نتّهمُ سياسة الفصل العنصري؟ فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية

نتّهمُ سياسة الفصل العنصري؟ فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية

نتّهمُ سياسة الفصل العنصري؟ فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية

By : Noura Erakat and John Reynolds نورا عريقات وجون رينولدز

شنّت إسرائيل في نهاية 2008 حرباً على قطاع غزة على نطاق لم تشهده فلسطين لعقود. وأمضى قسمُ القانون الدولي التابع للجيش الإسرائيلي شهوراً قبلها بصياغة ”مشورة قانونية سوغت سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين“. وافتتح هذا نقطة بداية التفاعل الفلسطيني الرسمي مع المحكمة الجنائية الدولية، وجرتْ محاولة أولية فاشلة قامت بها السلطة الفلسطينية لدعوة المحكمة الجنائية الدولية لفرض ولايتها القضائية على جرائم ارتُكبت في فلسطين المحتلة. مرَّ اثنا عشر عاماً قبل أن تعلن الدائرة التمهيدية بالمحكمة الجنائية الدولية أخيراً في شباط وآذار 2021 أن المحكمة تملك في الحقيقة ولاية قضائية، وأكدتْ المدعية العامة أنه سيتم الشروع بالتحقيق. أثناء تلك الأعوام، بدا كأن مكتب المدعية العامة حاول جاهداً أن يطيل الجدل حول السؤال الأولي فيما إذا كان يستطيع قبول الولاية القضائية. في هذه الأثناء، كانت غزة محاصرة وتتعرض للقصف، ومرة بعد أخرى:“سماء كالسكاكين… ومعادن تتناسخ، وأطفال يعرجون وغبار رمادي تحت الأبنية المدمرة“، كما صورت الشاعرة حلا عليان الوضع. وتجسد الدمار الأكبر في حرب إسرائيل على غزة في 2014. ولجأت إسرائيل أيضاً إلى القوة المهلكة أيضاً في 2018 لإلحاق الأذى بالفلسطينيين الذين تظاهروا في المسيرة الكبرى للعودة وقتلهم.         

 

[جو ساكو، هوامش في غزة، ص 256]

إن العنف الساخن للهجوم العسكري واسع النطاق والمفرط والذي شمل الغارات الجوية والقصف المدفعي واختراق جدار الصوت والفوسفور الأبيض وتدمير المنازل والقنص بهدف القتل، بالإضافة إلى مقاومة الجماعات الفلسطينية المسلحة (التي كان مداها و“خطرها“ أقل) سيكون الموضوع الذي سيركز عليه تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في أحداث بدأت منذ حزيران 2014 فصاعداً. لكن الكاتب تيجو كول يعتقد أن ”العنف ليس كله ساخناً“. وتواصل العنف البطيء والبارد لسياسة الفصل العنصري الإسرائيلي بحدة أكبر، ويندرج في إطارها المشروع الاستيطاني والاستغلال الاقتصادي للأرض والعمالة الفلسطينية في الضفة الغربية والرفض التام لعودة اللاجئين الفلسطينيين، والدستور الإقصائي لدولة إسرائيل. وكما بين حسن جبارين، يتجاوز هذا خطوط التقسيم ويتغلغل عبر نظام قانوني واحد من الهيمنة الإسرائيلية العنصرية على الفلسطينيين. تتواصل كل هذه العناصر، وتشكل أعمدة لما تؤكد لانا طاطور أنه الهيكل الاستيطاني الاستعماري الشامل لنظام الفصل العنصري، وكل هذا من المحتمل أن يكون ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. بالتالي إن هدفنا هنا ليس المزيد من الإسهاب حول التفاصيل الفنية للولاية القضائية بل أن نجعل وضع المحكمة الجنائية الدولية أساساً للتأمل في سياسة الانخراط القانوني الفلسطيني. ونموضع هذا التأمل في السياق الأكبر للفصل العنصري الاستعماري الإسرائيلي، وننظر إلى التكتيكات القانونية الفلسطينية، و(تهمة جريمة سياسة الفصل العنصري بشكل خاص) في علاقة مع الاستراتيجية السياسية. نعي حدود القانون الجنائي الدولي، ونؤمن في الوقت نفسه أن اللجوء إلى العدالة الجنائية الدولية كموقع للصراع يمكن أن يغذي التحولات الأكثر راديكالية للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي نحتاجها لإنهاء الاستعمار الاستيطاني 1وتحرير فلسطين.

الحرب، الحرب القانونية وحدود القانون الجنائي الدولي

يمكن أن ينظر كثيرون إلى التحقيق الجنائي والملاحقة القضائية لأغراض المساءلة والردع كغايتين في حد ذاتهما. وينصبّ اهتمامنا الخاص على احتمال أن تحدث محاولة المحكمة الجنائية الدولية، والتي أثارها عنف الحروب على غزة، ثغرة تستطيع من خلالها محكمة دولية أن تتعامل مع العنف المتعمد لسياسة الفصل العنصري الإسرائيلية. ومن الجلي لنا أن القانون نفسه، وخاصة القانون الجنائي الدولي ”غير كاف كي يقود الفلسطينيين إلى التحرر“.  نعي عدم قدرة المسؤولية الفردية على إنتاج تحول اجتماعي، ونتفق مع انتقادات خاصة للقانون الجنائي الدولي جاءت من تويل TWAIL ومن منظورات ماركسية تنظر إلى القانون الجنائي الدولي“كإعادة إنتاج لمهمة التحضير“ و“كعدالة رأسمالية منتصرة“.

إن المحكمة الجنائية الدولية مؤسسة سياسية ”تعمل إيديولوجياً“ كجزء من نظامنا العالمي المعاصر ”لتدعيم تكتلات القوة السائدة“. وبيّن كامري ماكسين كلارك كيف أن المحكمة تجسّد التفوق الأبيض وتساعد على تمويه واستمرار العلاقات بين المركز والأطراف القائمة على الاستغلال الاقتصادي واللامساواة. ولو كانت الديناميات المؤسساتية في الأمم المتحدة مختلفة، لوجهنا بالتأكيد جميع الحجج والطاقات في الدعوة إلى ضرورة فرض العقوبات السياسية والاقتصادية على إسرائيل ولما قمنا برفع دعاوى جنائية ضد بعض المسؤولين. وفي ضوء الوضع القائم إن المحكمة الجنائية الدولية هي الباب المؤسساتي الذي أُجبر على الانفتاح قليلاً، بالتالي من الملح التفكير بأي فرصة يمكن أن يقدمها للأشكال المناهضة للاستعمار. ومن هذا المنطلق، ندعم الشعور بأن قرار الولاية القضائية شكل انتصاراً للناشطين القانونيين الفلسطينيين وشهادة على عملهم الذي لا يكل. ويجب أن يكون صريحاً السؤال الوظيفي فيما إذا كانت المحكمة الجنائية الدولية تستطيع قبول الولاية القضائية على وضع في فلسطين يقع تحت نظام روما الأساسي، هذا إن لم يكن استجابة للطلب الأولي في 2009، وبشكل مؤكد بعد أن قُبلت فلسطين كعضو كامل في المحكمة في 2015. وكان بوسع المحكمة الجنائية الدولية العثور على طريقة لرفض الولاية القضائية في ظل ضغط ”الحجج الواهية والنفاق الواضح“ لأعضاء المحكمة الداعمين لإسرائيل، أو الاستمرار في سحب أي قرار إلى أجل غير مسمى.  بالتالي، كان النصر في وضعه الحالي ثمرة نضال صعب. وشكل انتصاراً لفلسطين على دول رئيسية أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية مثل ألمانيا وكندا والبرازيل وأوغندا تدخلت بقوة للضغط على المحكمة وإجبارها على التخلي عن الولاية القضائية (وتبنت البرازيل وأوغندا موقفين ”تناقضا بشكل صارخ مع اعترافهما السابق بفلسطين، نزولاً عند تحالفات استعمارية جديدة مبرمة حديثاً). وشكل هذا أيضاً انتصاراً للمنظمات المدافعة عن حقوق الفلسطينيين على النائب العام الإسرائيلي وعلى الذين نصّبوا أنفسهم ”خبراء بارزين في القانون الدولي“ ويظهرون على مواقع مزيفة ”للولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية“ ترعاها وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية. كما يجب الإقرار، في الوقت نفسه، أن الانتصار مؤقت جداً. لقد تم التغلب الآن على الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن المعارضة الإسرائيلية والأميركية المدعومة بازدواجية أوربية جوهرية لكنها ستتضاعف من جديد في المنافسات ذات الرهانات الأكبر القادمة. وستفاقمُ ضغوطٌ خارجية كهذه التحديات اللوجستية والتقنية الخاصة لمحاكمة أشخاص إسرائيليين في سياق يتسم بغياب أي تعاون رسمي من قبل إسرائيل، واحتمال نشوء تحديات للولاية القضائية مرة ثانية في حالات فردية. ويشكل التمويل وتحديات إدارية أساسية أيضاً مشكلة مادية متواصلة للمحكمة. وفي بيانها الذي يؤكد أنه سيتم الشروع بتحقيق الآن، حرصت المدعية العامة على تخفيف التوقعات المتعلقة بأولوية وسرعة الإجراءات، وحاولت من خلال التعبير عن شعور بالندم تقريباً إقناع إسرائيل بالوثوق بالمحكمة الجنائية الدولية. 2 لكن إسرائيل أكدت أنها لا تعترف بسلطة المحكمة ولن تتعاون مع التحقيق. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو قرار المحكمة بقبول الولاية القضائية بأنه ”معاداة صرفة للسامية“. ويتلاءم هذا الزعم السخيف مع أسلوب اللعب الإسرائيلي. فقد أمضت إسرائيل ووزارة الشؤون الاستراتيجية فيها السنوات الخمس عشرة الأخيرة في محاولة لتقويض حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات وتستخدم الآن تكتيكات مشابهة لنزع الشرعية عن المحكمة الجنائية الدولية. ويوضح تعيين إسرائيل للواء من الجيش 3 بدلاً من محام من أجل ”قيادة المعركة ضد المحكمة الجنائية الدولية“، أن ”الحرب القانونية“ لإسرائيل ”تزداد حَرْفية“، كما علق المراقبون ساخرين. في هذا السياق، إن مسائل الاستراتيجية والتكتيكات جوهرية.

التكتيكات والاستراتيجية

في مقال نشره في مجلة ”نيوليفت ريفيو“ في 1971 شدّد المفكر الفلسطيني والناطق باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين غسان كنفاني أنه من الضروري ألا تُمْلي ”أخلاقيةٌ برجوازية وطاعةٌ للقانون الدولي“ الصراعَ ضد الاستعمار. ثمة نقد شرعي مفاده أن مشروع التحرر الفلسطيني صار منذ ذلك الوقت مُثْقلاً بالمسألة القانونية وعمل على تهدئة هياكل السلطة بدلاً من تعطيلها. ويوضح كلٌّ من مزنة قاتو وكريم ربيع القضية بشكل مقنع مشيرين إلى أن العمل في إطار القانون الدولي يختزل الهدف الأصلي والأعلى ل“حتى التحرير والعودة“ إلى تعويل على قوانين ليبرالية أقل طموحاً وفي النهاية هازم للذات. وأضاف الباحثان الواعيان لتشابك القانون الدولي مع الاستعمار أن النضال القانوني ينتهي إلى التوجه ”نحو استعمار أفضل وليس نحو إنهاء الاستعمار“. وبتركيزها على تجاوزات إسرائيل وليس على جوهر الصهيونية، تُغْفل العملية القانونية الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للدولة والبنى الداعمة للإمبريالية والرأسمالية“.  بهذا المعنى، سيكون من الإشكالي جعل استراتيجية الحركة تتمحور حول هيئات القانون التي بزغت من أجل قوننة الإمبريالية، والتي تعمل غالباً لقوننة الاستعمار الإسرائيلي“. إن الإشارة إلى الاستراتيجية أساسية هنا. إذ لا يمكن أن تقتصر الاستراتيجية على القانون. لكن التكتيكات القانونية يمكن في أوضاع معينة أن تعمل لدعم الاستراتيجية التحويلية. إن ما نحن بأمس الحاجة إليه في السياق الفلسطيني، كما قلنا سابقاً معتمدين على أبحاث دنكان كينيدي وروبرت كنوكس وآخرين، هو ”استراتيجية سياسية متماسكة توظف تكتيكات قانونية ملائمة مدروسة“ و“حركة سياسية قوية تدعم العملية القانونية وتستفيد من المكاسب التكتيكية“. بهذا المعنى يتطلب الانخراط من خلال القانون فهماً عميقاً للمؤسسات القانونية الدولية كميدان للصراع السياسي. ويقوم كل من كوكس ونتينا تزوفالا بتعقب نسب صراع سياسي كهذا في الحركات المضادة للاستعمار وصولاً إلى النظرية البلشفية للإمبريالية، والتي اتسمت ب ”عدم توقير معين للقانون الدولي، وبإحساس واضح أنه يجب أن يتم إخضاعه لمشروع مضاد للإمبريالية أشمل“.

لمناهضة هذه السياسة من الجوهري أن نركز بشكل أكثر نباهة على الآفاق الاستراتيجية التي أمامنا. وما من شك أن للمعارك القانونية دوراً في تلك الفسحة، غير أننا يجب ألا نخضع للأوهام حيال احتمالات رؤية نتانياهو ونظرائه على المنصة، أو احتمال تحقيق ”انتصارات“ كبرى في قاعة محكمة للفلسطينيين. وفي النهاية، لا يمكن أن يخدم القانون كبديل لـ“ما لا يقدر على إنجازه إلا جماهير واسعة من الناس“.

ثمة اليوم تراث غني ومتنام من الباحثين والناشطين الفلسطينيين الذين يفكرون بعمق حول هذه الديناميات في حقول مختلفة ومنهم جورج بشارات ولانا طاطور، مازن مصري، نمر سلطاني، سامرة إسمير، يارا هواري، رفيف زيادة، سهاد بشارة، فكتور قطان، ناهد سمور، ناديا سمور، إيميليو دابد، إردي أمسيس، عطا هندي، هديل أبو حسين، ريم البطمة، حسن جبارين، منير نسيبة، ومضر قسيس، وكثيرون آخرون. ثمة مواضيع جوهرية مشتركة يتناولونها في أعمالهم كالجوهر الاستعماري الاستيطاني لإسرائيل، واضطهادها للفلسطينيين ككل، وحقيقة الدولة الواحدة وسرديات التقسيم، والقانون الذي هو دائماً محوري لهذه المشكلات، وضرورة وجود استراتيجية سياسية في علاقة مع القانون والحقوق والتنمية والاعتراف وهكذا دواليك. إن ما قاله المصري يوضح الأمر:“ لا يمكن أن يحل القانون والتكتيكات القانونية مكان الاستراتيجية، لكن يمكن أن يلعبوا دوراً في الاستراتيجية يتمتع بمستوى عال من الدعم، ويقوموا بتعبئة الحركات الجماهيرية، ويوظفوا عدداً من الأدوات وتقودهم رؤية واضحة“.  بهذا المعنى، هناك مجال كي تؤدي التكتيكات القانونية المبدئية المضادة للفصل العنصري إلى احتمالات تحويلية، هذا إذا سُخّرت بشكل فعال في الأوضاع الملائمة لخدمة استراتيجة سياسية مقنعة. على أي حال، في ضوء الوضع الحالي للقيادة الفلسطينية والانفصال بين المؤسسات السياسة الفلسطينية والحركات الشعبية وحملات التضامن العالمية، نرى أن أوضاعاً واستراتيجية كهذه غير موجودة. وبعد أن هجرت منظمة التحرير الفلسطينية استراتيجية الدولة الديمقراطية الواحدة، وبعد تكتيكاتها ”الثورية البراغماتية“ (خاصة بعد أن أشار انهيار محادثات كامب ديفد إلى الموت المفترض لعملية أوسلو للسلام) اتبعت القيادة الفلسطينية سياسةَ إذعانٍ، وآمنتْ بفكرة أن السلوك الجيد للسكان الأصليين سيُكافَأ بأفعال خيرٍ إمبريالية، برغم الأدلة الدائمة والمتواصلة التي تشي بعكس ذلك. وبالطبع تخضع السياسة الخارجية الفلسطينية لقوى إكراهية جهازية أكبر، و“مصيدة السيادة“ التي تعرقلها حالياً مبنية من العلاقات الدولية والقانون الدولي. لكن الجهاز الرسمي الفلسطيني ضحّى أيضاً بفرص مهمة في العقدين السابقين لإعادة بناء استراتيجية سياسية جدية مناهضة للاستعمار ولتوظيف الآليات القانونية المتاحة لخدمة ذلك. وقدّم الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بخصوص الجدار عام 2004 فرصة كبيرة للقيادة الفلسطينية الرسمية كي تبني تحالفاً من أجل دفع أعضاء الأمم المتحدة للامتناع عن الاعتراف بالبنى التحتية للاحتلال ومساعدتها، ولسحب الاستثمارات من إسرائيل ومعاقبتها. ولعب المجتمع المدني الفلسطيني دوره بإطلاق دعوته للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات في 2005 في الذكرى الأولى للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية. وكان هذا مستوحى من الصراع لإلغاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وسعى للبناء على الحركة المتنامية المعادية لسياسة الفصل العنصري من أجل فلسطين وتوسيعها. يجب أن تعكس القيادة الفلسطينية هذا على المستوى المؤسساتي. وكان بوسعها أن تشكل رؤية استراتيجية شاملة واستباقية لإنهاء الاستعمار تستند إلى الأهداف الثلاثة لحملة المقاطعة (إنهاء الاحتلال والاستعمار، المساواة الكاملة، وعودة اللاجئين). لكن القيادة الفلسطينية انشغلت بدلاً من ذلك ب“التأنق كدولة“، حتى ولو كان هذا يعني بانتوستاناً محدوداً. وبدلاً من أن تقود السلطةُ الفلسطينية صراعَ الحرية ضد سياسة الفصل العنصري تورطت في سياسة الفصل العنصري النيوليبرالية وفي مراكمة غير متكافئة لرأس المال.          

 

[محمود سباعنة، من «أبيض وأسود: كاريكاتير من فلسطين]

 دعمَ هذا السياق النقاشات الدائرة بين المزاولين والباحثين القانونيين الفلسطينيين التي تمحورت حول ما يستطيع الفلسطينيون واقعياً الحصول عليه من خلال المحكمة، مقابل ما يحتاج الفلسطينيون لفعله من أجل تحفيز التحولات النموذجية والتي تنطوي على كلفة حقيقية تتمثل بخسارة المعارك القانونية على طول الطريق. نحن متعاطفان مع مدرسة الفكر التي تفضل التقدم البراغماتي والقانوني على التكتيكات الأكثر راديكالية، ولكن في ظل غياب استراتيجية مؤسساتية لتسخير تطورات كهذه نجد أن هذا النهج غير مقنع.      

كيف إذاً تتغلب مقاربة تكتيكية أكثر جذرية على الغياب المنهك لبرنامج من الأعلى قائم على رؤية؟ لا تفعل هذا. إنه بالأحرى رهان يوضع على قدرة الحركة على تطوير استراتيجية في سياق ما سيكون منافسة سياسية صريحة ومضطربة.  يسعى هذا النهج إلى دفع التناغم الاستراتيجي من الأسفل في مجرى صراع وإثارة حماسي ولكن مائع، يستند إلى الدليل التاريخي بأن المجتمعات يمكن تجهيزها لحركات عدالة اجتماعية تحويلية لكنها لا تستطيع أن تُمْليها.  يمكن أن يكون هذا النهج غير مرغوب، ولكن في ضوء الوضع القائم والبدائل غير الملهمة، هناك القليل لخسارته.  وإذا فكرنا بهذا في سياق المحكمة الجنائية الدولية سنرى أنه يتضمن قبول حدود العملية بشروطها الخاصة ويركز على كيف تُسخَّر تكتيكياً في ”حرب الشرعية“، بصرف النظر عن النصر أو الهزيمة في قاعة المحكمة. إن الملاحقات القضائية الجنائية، حتى لو حصلت، لن تحقق العدالة للفلسطينيين في ظل الهيكلية الاستعمارية الاستيطانية التي تصوغ حياتهم.  وسيبقى الصراع سياسياً. إذا وضعنا هذا في الاعتبار، ما هي الفرص التكتيكية التي يمكن أن تتوفر من ممارسة محكمة العدل الدولية لولايتها القضائية؟  أجرى مايكل كارني تحليلاً مهماً لكل من جريمة الحرب المتمثلة في نقل المستوطنين ورفض حق العودة كجريمة ضد الإنسانية بينما أشارت المنظمات الفلسطينية إلى نهب واستخراج وتدمير الموارد الطبيعية الفلسطينية. تُعد كل هذه جوهرياً أشكالاً من الجريمة الاستعمارية داخل نطاق اختصاص المحكمة، وتوفر سبلاً لإرباك جوانب معينة من الصهيونية من خلال ملاحقتها قانونياً. إن الإطار الهيكلي الأكبر الذي تُرتكب داخله كل هذه الجرائم هو نظام الفصل العنصري الصهيوني المطبق على الفلسطينيين. إن كشف الجريمة ضد الإنسانية والتي هي سياسة الفصل العنصري يمكن أن يخدم تكتيكياً استراتيجية جوهرية مضادة للفصل العنصري ويفيد التنظيم الشعبي. يمكن أن يعمل أيضاً كجسر جوهري على عدد من الجبهات: يصل بين العنف الساخن لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل والعنف البارد لبناها القانونية التي تقوم بنزع الملكية والإقصاء والاضطهاد، ويصل من جديد بين الوقائع المجزأة لكن المشتركة للفلسطينيين المحتلين والمنفيين والمحولين إلى مواطنين بموجب النظام الدستوري الإسرائيلي، ورسم المسار من مسؤولية أفراد عن جرائم الفصل العنصري إلى مسؤولية الدولة لتحديد المسؤولية وفرض العقوبات على من يقومون بتطبيق سياسة الفصل العنصري.            

  

[شارع الشهداء، الخليل، الضفة الغربية]

 نتهم سياسة الفصل العنصري؟

 نجم الجدل الذي طغى على مؤتمر الأمم المتحدة في دوربان ضد العنصرية سنة 2001 عن إلحاح الحركات الاجتماعية من جميع أنحاء العالم على تسمية إسرائيل دولة فصلٍ عنصري.  كانت هذه حجة سياسية وأخلاقية لتحدي العنصرية المُمارَسة ضد الفلسطينيين في سياق فعل عالمي مناهض للعنصرية. وأصبح الإطار المناهض للعنصرية محورياً على نحو متزايد للتنظيم السياسي والتضامن العالمي من خلال دعوة حركة المقاطعة الفلسطينية ومبادرات مثل أسبوع سياسة الفصل العنصري الإسرائيلي. وفي الآونة الأخيرة تمخض عن تجديد التضامن من حركات السود ومطالب حركة ”حياة السود مهمة“ بسحب الاستثمارات من نظام الفصل العنصري في إسرائيل. وبينما شخّص الفلسطينيون وتحدثوا بالتفصيل عن أوضاع الفصل العنصري الإسرائيلي لعدة عقود من قبل، لم يتم الشروع بتطوير الحجج القانونية المصاحبة إلا في التسعينيات على يد الباحثين الأفراد ومنظمات الحقوق الفلسطينية. وبدأت تحليلات قانونية مشابهة أكثر تنسيقاً تتبع ذلك بعد مؤتمر دوربان. وطبقت منظمات فلسطينية مثل البديل والحق والعدالة، و“أوقفوا الجدار“ المنع على نظام الفصل العنصري كجزء من تفكيكها للقانون والسياسة الإسرائيليين. وازدادت بشكل منتظم التقارير والمنح والدراسات القانونية العالمية. وتدارست محكمة راسل بشأن فلسطين المسألة في كيب تاون وخلصتْ إلى أن ”حكم إسرائيل للشعب الفلسطيني، في كافة المناطق التي يتواجد فيها، يرقى إلى سياسة فصل عنصري واحدة متكاملة“. وقام المقررون الخاصون للأمم المتحدة ولجنة القضاء على التمييز العنصري ولجنة إسكوا باكتشافات مشابهة في مجالاتهم. 4 ثمة زخم واضح.           

 

[ملصق حقوق الإنسان الفلسطيني، 1982]

وبعد أن انضمت فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية في 2015، بدأ تجمع من منظمات الحقوق الفلسطينية بتقديم ملفات إلى المدعي العام تتحدث بالتفصيل عن جرائم ارتكبها مسؤولون إسرائيليون مدنيون وعسكريون قياديون. وكانت الملفات الثلاثة الأولى المقدمة تدور حول العنف الساخن للحروب وحصار غزة. وقُدم الرابع، المؤلف من 700 صفحة في 2017، ويغطي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الضفة الغربية، بما فيه جريمة سياسة الفصل العنصري. وبعد قرار الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الصادر في 2021 والمتعلق بالولاية القضائية، كررت المنظمات التهمة بالرغم من أنها اقتصرت في هذا السياق على تجليات سياسة الفصل العنصري في الضفة الغربية: إن فصل إسرائيل المنهجي للفلسطينيين وإخضاعهم يشكل ”نظاماً مؤسسياً من الهيمنة والاضطهاد العرقي، يرقى إلى جريمة فصل عنصري، لهذا من الضروري أن يضمّن المدعي العام أفعال الفصل العنصري في نطاق تحقيق المحكمة“.

كانت منظمات الحقوق الفلسطينية التي قدمت الملفات للمحكمة الجنائية الدولية أكثر قانونية في مقاربتها وأقل جذرية في سياستها. ونفهم ”تهمتها“ بالفصل العنصري على أنها متأثرة قليلاً بـ ”عريضة نحن نتهم الإبادة الجماعية“ التي قدمها مجلس الحقوق المدنية إلى الأمم المتحدة في 1951. يروي كنوكس وتزوفالا كيف أن الراديكاليين السود الذين وقفوا وراء العريضة تأثروا بمفاهيم ماركسية عن الإمبريالية والاقتصاد السياسي وباتفاقية الإبادة الجماعية. وجسدت العريضة ”توظيفاً تكتيكياً للقانون الدولي من أجل خدمة أهداف تحول اجتماعي راديكالي أكثر شمولاً“، وكانت تهدف يشكل واع إلى ”ربط العنصرية الأميركية في الوطن ببنى الإمبريالية الأميركية في الخارج“. و”أثيرت تكتيكياً كي تقوي تلك القوى التي تناهض العنصرية والإمبريالية“، دون أن تراهن على أن سيرورة قانونية دولية قادرة لوحدها على حل الظلم العنصري الشديد في الولايات المتحدة.  إن العريضة التي أتت في لحظة تحول حاسمة لحركة حرية السود وعمليات بناء مؤسسات الأمم المتحدة، ومناورات الحرب الباردة، ونضالات التحرر في العالم الثالث على حد سواء، كانت مهمة لتعبئة الدعم الدولي وإلحاق الضرر بالوفود الأمريكية في الأمم المتحدة. وقد شكت إلينور روزفلت من أن العريضة حظيت ”بتغطية ممتازة في الصحف، 5 أثناء انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة في باريس، وأقرت أنها ”ألحقت بنا بعض الضرر“، وكان لها أيضاً تداعيات متواصلة داخل الولايات المتحدة، على خلفية تقديمها للأمم المتحدة وانتشارها الواسع في صيغة كتاب في آن واحد معاً. كشفت مدى العنف العنصري القائم، ”وأمّنت نوع الضغط الضروري الذي قاد إلى التشقق النهائي للعمود الفقري لقوانين جيم كرو“، 6 وافتتحت مساراً أكثر جذرية للصراعات من أجل المساواة ما يزال يتردد صداها. وكان وليم باترسون، المهندس الرئيسي للعريضة، صريحاً في الرد على نقد عناصر محافظة معادية للشيوعيين في القيادة الأميركية من أصل أفريقي ل”تسييس“ منظمته للحقوق المدنية: ”إن موقف الاقتصار على استخدام المقاربة القانونية فيه شيء من شخصية بوكي تي. واشنطن. لم تفهم قيادة الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين خطورة الموقف. 7

 

[بول روبسون يقدم كتاب وليام باترسن، «نوجه تهمة الإبادة» إلي سكرتارية الأمم المتحدة في نيويورك، ١٧ كانون الأول، ١٩٥١.]

بالرغم من أنه أتى في لحظة وفي سياق سياسي مختلفين جداً، 8 إلا أن اتهام الناشط الفلسطيني لإسرائيل بممارسة سياسة الفصل العنصري هو تأكيد طليعي مماثل للاضطهاد الممارس كجريمة دولية ويتخطى في فعاليته ما أفصح عنه الممثلون الرسميون للجماعة المُضطهدة. إنه بشكل مماثل اتهام تبذل الدولة المسيئة جهوداً كبيرة لتقويضه على أنه خارج حدود التصرف المقبول.  وعلى نحو جوهري، إنه أيضاً الزعم القانوني الذي يغذي بشكل أكثر مباشرة التعبئة الشعبية الجماهيرية للحركات الاجتماعية الفلسطينية والعالمية في العشرين عاماً الأخيرة، والتي شددت على الهيكلية القانونية العنصرية لنزع الملكية الاستعماري الاستيطاني. وحتى بهذا النهج الراديكالي نسبياً، يجب الاعتراف بالمخاطر التكتيكية المميزة الناجمة عن خرط المحكمة الجنائية الدولية بعامة وجريمة سياسة الفصل العنصري بخاصة. ومن الواضح أنه تكتيك لا يمتلك تحكماً بالأجندة إذا ما قورن بأشكال أخرى من الملاحقة القضائية المدنية أو بين الدول. 

يمكن أن تختار المدعية العامة تجاهل سياسة الفصل العنصري بشكل كامل وتركز التحقيق على جرائم حرب أكثر انفصالاً، دون أن تكترث بتدخلات الفلسطينيين. إن إشارات التحذير موجودة مسبقاً في نطاق التحقيق. وفي ملخص المدعية العامة لمكتشفات الفحص الأولية، أُشير إلى عدة جرائم على أنه من المحتمل أنها ارتُكبت. وتشير الوثيقة إلى خمس فئات من جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل (أربع في غزة، بالإضافة إلى نقل المستوطنين إلى الأراضي المحتلة) وست فئات من جرائم الحرب حين يتعلق الأمر بالجماعات الفلسطينية المسلحة. لا توجد إشارة إلى سياسة الفصل العنصري أو أية جرائم أخرى ضد الإنسانية. وبعد قول هذا، تشدد الوثيقة على أن الجرائم المذكورة ”توضيحية فقط“ و“التحقيق لن يقتصر على الجرائم المحددة التي أدت إلى التقييم في مرحلة الفحص الأولى“. سيُعيَّن مدعي عام جديد قبل أن يتم الشروع بأي تحقيق، وهذا سيضيف متغيراً آخر إلى هذا الخليط. 9

من أجل إدانة مسؤولين إسرائيليين بسياسة الفصل العنصري يحتاج الادعاء العام إلى أن يبدي نية لتأكيد اضطهاد عنصري منهجي. ثمة إدراك بأن إثبات هذا العنصر من النية أصعب من فئات أخرى من الجرائم. لكن الطبيعة المتعمدة للنظام هي التي تشكل أساس دلالة جريمة الفصل العنصري، كما أن التصميم المنسق والمحافظة على نظام إسرائيل القمعي موثقان جيداً،

وكجريمة هيكلية، يقتضي الأمر ملاحقة قضائية لمهندسيها السياسيين القياديين. لهذا السبب، بالإضافة إلى ”السياسة العنصرية للقانون الجنائي الدولي“ لم تحدث أبداً مقاضاة لجريمة سياسة الفصل العنصري في أية محكمة. بهذا المعنى، نرى تهمة إسرائيل بالفصل العنصري على أنها إدانة للقانون الجنائي الدولي نفسه وتحدي له في آن. وإذا كانت المحكمة الجنائية الدولية غير قادرة على التحقيق في جرائم الفصل العنصري وملاحقتها قضائياً في المثال الأكثر تحليلاً من سياسة الفصل العنصري منذ جنوب أفريقيا (بعد أن زوّدها الخاضعون لسياسة الفصل العنصري بالوثائق وطلبوا منها أن تفعل ذلك) فإن هذا يقول الكثير عن سياسة القانون الجنائي الدولي.

إن حقيقة أن الفلسطينيين يوجهون هذا الاتهام ضد سياسة الفصل العنصري الإسرائيلية في محكمة دولية يمكن أن يكون لها إسهامها التكتيكي الخاص في الاستراتيجية المناهضة للاستعمار، بما أن الوعي العالمي للعنف البارد الذي تمارسه سياسة الفصل العنصري الإسرائيلية يواصل نموه. وفي كثير من الأحيان، إن العنف البارد ”يأخذ وقته وفي النهاية يشق طريقه“، بالتالي، لمناهضة هذه السياسة من الجوهري أن نركز بشكل أكثر نباهة على الآفاق الاستراتيجية التي أمامنا. وما من شك أن للمعارك القانونية دوراً في تلك الفسحة، غير أننا يجب ألا نخضع للأوهام حيال احتمالات رؤية نتانياهو ونظرائه على المنصة، أو احتمال تحقيق ”انتصارات“ كبرى في قاعة محكمة للفلسطينيين. وفي النهاية، لا يمكن أن يخدم القانون كبديل لـ“ما لا يقدر على إنجازه إلا جماهير واسعة من الناس“.

[ترجمة أسامة إسبر. لقراءة النص الأصلي اضغط/ي هنا]

هوامش 

1. يتجاوز إنهاء الاستعمار الاستيطاني هنا الفهم القانوني الدولي للاستعمار وإنهاء الاستعمار الذي بدأ يتبلور في أعقاب الحرب العالمية الأولى. يستحضر أدبيات دراسات السكان الأصليين التي أوضحت أن الأرض تبقى عنصراً أساسياً لهيمنة الاستعمار الاستيطاني وتفكيكه. تتحدى أيضاً الزمن كاستمرارية خطية حيث الجسد المحلي يقف كشخصية بدائية وبالتالي كاحتمال عفا عليه الزمن للصيرورة.   Relevant works include Nick Estes, Our History Is the Future: Standing Rock Versus the Dakota Access Pipeline, and the Long Tradition of Indigenous Resistance (Verso, 2019); Audra Simpson, Mohawk Interruptus: Political Life Across the Borders of Settler States (Duke University Press, 2014); Eve Tuck & K Wayne Yang, ‘Decolonization is not a Metaphor’ (2012) 1:1 Decolonization: Indigeneity, Education & Society; Rana Barakat, ‘Lifta, the Nakba, and the Museumification of Palestine’s History’ (2018) 5:2 NAIS: Journal of the Native American and Indigenous Studies Association 1; Lana Tatour, ‘The Culturalisation of Indigeneity: the Palestinian-Bedouin of the Naqab and Indigenous Rights’ (2019) 23:10 International Journal of Human Rights 1569; Raef Zreik, ‘When Does a Settler Become a Native? (With Apologies to Mamdani)’ (2016) 23:3 Constellations 351.

2. حول مسألة السرعة والأولويات، بحسب تصريح المدعية: ”كيف سيحدد المكتب الأولويات بخصوص التحقيق سيُعلن في الوقت المناسب، في ضوء التحديات العملياتية التي نواجهها من الوباء، والموارد المحدودة المتاحة لنا، وحمل عملنا الثقيل الحالي. … نحث كلاً من الضحايا الفلسطينيين والإسرائيليين والجماعات المتأثرة أن تتحلى بالصبر“.  حول النقطة المتعلقة بموضوع مناشدة إسرائيل تخرج المدعية عن طريقها كي تشدد أنه في الموقف الآخر الذي أحيل سابقاً إلى المحكمة بخصوص إسرائيل (الهجمات العسكرية الإسرائيلية على قافلة مرمرة الإنسانية) رفضت أن تطلق أي تهم. إن إشارات البيان إلى التكامل والنطاق المتواصل للتحقيقات المحلية، وكذلك إلى التزام المحكمة  ”بالتحقيق في ظروف التجريم والتبرئة بالتساوي“، تظهر أيضاً مصممة لتهدئة مخاوف معينة أثارتها إسرائيل مؤخراً. 

3. كان هذا الجنرال سابقاً قائد لواء حُقق معه بين 2009 و2011 ويدعى إتاي فيروب حين ”أقر أنه شجع جنوده على استخدام العنف ضد الفلسطينيين الذين يحققون معهم“. أقر المحامي العسكري الإسرائيلي العام أن فيروب لم يكن يناصر ”العنف من أجل العنف“ بل بالأحرى ” العنف الذي كان ضرورياً للمهمة“. وهكذا برئ فيروب في 2011 ورفعه مباشرة رئيس هيئة الأركان العسكرية الإسرائيلية آنذاك بيني جانتز وواصل الترقي في الرتب.  See +972 Magazine’s report here.

4. في الآونة الأخيرة تبنت منظمتا حقوق الإنسان الإسرائيليتان يش دين وبيت سليم إطار الفصل العنصري ولو كان مستنداً على نوعاً ما ”قراءات أكثر ليبرالية لسياسة الفصل العنصري الإسرائيلية“- ومن المتوقع أن تتبع  منظمات حقوق الإنسان الدولية.

5. Gerald Horne, Communist Front? The Civil Rights Congress, 1946–1956 (Associated University Presses, 1988) 172.

6. Ibid, 167.

7. Quoted in Carol Anderson, Eyes Off the Prize: The United Nations and the African American Struggle for Human Rights, 1944-1955 (CUP 2003) 210. The NAACP is the National Association for the Advancement of Colored People. كان بوكر تي واشنطن قائداً أسود معتدلاً في أوائل القرن العشرين نظر إليه كثيرون من ناشطي الحقوق المدنية المعاصرين واللاحقين على أنه ملائم جداً لتفوق العرق الأبيض.

8. كانت عملية تقديم عريضة ”نتهم الإبادة الجماعية“ مادياً للأمم المتحدة كارثة لاتفاقية حقوق الطفل. طلب باترسون من ويب دي بوا وبول روبسون الانضمام إليه في باريس لتقديم العريضة للجمعية العمومية للأمم المتحدة.  كانت الولايات المتحدة قد حاولت لتوها أن تقاضي دو بوا كعميل أجنبي وصادرت جواز سفره، ومنعته من السفر. وجردت وزارة الخارجية روبرتسون من جواز سفره أيضاً مما عنى أنه كان قادراً فقط ”على إرسال نسخة من العريضة إلى ”مرؤوس في مكتب الأمين العام“ في نيويورك (أندرسون، المصدر نفسه). اعتُرضت الشحنة الرئيسية من نسخ العريضة في الطريق إلى باريس، فاضطر باترسون لإحضار نسخ أخرى إلى بودابست كي يوزعها في الجمعية العمومية. ثم اضطر للهرب من باريس حين حاولت السفارة الأميركية مصادرة جواز سفره وترحيله. إن ما قدمته منظمات حقوق الفلسطينيين للمحكمة الجنائية الدولية كان عملية أكثر عادية، لكن لم تحدث بدون خلفية درامية: سلم الملف الذي يحتوي على الاتهام بسياسة الفصل العنصري إلى المدعي العام من قبل مدير منظمة الحق شعوان جبارين التي سجنتها إسرائيل سابقاً دون محاكمة ومنعتها من السفر لأعوام كثيرة، والباحثة ندى كيسوانسون التي تعرضت لتهديدات متكررة بالقتل بسبب عملها حول المحكمة الجنائية الدولية وفلسطين.

9. كان هناك الكثير من التكهنات حول التداعيات المحتملة لتعيين كريم خان كمدعي عام قادم، بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية بعامة وللتحقيق حول فلسطين بشكل خاص. ووفقاً لبعض التخمينات الإعلامية، ”أفيد أن إسرائيل تأمل أن خان من المحتمل أن يكون أقل عدوانية أو حتى أن يلغي التحقيق. في رسالة بتاريخ نيسان 2021 من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى مجموعة المحافظين الأصدقاء لإسرائيل صرح علناً لأول مرة أن الحكومة البريطانية معارضة لتحقيق المحكمة الجنائية الدولية حول فلسطين، وأيضاً يبدو أنه زعم أن تعيين خان، المواطن البريطاني، يشكل انتصاراً لبريطانيا وحلفائها الذين ينشدون إصلاح المحكمة وفق أجدنتهم الخاصة.  إن دور المدعي العام مستقل رسمياً عن أية مصالح، لكن من الواضح أن كلمات جونسون يجب أن تكون إما انعكاساً لمبادرة دبلوماسية مصممة مسبقاً أو بياناً متعمداً لتعليم بطاقة خان. 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬