كان الأستاذ قد اقترب من السبعين وكان المريد في الخامسة والثلاثين حين منح الأستاذُ مريدَه أوّل حوار شامل طويل؛ حوار قُدِّر له أن يكون أول الحوارات الطويلة وأهمّها، إذ لم تُضِف الحوارات التالية، مع المريد نفسه أو مع مريدين آخرين، إلا بضعة تفاصيل هنا أو هناك، وتركيزًا على قضيّة بعينها أو مراوغة حيال قضيّة أخرى. يلفتنا تاريخ نشر كتاب جمال الغيطاني «نجيب محفوظ يتذكّر» عام 1980، قبل اغتيال السادات بعام، وبعد رحيل عبد الناصر بعقد كامل؛ ويلفتنا أنّه نُشر في بيروت لا في القاهرة مع أنّ أيًا من المشاركَيْن ما كان من المغضوب عليهم آنذاك كي ينشرا ما نشراه في بيروت. قدَّم لنا الغيطاني قراءات بارعة تقفز بين كلام الأستاذ وبين كلام شخوصه، بين تاريخ الأستاذ وبين التاريخ الموازي في أعماله. عرفنا للمرة الأولى تفاصيل كثيرة عن الجماليّة، عن الحسين، عن الطفولة، عن الصبا، عن بواكير الكتابة، عن تأخّر النقّاد في اكتشاف الكنز الذي كان سينتظر سيّد قطب نفسه كي ينفض عنه غبار السّنين ويقدّم محفوظ بوصفه أهمّ قلم شاب سيغيّر تاريخ السرد المصريّ. نعم، عرفنا أكثر عن سيّد قطب أيضًا، وعن علاقة الأستاذ بأعماله وبنقّاده؛ عرفنا تفضيلاته الشخصيّة وأدباءه المفضّلين، عرفنا الكتب التي كان لها الأثر الأكبر في التحوّلات المتلاحقة التي شهدتها أعماله: سير ولتر سكوت وسلامة موسى، كافكا وطه حسين، تولستوي وتوفيق الحكيم، تومس مان وإبراهيم عبد القادر المازني، منيرة المهديّة وأم كلثوم؛ وبالطّبع سعد زغلول وعبد النّاصر. كان السادات الغائبَ الحاضر، وبدا أنّ كامپ ديڤد لم تحدث مع أنّ عواقب زلزالها لمّا تنته بعد. ليس هذا غريبًا، بطبيعة الحال، في عالم التقية الذي يميّز نجيب محفوظ عمومًا. كان علينا أن ننتظر أعوامًا كي يبوح الأستاذ بأفكاره حيال السلام والحرب، وحيال السادات، بعد اغتياله طبعًا لا في حياته. أمّا الآن فوقتُ كشف الحساب تجاه عبد الناصر ويوليو التي لا ينزع محفوظ عنها صفة «الثورة» على أيّة حال. يشير محفوظ صراحةً إلى أنّه ليس معاديًا ليوليو أو لعبد الناصر، ولم يكن معاديًا لهما حتّى في أوج قوّتهما، وإنْ كانت له انتقاداته. وفي هذا الكلام قسطٌ كبيرٌ من الصحّة إذ كان محفوظ من بين أقوى الأصوات الناقدة غير المباشرة (كانت الأصوات المباشرة تقبع في المعتقلات آنذاك)، منذ سنوات الصمت بُعيد يوليو مرورًا بقنبلة «أولاد حارتنا» عام 1959، وليس انتهاءً بسلسلة الروايات المتلاحقة في الستينيّات، التي كانت تدعمها قصص أعلى نبرة، وإنْ لم تُقيَّض لها شهرة الروايات. بالتّوازي مع «بنك القلق» و«السلطان الحائر» لتوفيق الحكيم، كانت «اللص والكلاب» و«ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار»، وكانت «الخوف» و«روبابيكيا» و«ثلاثة أيام في اليمن». وبالطبع، كان المبتدى والمنتهى عند «أولاد حارتنا»، فكرةً وكتابةً ونشرًا متسلسلًا، وصولًا إلى نشرها كتابًا في «منفى» بيروت في عام الهزيمة 1967.
ولكن بالتّوازي مع المسيرة المدهشة التي بدأت بـ «أولاد حارتنا» (1959) وانتهت بـ «تحت المظلة» (1969) - مسيرة الأدب ومسيرة مناوشة السُّلطة في آن - كان طيفُ أستاذٍ آخر يتسلّل بين الكلمات. ما كان في مصر آنذاك إلا أستاذان تكفي الإشارة باللقب منفردًا ضمن سياق الأدب لندرك أنّه نجيب محفوظ لا سواه، ولكن ضمن سياق الصحافة ما كان ثمّة أستاذ إلا محمد حسنين هيكل، «الأستاذ» بأل التعريف، وإنْ كان هو يفضّل لقب «الجورنالجي». كان هيكل - بمعنى من المعاني - الشريك الخفيّ لمحفوظ في المسيرة المزدوجة في الأدب ومناوشة السُّلطة، بل ربّما ما كان لنا أن نستعيد تلك المسيرة ونقرأها، أو معظمها على الأقل، لولا حضور أستاذ الصحافة الذي كان - للمفارقة - يعيش عامَ نشر ذلك الحوار في سنوات الجَزْر القاسية في علاقته المتأرجحة بالسادات. كان هيكل في السابعة والخمسين، مطرودًا من مملكته في «الأهرام» منذ ست سنوات، وإنْ كان السادات حين طرده قد منحه، من حيث لا يعلم، فرصة العمر حين ضيَّق عليه حدود مصر فانطلق هيكل بلا قيود خارج مصر وخارج الناصريّة وخارج الساداتيّة، ليبدأ تشييد شخصيّة هيكل التي نعرفها اليوم. كان هيكل آنذاك يلملم جراحه بعد مناوشات عديدة هو الآخر، وإنْ مع السادات، بعد أيّام العز مع عبد الناصر. كان يعكف على أرشيفه المرعب الذي لم يُقدَّر لأيّ أحد غيره أن يعرف أسراره كاملة إلى اليوم (كان السادات قد حاول حرمانه منه ولم يُفلح، وكرّر حسني مبارك المحاولة بموجب «قانون الوثائق» عام 1983، أو ما عُرف لاحقًا باسم «قانون هيكل» ولم يفلح، إلى أن احترق قسم كبير من وثائق هيكل، معظمها بحسب بعض الأقوال، على يد «مجهولين» إثر فض اعتصام رابعة عام 2013). عام 1981، سيُعتقَل هيكل، وسيُقتل السادات، وسيبدأ «خريف الغضب». أما عام 1980، فقد كان هيكل موجودًا في حضور خفيّ في حوار محفوظ والغيطاني: نتذكّره كلّما أشار محفوظ إلى أيّ عمل من أعمال الستينيّات، ونتذكّره حين نقرأ اسم «الأهرام» التي باتت بحكم الواقع منذ الخمسينيّات إمبراطوريّة هيكل التي لا تنافسها إمبراطوريّة أخرى حتّى إمبراطوريّة ناصر والسادات قبل أن ينتزعها منه السادات (أو الأدق، قبل أن ينتزعه منها) لتفقد بريقها مع مرور السنوات، ونتذكّره حين يرد ذِكر حفل عيد ميلاد محفوظ الخمسين، إذ كان هيكل بجوار أم كلثوم التي قابلها محفوظ وجهًا لوجه للمرة الأولى والأخيرة بفضل هيكل. ولكن سرعان ما سيملّ هيكل من الظلال ليقتحم المشهد بقوّة بدخان سيگاره الكثيف مبدّدًا حتّى دخان شيشة محفوظ الذي حرَّض له ولنا عددًا من أعظم أعماله، سيقتحم المشهد حين يرد اسمه مجاورًا لاسم عبد الناصر في المقطع الذي سيبلغ شهرةً مدوّية، وسيحضر كلّما حضر اسما محفوظ وهيكل متجاورين بدورهما. يُدرِج محفوظ الحوار الوحيد الذي تبادله مع عبد الناصر. كان ذلك أثناء زيارة عبد الناصر لمبنى «الأهرام» الجديد، وقد كانت تلك الزيارة أيضًا زيارة عبد الناصر الأولى والأخيرة، إذ توفي بعد عام ونصف العام:
المرة الثالثة [التي لقيت عبد الناصر فيها] كانت في «الأهرام»، عندما زاره عام 1969 إذا لم تخنّي الذاكرة. كان يتحدث إلى كل شخص، قال لي:
- إزاي ناس الحسين بتوعك. بقالنا زمان ما قريناش لك قصة.
هيكل قال له:
- لا، دي بكرة طالعة له قصة.
كان يوم خميس. هيكل قال:
- نعمل إيه .. ما هي قصصه تودي الليمان.
عبد الناصر قال له:
- لا، دي تودي رئيس التحرير.
أعاد محفوظ رواية القصة بتغييرات طفيفة لاحقًا، إذ استبدل «الليمان» بـ «تودي في داهية». المهم هنا أنّ ذاكرته لم تخنه. كانت الزيارة عام 1969 فعلًا، وكانت يوم خميس فعلًا: الخميس 13 شباط/فبراير 1969. المفاجأة أنّ الذاكرة خانت هيكل، إذ أشار في حواره في يوسف القعيد إلى أنّ افتتاح مبنى «الأهرام» كان 1 نوفمبر 1969، وكانت زيارة عبد الناصر بعد الافتتاح ببضعة أشهر. تتعاظم المفاجأة حين يؤكّد هيكل أنّ نوفمبر ذاك كان آخر نوفمبر في حياة عبد الناصر، ويفصّل سبب اختيار تاريخ 1 نوفمبر بأنّه ذكرى انطلاق الثورة الجزائرية، فيما كان من المخطَّط أن يُفتَتح المبنى يوم 2 نوفمبر قبل أن يتذكّر هيكل أنّه ذكرى وعد بلفور. بل يتذكّر تفاصيل زيارة عبد الناصر، والأقسام التي زارها، وعدد الساعات التي قضاها. الغفلة الوحيدة والجوهريّة كانت هي عام افتتاح المبنى، إذ كان نوفمبر 1968، لا نوفمبر 1969. ما هو أهمّ، كان نفي هيكل القاطع لحدوث هذا الحوار،أو على الأقل لم يكن الحوار كما رواه الغيطاني على لسان محفوظ (يحرص هيكل هنا على تبرئة محفوظ من هذا الخلط، بخلاف ما سيفعله محفوظ لاحقًا في توريط هيكل)، ويصرّ - بمنطق كبير في حقيقة الأمر - على أنّ كلامه المزعوم في تلك الحادثة:
لا يتفق مع سلوكي مع عبد الناصر ولا نوع علاقتي به. ... من الممكن أن يكون هذا صحيحًا: «لم نقرأ لك شيئًا»؛ لكن أن أقول لجمال عبد الناصر في مواجهته، وفي حضور جمع كبير من الناس وعلنًا إنّه من الممكن أن يذهب كاتب في داهية في ظل حكمه بسبب قصة أدبية يكتبها، فمعناه أنّني أسيء إلى جمال عبد الناصر وإلى نظامه، وأكثر من ذلك أنّني أسيء لنفسي ولعلاقتي بجمال عبد الناصر.
بوسعي هنا أن أضيف تحفّظًا شخصيًا على حكاية محفوظ. لا يستقيم تاريخ الحادثة مع «بقالنا زمان ما قريناش لك قصة»، إذ كان محفوظ قد نشر مجموعتين قصصيتين عامَيْ 1968 و1969(«خمارة القط الأسود» و«تحت المظلة»)، وسبقتهما سلسلة روايات الستينيّات بتلاحق لاهث، إلا إذا كان عبد الناصر يقصد نشر رواية جديدة، ولكنّ ردّ هيكل في الحادثة كان يشير إلى قصة لا إلى رواية. ولكن، برغم التحفّظات، لا يمكن نفي معنى الحوار حتى لو شابَ الحادثةَ شيءٌ من التخبّط، وإنْ كان منطق هيكل أقوى. لا أقصد أنّ تأكيد منطق هيكل ينسف إمكانيّة حدوث الحوار؛ على العكس، منطق هيكل يؤكّد السياق من دون أن يؤكّد وقوع الحادثة بالضرورة. كانت المعتقلات تعجّ بسجناء بسبب قصة أدبيّة، وبسبب منشور، وبسبب حوادث أقل بكثير. غير أنّ هيكل ما كان ليصرّح علنًا، ولا أن يصرّح أمام عبد الناصر، ولا أمام هؤلاء الكتّاب بالذات: كتّاب «الأهرام». لم تكن سجون عبد الناصر لتوفيق الحكيم أو نجيب محفوظ أو صلاح جاهين مثلًا، ربّما لأنّهم أشهر من أن يُسجَنوا إذ سيؤدّي اعتقالهم إلى وجع رأس لا يميل إليه عبد الناصر، على الأخص بعد هزيمة 1967،وربّما لأنّهم «محسوبون» على هيكل.
ألا يتناقض هذا الكلام، وغفلة ذاكرة هيكل، مع «دقة» محفوظ في نقل الحوار؟ ليس بالضرورة. صحيح أنّ ذاكرة محفوظ لم تخنه بشأن عام افتتاح المبنى، غير أنّ ذاكرته انتقائيّة عمومًا ولا يُعوَّل عليها في الأرشفة والتأريخ والتوثيق. يقلّل محفوظ، مثلًا، من شأن إرنست همنغواي في حواره مع الغيطاني عام 1980، مع أنّه أشار في حوار قبل عام إلى أنّ همنغواي أحد كتّابه المفضّلين! ثمة شواهد عديدة على تخبّط ذاكرة محفوظ أو انتقائيّتها في استعادة أحداث بعينها. ولو أخذنا حادثة «الأهرام» ضمن سياق الكتاب ككل، يمكن لنا بهامش ثقة معقول أن نرى «تلاعب» محفوظ بالأحداث لتصفية حساب متأخر مع عبد الناصر، أو بالأحرى مع نظام عبد الناصر، من دون أن ننسى أنّ التضييق الفعليّ على محفوظ كان في زمن السادات الذي لم يذكره بحرف في هذا الحوار، لا في زمن عبد الناصر. هنا، أيضًا، عانت ذاكرة محفوظ من تخبّط أو تلاعب قد يفيدنا في نسف حوار «الأهرام» ذاك.
لدينا روايتان نُشرتا خارج «الأهرام» لأنّها لم تَرُق لإدارة الأهرام: «المرايا» (1971)، و«الحب تحت المطر» (1972) [التاريخان هنا تاريخا نشر الروايتين مسلسلتين في المجلات، لا تاريخ نشرهما في كتاب]. يشنّ محفوظ هجومًا أقسى في حواره مع رجاء النقّاش عام 1998 («صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»)، ليؤكّد: «كانت أغلب معاناتي مع إدارة الأهرام»، مشدّدًا أنّ هيكل هو من رفض نشر الروايتين في الجريدة، فنشرها النقّاش في مجلّتَيْ «الإذاعة والتلفزيون» و«الشباب» على الترتيب. ثمّ يرفع محفوظ نبرة التظلّم مُدخِلًا رواية «الكرنك» (1974) أيضًا، حين غضب هيكل من محفوظ بسببها، وشكاه لتوفيق الحكيم: «يرضيك كده؟ خد شوف نجيب باعت لي إيه؟!». قصة رواية «الكرنك» صحيحة على الأرجح، وقد غضب هيكل من محفوظ حقًا، بيد أنّ غضبه لم يكن شخصيًا بقدر ما كان مرتبطًا بتاريخ الكتابة. كُتبت الرواية عام 1971 (وإنْ لم تُنشَر إلا عام 1974)، في بدايات الحملة المنهجيّة لتشويه نظام عبد الناصر على يد السادات ونظامه. بدت الرواية آنذاك بمثابة طعنة غير متوقّعة من صديق لم يُعرَف حتّى تاريخه بوصفه ساداتيًا أو ميّالًا إلى تصفية حسابات، كما سيتبيّن لاحقًا. المشكلة هنا أنّ محفوظ نفسه يشير في حوار النقّاش إلى أنّ التشويه الذي طال رواية «الكرنك» (لا نملك إلا نصفها تقريبًا اليوم، وقد ضاع أصل الرواية) كان على يد رقيب الكتب لا رقيب «الأهرام»، فلم نعد نعرف بثقة ما إذا كان الحذف قد طالها حين نشرها في «الأهرام» أم حين طبعها السّحار في كتاب أم في المرتين. وفي جميع الأحوال، تبدَّد دخان معركة «الكرنك» لاحقًا حين أبدى محفوظ ندمه على كتابتها. ولكن ماذا عن «المرايا» و«الحب تحت المطر»؟
حين وجّه القعيد السؤال لهيكل، كانت إجابة هيكل جازمة: «هذه الأعمال لنجيب محفوظ لم تُعرَض عليّ إطلاقًا، بل قد أتجاوز وأقول إنّني لم أقرأها حتى الآن». مرةً أخرى،تبدو رواية هيكل أصدق، على الأخص بشان عدم قراءته للروايتين، إذ على الأرجح أنّ هيكل لم يقرأ إلا الأعمال التي نُشرت في «الأهرام»؛ ويبدو الشقّ الأول من إجابته أصدق من حكاية محفوظ أيضًا. محفوظ نفسه سيساعدنا هنا حين نقض كلامه بخصوص هاتين الروايتين تحديدًا، في حواره الطويل اللاحق مع جمال الغيطاني: «المجالس المحفوظيّة» (2004):
الغيطاني: لكن بعد مغادرة [هيكل] «الأهرام»، نُشرت لك روايتان خارج «الأهرام»: «الحب تحت المطر» و«المرايا». هل كان ذلك موقفًا من المرحوم يوسف السباعي؟
محفوظ: لا. كان ذلك رأي الدكتور لويس عوض باعتباره المستشار الثقافيّ للأهرام، اعترض على نشر «المرايا» ... واعترض أيضًا على «الحب تحت المطر».
إذن هو لويس عوض وليس هيكل، أو هذا ما نجده في آخر نسخة من نسخ ذاكرة محفوظ المتخبّطة. تهمّنا هاتان الروايتان هنا لا لنفهم تاريخ وظروف نشرهما وحسب، بل أيضًا لنفهم تحوّل الرقابة الناصريّة إلى الرقابة الساداتيّة، ولنفهم (لعلّ هذه هي النقطة الأهم) تاريخ جريدة «الأهرام» إثر رحيل عبد الناصر. عانت «الحب تحت المطر» من تشويه وحذف أيضًا حتّى حين رعاها رجاء النقّاش، ولا نملك أصل الرواية لنعرف مدى التشويه، بينما لم تُحذَف أيّة كلمة من أعمال محفوظ حين كان راعي النّشر هو هيكل، باعتراف محفوظ وهيكل معًا. يشير محمد شُعير في كتابه «أولاد حارتنا:سيرة الرواية المحرّمة» إلى أنّ فيلپ ستيوَرت، المترجم الأول لرواية «أولاد حارتنا» إلى الإنگليزيّة، وجد 961 اختلافًا بين النص الذي نشرته «الأهرام» ونص الرواية كما نشرته «دار الآداب»، غير أنّ محفوظ لم يتحدّث يومًا عن حذفٍ أو تغيير طالَ الرواية حين نشرها هيكل، بينما أبدى غضبًا غير مسبوق حيال الحذف الذي كان في نسخة «الآداب»، وبذا يمكن لنا الاستنتاج أنّ هيكل صادق في حكايته بشأن رفع أيّ نوع من أنواع الرقابة عن أعمال محفوظ، على عكس ما سيحدث لاحقًا. هذه الـ «لاحقًا» تعني بالتحديد مرحلة خروج هيكل من «الأهرام». متى خرج هيكل من «الأهرام»؟ الرواية السائدة باعتراف الجميع هي بدايات عام 1974، غير أنّ ثمة إشارات عديدة إلى أنّ خروجه كان على دفعات، إذ عمل السادات على تقويض سًلطة هيكل شيئًا فشيئًا منذ عام 1971. كانت روايتا «المرايا» و«الحب تحت المطر» قبل عام 1974، ومع ذلك لم يقرأهما هيكل لأنّهما - ببساطة - لم تدخلا إلى مكتبه. كانت «الأهرام» آنذاك - في ما نفهم من إشارات عديدة - قد انقسمت إدارتها بين أحمد بهاء الدين، ويوسف السباعي، وعبد القادر حاتم، وهيكل (ولويس عوض بوصفه مستشارًا ثقافيًا). لم يكن هيكل الآمرَ النّاهي الوحيد في إمبراطوريّته، كما كان أيام عبد الناصر، بل لم يكن حاضرًا دومًا في الجريدة. نتذكّر أنّه كان خارج مصر في رحلته الآسيويّة حين صدر بيان «اللاسلم واللاحرب» الذي وقّعه مثقّفون مصريّون، من بينهم الحكيم ومحفوظ، عام 1972. ما كان هيكل سيوقّعه بكل تأكيد، إذ كان من القلّة القليلة الذين يعرفون موعد اندلاع الحرب، غير أنّ ما يهمّنا هنا هو مدى تقوُّض سلطته في «الأهرام». من هنا بالذات نفهم إجابته الدقيقة على سؤال محمد شُعير حين سأله عن المستهدف الحقيقيّ أثناء أزمة «أولاد حارتنا»، هل هو هيكل أم محفوظ؟ كان ردّ هيكل الهادئ والدّقيق: الأهرام.
صحيح أنّ السادات لم يتخلّ عن هيكل كليًا في الأعوام التي سبقت حرب أكتوبر إلا أنّه عمل جاهدًا على تقويض «الأهرام» لأنّها كانت الجناح الأقوى في نظام عبد الناصر، وكانت - في الوقت ذاته - سُلطة حماية المثقفين (الكبار على الأقل) ضدّ نظام عبد الناصر، وضدّ تغوُّل السُّلطة في آن. كانت «الأهرام»، وكان هيكل، جدار حماية لهؤلاء الأدباء بسبب طبيعة علاقته الخاصة مع عبد الناصر. كان الطابق السادس في مبنى «الأهرام» طابقَ الحماية، إنْ لم يكن المبنى كلّه مبنى حماية. من دخل ديار هيكل فهو آمن بالنّسبة إلى عبد الناصر بالذات، وإنْ لم يكن آمنًا بالمطلق من أذرعة سُلطة يوليو وضبّاطها. هل كانت حكاية محفوظ التي رواها للغيطاني قد حدثت فعلًا؟ لا نملك إجابة دقيقة، ولكنْ ثمّة ظلال شكّ كبيرة حيالها. المخيف في الأمر أنّ ظلال الشك تلك تعني أمرًا واحدًا فقط: في ظل غياب السادات عن حوار عام 1980، وفي ظل الهجوم القاسي على عبد الناصر ونظامه في الحوار ذاته، وفي ظل تاريخ نشر الحوار حين بلغ غضب السادات أقصى درجاته على هيكل، هل كان محفوظ أداةً خفيّةً في تشويه هيكل أيضًا؟ لا نعلم. غير أنّ الردّ بالنّفي ليس ممكنًا بالمطلق، والردّ بالإيجاب مخيف.