، أيضا يُراقب بدوّره سلوك السجناء، كيفية نومهم بجانب بعضهم البعض، حيث يُجرّم في كافة السجون نوم سجينين أو سجينتين على سرير واحد، أيضا لا يُطفأ نور الزنزانة أو العنبر ليلا لبقاء السجناء والسجينات تحت عين نوبتجي الزنزانة أو مخبري وأمناء العنبر، ذلك لمنع اقتراب السجناء من بعضهم ليلا، بالإضافة إلى سلوكهم تجاه بعضهم البعض في طريقة الحديث، ويُبلّغ عنهم إن وُجدتْ أي علاقةٍ جنسيةٍ بين السجناء ليتم معاقبتهِم وتأديبهم بواسطة رجال السلطة[22].

هذا العقاب قد يكون كافيا لردع أي سلوكٍ جنسيٍّ يصدر من السجناء مع بعضهم البعض، لذلك يحرص السجين وخاصةً الرجل أن يكون شديدا في كلامه، غلظا، كمدلول على ذكوريته الكاملة           لتي تتماهى مع الثقافة السجينيّة حيث أي حركات شفهية أو جسدية تدل على ثقافة أنثوية داخل الفضاء السجينيّ تجعل منه عُرضةً لكثير من المصائب كالانتهاكات الجنسيّة من زملائه السجناء، وكنيته وسطهم بأسماءٍ أنثوية، أو شتائم دالة على عدم ذكوريته، فضلا عن عدم أخذ حقّه في الطعام أو النوم مثل بقية زملائه بحجّة أنّه ليس رجلا، بل وضعيفا غير قادرٍ على أخذ حقّه بالقوة، ناهيك عن العقاب الرادع من السلطة إثر التبليغ عن أي سلوك ينتهك الثقافة الذكورية داخل السجن [23].

محاولات تقنين الخلوة الشرعية في السياق التاريخي والحقوقي

منذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الحكومة الخديويّة تحت الإشراف والرعاية البريطانية في التوسع في بناء السجون، وقتئذٍ تم بناء سجن سوهاج وأسيوط والجيزة في الفترة بين 1984 إلى 1912، زاد هذا التوسع أكثر في فترة حكم ضباط المؤسسة العسكرية بدايةً من حكم الرئيس العسكري الأول محمد نجيب وصولا إلى الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، (نستثني هنا فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي يونيو 2012 - يوليو 2013) حيث تم بناء منطقة سجون طرة وهى الأشهر حالياً في مصر، ليأتي الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي ويُفتتح في عهده 26 سجنا آخرا، ليصل التعداد النهائي للسجون في مصر إلى 68 سجنا بنوعيّه العمومي والمركزي، بينما لا توجد إحصائية ثابتة لأعداد السجناء في مصر بشقيّهم السياسيّ والجنائيّ، حيث يتم يوميا الإفراج والحكم على عشرات أو مئات السجناء، ولكنّ بعض التصريحات تقول أنّ في مصر 114 آلف سجين بينهم كحدّ أقصى 60 ألف سجين سياسيّ [24] [25].

إذا يعيش الآن في أقل تقدير ما يقرُب من 114 ألف سجين بحاجةٍ إلى حقّهم في الممارسة الجنسيّة، ومع مرور تلك السنوات وتوسع الدولة وبيروقراطيتها السجينية في الإنشاء والتكدس إلّا أنّه لم يُقنن إلى الآن قانون الخلوة الشرعية وحق الزوج في جماع زوجته، لكنّ هذا الحق اقتصر على أُناس بعينهم وفقا لمصالح وتسهيلات إدارة مصلحة السجون والقائمين على السجن لِسجين بعينه دون سجين آخر، حيث تعود أولى الخلوات الشرعية في السجون المصرية إلى عام 1952، عندما سُجن وزير حربية الملك فاروق وهو اللواء حسين سري عامر، وقد سُمح له بالجِماع مع زوجته، أيضا أثناء تولي الرئيس المخلوع حسني مبارك الحكم، حيث دخل آلاف السجناء من أبناء وقيادات الجماعات الإسلامية إلى المعتقلات، حينها أول من قام بالخلوة الشرعية داخل السجون هو الشيخ عمر عبد الرحمن، حيث اختلى بزوجته عام 1983 وجامعها وقد أنجبت منه، قبل أن يخرج ويتمّ القبض عليه ويُسجن مرةً أُخرى في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أنّ يُفارق الحياة وهو سجين لديها، ومع بداية الألفية وبعد مبادرة قيادات الجماعة الإسلامية لنبذ العنف، قام القياديّ بالجماعة نبيل نعيم بالاتفاق مع إدارة مباحث سجن طرة بتنظيم الخلوة الشرعية للكثير من قيادات الجماعة الإسلامية مع زوجاتهم كان أشهرهم كرم زهدي وناجح إبراهيم وعصام دربالة وعلي الشريف [26] [27].

بين عاميّ 2000 إلى 2010، وخلال تلك المدتيّن البرلمانيتيّن، طُرح قانون الخلوة الشرعية في السجون المصرية بواسطة النائب أكرم الشاعر المنتمي لجماعة الإخوان. ساعدته في ذلك الطرح مناشدات نقيب الأطباء وقتها الدكتور حمدي السيد بضرورة تقنين الخلوة الشرعية حفاظا على صحة السجناء، حيث رجّح الثاني الإصابة بمرض ضعف المناعة "الإيدز" بين السجناء بسبب ممارساتٍ جنسيةٍ بين بعضهم البعض. عندئذٍ طالب بِضرورة تقنين وتنفيذ قانون الخلوة الشرعية منعا لانتشار المثليّة بين السجناء. على نفس السياق وصّت لجنة حقوق الإنسان في البرلمان المصري برئاسة الدكتور إدوارد غالي بضرورة تقنين الخلوة الشرعية وذلك لحق السجين في حاجته الغريزيّة، فضلا عن سلامته الصحية والنفسية [28].

بين تلك المحاولات وُجد رأيان متعارضان. الأول وهو ما تحدّث عنه بعض القانونيين والبرلمانيين والأطباء بحق الخلوة الشرعية استنادا لفتاوى شرعية قد صدرت من قِبل مُفتيّ الجمهورية الأسبقين الدكتور نصر فريد (1996-2002) والدكتور على جمعة (2003-2013) تؤكّد على حق وإباحة الجماع بين السجين وزوجته أثناء فترة سجنه، وأن تلك الخلوة هي من الحق الديني والإنساني للسجين، حيث بذلك يُحافظ السجين على نفسه ويتشجع إلى التوبة والإصلاح، بل ويخاف الرجوع إلى السجن مرّةً أُخرى بعد خروجه منه، ومن ناحيةٍ أُخرى تُحافظ المرأة على شرفها وعلى تربية أولادها ويساعدها ذلك في عدم الانجرار إلى الانحرافات الأخلاقية وإقامة علاقات غير شرعية.

لكنّ تلك الدعوات ومناقشة تلك القوانين كانت تُقابل بردة فعل مليئة بالتحفظات من وزارة الداخلية، أوّلها أنّها ليست جهة تشريعية، هي جهة منفّذة للقانون، وفي حالة التقنين يجب على الحكومة أن توفّر لها ما تحتاجه، بشأن تنفيذ ذلك التقنين فيما يخص آلاف السجناء، لأنه من البديهي سيحتاج هؤلاء إلى مبانٍ أُخرى داخل السجن لإقامة تلك العلاقة، وحراسة أٌخرى عليهم، وجدولة المواعيد، وتوثيق الأوراق التي تُثبت صحة الزواج، وماذا لو زوجة السجين سجينةٌ مثله، فمن سينتقل إلى من؟ ومن مُكلف بالنقل والترحيل؟ والسجين أو السجينة العزباء، بالطبع يريدون الزواج، وماذا عن الرجل المتزوج بأكثر من امرأة؟ مَن سـتأتي منهنّ؟ إلى آخره من إجراءات مُعقّدة بشأن عشرات الآلاف من السجناء في دولة تمتاز ببيروقراطيّة عريضة وطويلة في إجراءاتِها.

في الجهة المقابلة، عارض علماء دين وأساتذة للاجتماع وحقوقيون تقنين الخلوة الشرعية للسجين/ة، كالدكتورة سعاد صالح عميد كلية الدراسات الإسلامية بالأزهر الشريف، والنائب العام السابق جمال شومان، حيث أقاموا حجّتهم على أنّ السجين هو شخص مُعاقب بسلب حريّته ومنعه من ملذات النفس البشرية بهدف ردعه عن فعلته الإجرامية التي أَدانه القانون بها. من ضمن الأسباب أيضا أن نسبة كبيرة من السجناء قد تصل إلى أكثر من النصف مُدة عقابها السجيني لا يتجاوز العام، وتلك ليست مُدة زمنية قاسية، أيضا حاججوا أن هذا التقنين سَيُشجع السجين على فعلته الإجرامية مرّةً أُخرى، وبالنسبة للمثليّة الجنسية داخل السجن فقد صرحت وزارة الداخلية وقتها أنّها تُجابه هذا الفعل وتعاقب أصحابه بعزلهم وتغريبهم من السجن [29].

بالرغم من تلك المحاولات وتأييدها ورفضها المطلق بين الأطراف المعنيّة، إلّا أن تلك المشاريع طُويت مرّةً أُخرى، منذ تولى النظام الحالي حكم مصر، أي بعد 3 يوليو 2013، وانتخاب رئيس مصري عام 2014 وإقرار البرلمان الجديد عام 2015، وبرلمان آخر عام 2020. لكن، إلى الآن لم تُناقش مسألة تقنين الخلوة الشرعية، ولم تُقدم قوانين ومشروعات جادّة حول إمكانية تشريع وتنفيذ حق السجناء في الزواج داخل أقبية السجون المصرية، يرجع ذلك إلى ضآلة المعارضة المصرية وأصوات حقوق الإنسان داخل البرلمان المصري، بل والتضييق الأمني على بعض المنظمات التي تسعى بدورها في إعداد التقارير والدراسات حول الإنسان/السجين/ة المصري.

أيضا شَغل السجين السياسيّ في مصر ما يقرب من نصف عدد السجناء حسب بعض التصريحات والبيانات. السجين السياسي الذي يُنكّل به داخل أقبية السجون منذ سبع سنوات، ويعاني المئات منهم من الحبس الانفراديّ، وسوء المعيشة من طعام وشراب ومنعٍ للملابس والدواء، وحرمانٍ من الزيارة في بعض الأحيان، يرجع هذا أيضا إلى خصومة السجين السياسي مباشرةً مع سُدّة النظام الجديد الذي يصرّح دائما أن ليس لدى دوّلته أي سجين للرأي، مخالفا كل التقارير الحقوقية المحلية والدولية، فمن المنطقي بدء السلطة التشريعية والتنفيذية الحالية في مراعاة أدنى حقوق السجين من معيشة لا تؤدى إلى موته كما يحدث بشكلٍ دوري، حيث يموت سنويا المئات داخل السجون المصرية، فإن كان حق العيش ليس متوفرا للسجين، فمن يفكر حاليا في حقّه في المُمارسة الجنسيّة خلال فترة عقابه [30].

الجنس كمقاومة

بدايةً. نحن نُحاجّج على حقيقّة أنّ السجن بعيدا عمّا ينصّ عليه الدستور والفضاءات الإعلامية والتصريحات الرسمية على أنّه فترة عقابية علاجية تشمل الإصلاح والتهذيب كي يعود السجين مُقوّم للحياة بصورة أفضل ممَّا كان عليها، بل إنّه فضاء يخضع للقانون المرئيّ، أي القانون الحياتيّ التي تضعه السلطة، فتخضع له روح وجسد السجين، وبما أن السلطة منذ بداية استلامها للسجين حتى تسكينه، تهندسه على إخضاع ونفي جسده وكينونته، إذا المُمارسة الجنسيّة هي بمثابة تحرّر من ذلك الخضوع، أي تعدّ الممارسة الجنسية للسجناء ضد ثقافة السلطة السجينية المُتبعة معهم [31].

يمتلك القضيب رمزية نفسية سياسية داخل كافة المجتمعات. المؤسسة السجينية هي مؤسسةٌ ذكوريةٌ بحتة من حيث ثقافتها القانونية والعرفية في فلسفة التعامل مع السجين، هي تتعامل بالأصح مع جسد السجين كآلةٍ إنتاج عاملة. ربما أفضل من تحدث عن هذه الرمزية النفسية هو فرويد في نظريته "حسد القضيب". يُبرهن فرويد على أنّ امتلاك قضيب فعّال هو بمثابة علو نفسي، انتقد وجادل فرويد الكثير من النسويّات مثل الكاتبتين الأمريكتين بيتي فريدان في كتابها "اللغز الأنثوي"، وكيت ميلت في كتابها "السياسية الجنسيّة"، والفرنسية سيمون دي بوفوار في كتابيها "الجنس الآخر" و"كيف تفكر المرأة"، والألمانية وإحدى تلميذاته كارين هورني بما سمّته بالنظرية المضادة أي "حسد الرحم"، في تنافسيّة بينهم عن القوة النفسانية البيولوجية لكلٍ من الذكر والأنثى. نحن هنا لسنا في محل جدالٍ بين النظريتين، بل نبرهن برمزيّة القضيب لسببين أولهما أنّ السجن في الأساس قائم على الذكورية، وفي مصر عدد السجناء الذكور أكثر من الإناث، والثاني لأن العقاب كسلّطة يرى بذكوريته أهمّية تعطيل قضيب السجناء الرجال كنوعٍ من أشكال هندسة الجسد للوصول إلى الخضوع النفسي، أما بالنسبة للمرأة السجينة فتراها المؤسسة العقابية حسب ثقافتها بلا قوّة من الأساس حتى يتم هندستها وتعطيلها[32] [33].

الرمزيّة السياسيّة هنا مَمّزوجة بالنفسية بامِتياز، في السياق التاريخي، وفي كل أشكال التعذيب والأسر لديه، نرى الجهة المنتصرة أو الأقوى أي التي تتحكم في أسراها بعد كلّ حرب بغض النظر عن دين المنتصر أو جنسيّته، تستخدم قضيبها كرمزية سيكوسياسية تدلّ على الانتصار، حيث نساء برلين المُغتصبات بعد خسارة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ونساء البوسنة المغتصبات من قوات الصرب. ليست النساء فقط، القوات الأمريكية في سجن أبو غريب بالعراق بعد احتلالها حينما اغتصبوا الرجال وشوّهوا أعضائهم التناسلية "القضيب" بالقطع والحرق، كدليل واضح أن الخصيّ هُنا لإذلال الرجال وسلب قوّة نفسية مهمّة بالنسبة لهم [34] [35] [36].

تلك الشواهد التاريخية للأسر، يقوّيها نظريا كتابات النفساني فيلهلم رايش، حيث ربط رايش الكبت الجنسي للإنسان بخضوعه للنظام أو السلطة المستبدّة، والعكس، أي أنّ الإنسان الغير مكبوت جنسيا هو متحررٌ على المستوى السياسيّ أيضا وليس النفسانيّ فقط، ربما لو تصوّرنا سجين ذاهب إلى إحدى قاعات السجن المُرتّبة لإقامة علاقته الجنسية، ذلك هو تحرر نفسي لذاته وجسده من أدوات السلطة التي درّبته على إدارة أجسادهم بطريقةٍ مُعينة، طريقة سادية مازوخية[ Sadomasochism [37، حيث لا يسمح للسجين أن يتحدث مع الضابط إلّا في أوقاتٍ قليلة، ويتحدث عندما يأمره الضابط بذلك، وتكون يديّه بجانبه أو وراء ظهره، ولا يقف السجين أمام الضابط ووجهه مرفوع أبدا، يجب عليه الانحناء والنظر أرضا، عندما يمر ضابط على إحدى الزنزانات من أمام الباب، يجب على جميع السجناء الاستيقاظ والوقوف ووجوههم للحائط وأوقات أُخرى يديهم إلى أعلى، وتقنيّات جسدية أُخرى ضمن ماكينة الخضوع المترسّخة [38] [39].

تستطيع السلطة السجينية القائمة نفي أو إيجاد رمزية القضيب لدى السجين، بل عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو السلطة تتحكم أحيانا في تشكيل النمط الهويّاتيّ لشكل العلاقات الجنسية بين أفراد سكّانها، السلطة السجينية هنا من خلال فَلسفتها الحياتية تشكّل العلاقة الجنسية بين أفرادها، لكنّ ليس لدى المنظومة أي مُمارسات جنسية، غير الممارسات المثليّة التي تتواجد بطريقيّن لا ثالث لهما. الأولى وهى أنّ السلطة لديها سجناء/سجينات لديهم هويّة مثليّة لإقامة تلك العلاقات، والثانية وهى كانت أكثر الحُجّجّ عند المؤيدين لتقنين الخلوة الشرعية هي ظروف السجن من استباحة للأجساد سيّما الأعضاء التناسلية والتصاق دائم لأجساد السجناء لضيق المساحات مع الحرمان والكبت الجنسي ممّا يدفع السجين/ة لإقامة العلاقة المثلية مُضطرا ومُكتسبا نمطيّة جنسانيّة مُغايرة لما كان عليه قبل أن يُسجن، تلك النمطية سواء كانت مَيلا طبيعيّا للسجين أو ميلا مُكتسبا، لكن السلطة السجينية هنا دفعت السجين إلى أمريّن: أن ينفي وجوده الجنسيّ أو يكون مثلي الجنس في الخفاء خوفا من العقاب [40] [41].

خاتمة

السجين/ة تمتلكه السلطة العقابية وفقا لفلسفة حياتها، منذ دخوله السجن حتى الإفراج عنّه، تمتلك السلطة كل ما في السجين، روحه وذاته وجسده، وتبدأ في مَحو قيمته الإنسانية، بدايةً بعري جسده، واستباحة أعضائه التناسلية وهى قيْد تفتيش السلطة على الملأ، وعن طريق فلسفة التعامل اليومية، يُهندس جسد السجين على الخضوع والطاعة. فَينام ويستيقظ ويتحدث ويعمل ويتحرك كما تُملي عليه فلسفة القانون المرئيّ التي تُحددها السلطة.

يحتاج السجين/ة إلى ممارسة الجنس، تلك الغريزة الطبيعية، المكوّنة فطريا لدى أي إنسان، لكنّ السلطة العقابية لا تسمح بذلك، فيضطر السجين/ة عبر عدة وسائل إلى تفريغ حاجته الجنسيّة. تقاوم السلطة عن طريق الحوكمة والعقاب هذا الاحتياج، بدايةً بمنع دخول أي شيء مثير جنسيا للسجين/ة مثل الصور وقنوات التلفاز الفضائية، بالإضافة إلى مراقبة سلوكيات السجين/ة مع زملائه/ا في طريقة الحديث والتلامس فيما بينهما ومراقبة أماكن الخلاء أيّ دورات المياه وأسرِّة السجناء/السجينات ليلا، وصولا إلى العقاب بالضرب الشديد والنوم في الحمامات والتغريب وتحرير محاضر لسوء السلوك داخل السجن لمن يثبت عليه سلوكا مثليّا أو مقاربا له.

منذ إنشاء منظومة السجن المصريّ، لم يُسنّ قانون للخلوة الشرعية للسجين أو السجينة. طُرحت عدة مشاريع في البرلمان المصري في الفترة بين 2000 إلى 2010 لتقنين الخلوة الشرعية، وذلك لأسباب طبية منعا لانتشار مرض الإيدز والحدّ من نسبة العلاقات المثلية بين السجناء والسجينات، ولأسباب إنسانيّة ونفسيّة، أيّد البعض تلك المشاريع، وعارضها البعض الآخر وذلك لصعوبة تنفيذ إجراءات تلك الخلوة على عشرات الآلاف من السجناء والسجينات، ولأخذ العقاب حقّه من الإنسان المذنب وفقا للرأي المعارض. لم يكن مشروع الخلوة الشرعية من ضمن طروحات البرلمان والمشرّعين مؤخرا، وذلك لوجود عشرات الآلاف من السجناء السياسيين، فضلا عن غياب أصوات الحقوقيين من البرلمان، كما الخصام السياسيّ وربما الإنسانيّ بين النظام الحالي وبين ما يقترب من نصف عدد السجناء.

نهايةً. نحاجج أيضا أنّ الممارسة الجنسيّة داخل السجون وإن شُرّعتْ ستكون ضد ما سمّنياه فلسفة الحياة المرئية داخل السجن، حيث حسب نظرية فيلهلم رايش القائلة أن الاكتفاء الجنسي يُحقق ثورةً ضد الخضوع، وبما أنّ السجين خاضع كروحٍ وجسد لنظام السلطة السجينيّة أيّ أنّه لا يمتلك الحق في جسده وفي إنسانيته واحتياجها الغريزي، إذا ستتعارض مشروعيّته الجنسيّة الطوعيّة مع فلسفة الحياة القائمة عليه كُرها.

لا بد من إعادة النظر وقراءة ثانية لفلسفة الحياة داخل المؤسسة العقابية التي يعيشها السجين/ة، والبحث حول سؤال: مَن يمتلك جسد السجين؟ السجين أم السلطة؟ ومحاولة تفكيك رؤية السلطة للسجين كأنّه آلة إنتاج صغيرة في منظومةٍ بيروقراطيةٍ كبيرة، والسعي إلى تقنين ومتابعة والإشراف على حياة السجين داخل السجن، حياة كريمة وعادلة وإصلاحية، يمتلك فيها السجين إنسانيته ويمتلك جسده، ويشبع من خلال حقوقه كافّة احتياجاته الفطرية والنفسية، وذلك دون تفرّقة من المؤسسات الحقوقية المعنية بذلك بين سجين سياسي أو جنائيّ. فالسجين أيًا كانت قضيّته يمتلك روحا وجسدا يجب إكرامهما.

الهوامش

1- البيوسلطة: تعني عند تفكيكها السلطة البيولوجية. وهي تعني إدارة الأجساد للوصول إلى التحكم فيها عن طريق السلطة بمساعدة التقنيّات الحديثة الذي هلّت على البشرية. وذلك بتعريف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.

2- ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة د- علي مقلد، تقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، ط1 بيروت، عام 1990، ص 40 – 41.

3- الإيراد: زنزانة مخصصة السجناء الجدد يبقوا فيها فترة يحددها رئيس المباحث وتنص لائحة السجون أن تلك الفترة هي 11 يومًا

4- مقابلة مع سجين سابق، في أكثر من سجن، تمت المقابلة في سبتمبر 2020.

5- العنف ضد المرأة: سجينة سياسية سابقة في مصر تروي قصتها مع "كشوف العذرية" في السجن، بي بي سي عربي، نشر في 27 نوفمبر 2020.

للمزيد حول تفتيش النساء. انظر تقرير منسيات في القناطر، الجبهة المصرية لحقوق الإنسان، نشر في 23-12- 2019.

6-  بسمة عبد العزيز، ذاكرة القهر- دراسة حول منظومة التعذيب، دار التنوير للطباعة والنشر، ط 1 القاهرة عام 2014، ص 282

7- قواعد نيلسون مانديلا – موقع الأمم المتحدة.

8- للمزيد حول الاحتياج الإنساني إلى الجنس، انظر سيجموند فرويد، الحياة الجنسية، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1 بيروت، عام 1982،.

9- مقابلة مع سجين سابق برتبة مسيّر للسجن، حكى لنا كواليس الزيارات، تمت المقابلة في أكتوبر عام 2020.

10- مقابلة مع سجين سابق بإحدى سجون منطقة الدلتا وسط مصر، تمت المقابلة في أكتوبر عام 2020.

11- مقابلة مع سجين سابق بإحدى سجون القاهرة، تمت المقابلة في أكتوبر عام 2020

12- مصدر مع سجين سابق، في أكثر من سجن، حكى لنا كواليس الاحتياج الجنسي في عنابر الرجال، تمت المقابلة في نوفمبر عام 2020.

13- مقابلة مع 5 سجينات سابقات، حكيّن لنا كواليس الاحتياج الجنسي داخل سجون النساء، تمت المقابلة في نوفمبر 2020.

14- مقابلة مع سجين سابق برتبة مسيّر للسجن، حكى لنا كواليس العلاقات المثلية، تمت المقابلة في أكتوبر عام 2020. المصدر نفسه.

15- مقابلة مع 5 سجينات سابقات، حكيّن لنا كواليس الاحتياج الجنسي داخل سجون النساء، تمت المقابلة في نوفمبر .2020

16- تقنين الخلوة الشرعية في ظل السياسات الإصلاحية داخل السجون المصرية، مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان، نشر في 13-10-2008

17- عمر حاذق، السجين مثلي الجنس ، السفير العربي، نشر في 27-9-2016.

18- مقابلة مع سجين سابق، حكى لنا عن كواليس المثلية الجنسية بين السجناء الرجال، تمت المقابلة في أكتوبر عام 2020.

19-  صنع الله إبراهيم، يوميات الواحات، دار المستقبل العربي، ط1 القاهرة عام 2002، ، ص .106

20- صنع الله إبراهيم، شرف، مؤسسة دار الهلال، روايات الهلال،  ط1 القاهرة، عام 1997، العدد 579،   ص 535 – 536- 537.

للمزيد  أيضا، حول كواليس الجنس السجينية، انظر. رؤوف مسعد، كتاب السجن،  الحب – العنف – الجنس، مجلة بدايات، العدد 22 عام 2019.

21- حلقات عن تشريعات السجون المصرية، الفصل الرابع، تشغيل المسجونين وأجورهم، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، نشر في 24-1-2017.

22- مقابلة مع سجين سابق برتبة مسيّر للسجن، حكى لنا كواليس حوكمة السلطة للاحتياج الجنسي، تمت المقابلة في أكتوبر عام 2020. مصدر نفسه.

23- أن تكون مثليا داخل السجون المصرية.. حجة لمضاعفة التعذيب، تحقيق نُشر على موقع درج ميديا، في 10 -2-2020

24- من سجن يوسف إلى سجن كرموز، قصة أقدم السجون المصرية، موقع الخليج أون لاين، نشر في 29-11-2016.

25- منهم 26 في عهد السيسي.. ارتفاع عدد سجون مصرلـ 68، الجزيرة. نت، نشر في 8-5-2019

26- لا خلوة شرعية في سجون مصر، جريدة العربي الجديد، نشر في 28-2-2020

27- الخلوة الشرعية» عقاب للأبرياء خارج أسوار السجون، أخبار اليوم، نشر في 27-10-2017

28- سوق المتعة.. والخلوة الشرعية في السجون، موقع ميدل ايست أون لاين، نُشر في 17-7-2007

29- تقنين الخلوة الشرعية في ظل السياسات الإصلاحية داخل السجون المصرية، مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان، نشر في 13-10-2008

30- تقرير بدون محاسبة، حالات الوفاة بداخل مراكز الاحتجاز المصرية، Committee for Justice، نشر في 10-12-2019

31- بـول أ.روبنسون، اليسار الفرويدي، ترجمة عبده الريس، المجلس الأعلى للثقافة، ط1 القاهرة عام 2005. ص 29 - 79.

32- Toward a general theory, Encyclopedia Britannica | Britannica

33- Karen Horney, Encyclopedia Britannica | Britannica

34 - They raped every German female from eight to 80'، Guardian

35- شهادات مروعة لمسلمات اغتصبن  ثناء حرب البلقان، يورونيوز، نشر في  4-6-2018

36- Ghosts of Abu Ghraib - Documentary، Al Hidaayah Channel

37- السادومازوخية: هي خليط بين الساديَّة والمازوخيَّة. السادية هي الاستمتاع والانتشاء والتلذذ في إيقاع الألم والأذى بالآخرين، والمازوخية هي تقبل ذلك الألم والضرر الذي يحدث. نستخدم في بحثنا هذا المُصطلح بالمعنى الفلسفي وليس بمعناه البيولوجي في إطار العلاقات الجنسية بين الأشخاص.

38- بـول أ.روبنسون، اليسار الفرويدي، ترجمة عبده الريس، المجلس الأعلى للثقافة، ط1 القاهرة، عام 2005. ص 29 - 79.

39- مقابلة مع سجين سابق برتبة مسيّر للسجن، حكى لنا عن كواليس ما أطلقنا عليه الهندسة الجسدية للسجين خلال تعامله في الفضاء السجيني، تمت المقابلة في أكتوبر عام 2020. مصدر نفسه.

40- ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية، الانشغال بالذات، ترجمة محمد هشام، عمل إفريقيا الشرق، ط1 المغرب عام 2004، ص 136.

41- Michel Foucault: Feminism - The Internet Encyclopedia of Philosophy

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬