القدس: نحو جغرافية ثقافية مقاومة (١ من ٣)

[المصدر: موقع الجزيرة] [المصدر: موقع الجزيرة]

القدس: نحو جغرافية ثقافية مقاومة (١ من ٣)

By : Hanadi Loubani هنادي لوباني

في كتابه مدينة بيضاء، مدينة سوداء: أسلوب بناء وحرب في تل أبيب ويافا،[i] يستخدم شارون روتبارد توصية لجنة التراث العالمي لليونيسكو في حزيران من عام ٢٠٠٣، بوضع "تل أبيب"، أو كما تسمى بـ "المدينة البيضاء"، على لائحة مواقع التراث العالمي الرسمي كلحظة تحول فيها المكان إلى جائزة في الصراع حول الجغرافيا، الذي بتوصيف إدوارد سعيد «ليس صراعاً حول العسكر والمدافع وحسب بل هو أيضاً صراع حول الأفكار، والأشكال، والصور، والمتصورات»،[ii] وأداة يسعى من خلالها من يفوز في هذا الصراع لأن يرسي ويثبت ذاته وكيانه القومي. يوظف روتبارد التهافت الإسرائيلي للاعتراف بـ "تل أبيب" كمدخل لتفكيك مركزية الهندسة المعمارية في سردية وسياسة العلاقات المكانية الإحلالية، التي تشكل جوهر الكيان الاستعماري، دولة ومجتمعاً، والقائمة على سياسة التهجير والتدمير من جهة، والبناء والتهويد من جهة أخرى. وظفت هذه السردية التخطيط والهندسة المعمارية كأداة حرب واضطهاد وإقصاء للسكان ومحو للمعالم الفلسطينية للمكان، وهكذا تحولت "تل أبيب" إلى مانيفستو مكاني، هدفه إنشاء تاريخ التاريخ للعمارة الإسرائيلية من خلال أسطرة المدينة وتراكيبها كـ "أول مدينة يهودية صافية" أقيمت في العصر الحديث، وكنقطة تدشينيه أو نقطة الصفر ـ اللحظة التي بدأت منها العمارة الإسرائيلية، وكواحدة من آليات تشريع وجودها عن طريق: (١) طمس عملية التطهير العرقي الذي مارسته العصابات الصهيونية على أهل يافا، طردهم ومحاصرتهم وإلقائهم في البحر، حيث قضى الآلاف منهم، ومن ثم تدمير ومحو مدينة يافا الفلسطينية وقراها، وإلغائهم من الوجود، وتحويلهم إلى كثبان من التربة السوداء؛ (٢) بناء المدينة الصهيونية المصطنعة على يافا لم تعد قائمة في الواقع، وتشييدها كـصفحة بيضاء، تابيولارازا، أقيمت عليها مساكن بشعة من الكونكريت، وبلغة معمارية أطلق عليها "العمارة الأممية"، international architecture، لمدرسة الباوهاوس، وما هي إلا تعبير معتمد لربط "تل أبيب" بمركزها الغربي من خلال إضفاء صفة "الحداثة المتمردة" على المحلية "التقليدية" الشرقية "المتخلفة" بحسب زعمهم، وهكذا تداخل في "تل أبيب"  الهندسة الحداثية بالعسكرية، والاستعمار الإحلالي، والتوسع الرأسمالي في رزمة واحدة.

كتاب روتبارد يفتح المجال لأخذ لحظة الاعتراف الأميركي بالقدس كـ "عاصمة موحدة وغير قابلة للتجزئة" لـ "إسرائيل"، والتهافت الإسرائيلي لقوننتها من خلال الهرولة نحو التطبيع مع النظام العربي الرجعي كمدخل لتفكيك الخطاب الصهيوني حول القدس، وسياسة الكيان الصهيوني القائمة على إخضاع المكان وامتلاكه وتهويده. وكما تمت عمليات السلب والنهب للبيوت والممتلكات لغربي القدس، وطرد وتهجير سكانها الفلسطينيين، وتسارعت عمليات السيطرة عليها بهدف تهويد المكان ومحو هويته الفلسطينية، تشتد اليوم قبضة الكيان على شرقي القدس عبر عمليات التهجير والطرد، سحب الهويات والإنذارات، هدم البيوت ومصادرة الأراضي والعقارات، والتغلغل الاستيطاني بين وداخل الأحياء الفلسطينية. تسعى هذه الانتهاكات والتعديات اليومية والممنهجة إلى تهجير وإقصاء وطمس الوجود العربي الفلسطيني في شرق المدينة بهدف الوصول إلى الإعلان عن "القدس الكبرى"، التي تجسد جوهر المخطط الإسرائيلي المتمثل بالمد من "القدس الموسعة" (١،٢٪ من مساحة الضفة الغربية) إلى "القدس الكبرى" (١٠٪ من مساحة الضفة)، وتقسيمها عنصرياً على أساس تحويل الفلسطينيين إلى أقلية لا تتجاوز نسبتهم ١٢٪ من المجموع الكلي لسكان المدينة، مقابل أغلبية يهودية يتم إحلالها في المدينة ومحيطها.[iii] الإعلان الأميركي عن صفقة القرن تبنى بشكل رسمي هذا المخطط الإسرائيلي لـ "القدس الكبرى"، وقوننه من خلال التطبيع مع النظام الرجعي العربي لفرض المخطط الصهيوني على مدينة القدس كأمر واقع داعم لـ "شرعية" الكيان، ووجوده، وملكيته للمكان.

تأخذنا هذه المقدمة إلى المسار الدائري المركب في جدلية التهجير/التدمير/المحو والبناء/الاستكتاب/التهويد ـ مسار لا يشكل حدثاً عارضاً أو عابراً في المشروع الصهيوني الإحلالي على أرض فلسطين بقدر ما هو "بنية متجذرة"، وفق تعبير خالد عنبتاوي،[iv] لا تستقيم دونها حلقات الوصل التي تهدف إلى مخاتلة الهوة بين المكان والجغرافيا، الزمان والتاريخ، بين يافا/"تل أبيب"، وبين القدس/"القدس الكبرى". وإذا مثل تكالب الحملات العسكرية على القدس واستعمار فلسطين الحاضن للمشروع الصهيوني، فإن إعلان ترامب حول القدس ما هو إلا حلقة جديدة في سلسة هذه الحملات الاستعمارية لاستملاك القدس/فلسطين للسيادة اليهودية وبعثها صهيونياً.

يذكرنا التاريخ أن إعلان ترامب حول القدس أتى في نفس الشهر لذكرى وصول القنصل الفرنسي على متن القطار التجريبي الأول لمشروع السكة الحديدية بين ميناء يافا وباب يافا (باب الخليل) في القدس عام ١٨٩١. سكة يافا ـ القدس لم تكن لا عثمانية ولا فلسطينية، بل كانت «سكة استعمارية أوروبية في فلسطين العثمانية»، وسابقة في التاريخ للخط الحديدي الحجازي العثماني ما بين دمشق والمدينة المنورة، وغير متصلة به في معظم تاريخها.[v] أنشأت السكة بتمويل فرنسي، أدارت عائداته المالية عائلة تشيولنسي اليهودية لصالح الشركة الفرنسية تحت الإشراف الإداري لمجموعة من المهندسين الفرنسيس، والذين كانوا أعضاء دائمين في المحفل الماسوني المؤسس الثاني في يافا في العام ١٨٧٠، وبقضبان وملاقط حديدية فرنسية وبلجيكية، وقاطرات بخارية من صناعة أمريكية، وقوة عمالة فلسطينية ومصرية وسودانية وجزائرية.[vi] وما إن أمر ترامب ببدء التحضيرات لنقل سفارة بلاده من "تل أبيب" إلى القدس حتى رحب نتانياهو بالقرار معتبره "حدثاً تاريخياً"، تماماً كما تهافت القناصل الأجانب والمسؤولون العثمانيون في ٢٦ أيلول، ١٨٩٢ لتدشين تلك "اللحظة التاريخية" لافتتاح مشروع السكة الفرنسي ـ الأمريكي رسمياً وبدأ انطلاق القطارات بين ميناء يافا والقدس، فيما وقف وزير المواصلات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في ٢٠ أيلول، ٢.١٨ مفاخراً بافتتاح خط القطار السريع، الذي اعتبره "لحظة مجيدة" في تاريخ "إسرائيل"، عنوانها «الحج "علياه" من "تل أبيب" إلى "أورشليم"»، أي من "عاصمة" الكيان الدنيوية الحداثية إلى "عاصمة" الكيان الدينية التوراتية، مستعيداً بهذا خطاب بن غوريون في ٧ آب، ١٩٤٩ في حفل استقبال القطار الأول إلى "القدس الغربية"، والذي  بزعمه كان بمثابة «الحج نحو القدس في عصرنا، بعد استئناف كينونتنا القومية في أرضنا».[vii]

بالتوازي مع هذه الخطابات المنتشية، تتكاثر سرديات المؤرخين والشعراء والروائيين والفنانين العرب والفلسطينيين حول القدس، والتي عادة ما تتجلى في صور عاطفية ونمطية وبعيدة عن واقع المدينة اليومي وحمولة ساكنيها الوطنية والوجودية، فيما تنهمك القيادات العربية والإسلامية بتراشق التبجيل والتبرك بالجغرافيا المقدسة للمدينة، والتي توظف الموروثات "الإسرائيلية" والصليبية وتعترف بهما لاهوتياً، في حين تتنصل القيادة والسلطة الفلسطينية من قضية القدس بإرجائها إلى أجل غير مسمى. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا: كيف نستمسك بخيط العلاقة الذي يربط بين يافا و"تل أبيب" وبين القدس و"القدس الكبرى" في قراءة لا تسهم فقط في إضاءة السياسات الصهيونية المكانية تجاه القدس، بل وأيضاً في تفكيك الجغرافيا الصهيونية بهدف تقويض راهنها الاستعماري الإحلالي على أرض فلسطين؟ وفي خضم نكوص المجال السياسي وعقم خياراته، هل ينكشف في ما يُغاير السياسية مورد جغرافية ندية قادرة على الانزلاق واختراق الحدود من أجل انكشافها في السياسة ذاتها؟ وما هي الميادين والمجالات والمحددات التي ينطلق منها هذا المورد؟

عن أي قدس نتحدث؟

لا بد أن نؤكد بداية أن المعركة التي تدور اليوم في/على القدس هي ليست معركة بين شعبين وتاريخين وهويتين، كما يروج لها مثقفو نظرية نسبية الحقائق الأخلاقية ومرضى البراغماتية الأخلاقية الذين يدمغون الحقائق بما يلائم ذرائعهم السياسية وتشوهاتهم القيمية؛ بل القضية الأكثر بعداً في مدلولاتها الصراعية؛ فهي التجسيد العملي للنكبة الفلسطينية المستمرة، وساحة الاشتباك المركزية بين جغرافيا استعمارية صهيونية، تهدف إلى تحقيق مشروعها الإحلالي على القدس/فلسطين وسرديته التوراتية عن "المدينة والأرض الموعودة" من جهة؛ وجغرافية ندية قائمة على مشروع فلسطيني عربي تحرري يسعى إلى استعادة الحقيقة والحقوق التاريخية في القدس لمواطن الأصالة الفلسطينية العربية من جهة أخرى.

ولكن عن أي قدس نتحدث هنا؟ هل عن القدس التي بناها الفلسطينيون القدامى في الألف الرابعة قبل الميلاد، أي قبل ظهور اليهودية بنحو ثلاثة قرون، وهي بذلك مدينة تاريخية ودينية وثقافية طاعنة في عمق حضاري تعاقب عليها الكنعانيون واليبوسيون العرب والفرس والفراعنة والرومان والعثمانيون وغيرهم من الحضارات الإنسانية المدججة بالتنوع الثقافي واللغوي والتاريخي؟ هل نتحدث عن القدس التاريخية، بغربها وشرقها، كأرض محتلة تسري عليها أحكام اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على السلطة المحتلة طرد سكانها، أو استيطان أرضها، أو نزع ملكيتها، أو المساس بوضعها الحضاري والجغرافي والديمغرافي؟ هل نتحدث عن القدس في الشرعية الدولية، اعتباراً من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٨١، الذي ينص أن السيادة على القدس معلقة، واقترح أن تكون القدس ومشارفها كيان مستقل تحت نظام دولي خاص تديره الأمم المتحدة؟ ام هل نتحدث عن القدس في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ٢٤٢، الذي ينص على الانسحاب من "القدس الشرقية" باعتبارها ضمن الأراضي التي احتلت في ١٩٦٧، وليس على الجزء الغربي من المدينة الذي احتله الكيان في ١٩٤٨، وأعلنه بصورة غير مشروعة عاصمة له منذ عام ١٩٥٠، ورسمياً في ٣٠ تموز ١٩٨٠؟ هل نتحدث عن القدس في المادة ٣١ (٥) من اتفاقية أوسلو، التي توضح أن القدس هي إحدى قضايا الوضع الدائم، وما يصاحبه من توضيح من دائرة شؤون المفاوضات بأن «مطالبة الفلسطينيين بأن تكون القدس عاصمة دولة فلسطين لا تعني بالضرورة وجوب أن تكون لفلسطين السيادة على كامل المدينة... وأنه لدى الجانب الفلسطيني في الماضي وربما في المستقبل الاستعداد لقبول حل لمستقبل المدينة لا يشمل السيادة الكاملة مثل التدويل، السيادة المشتركة، أو مدينة مقسمة يكون لكل دولة سيادة على القسم الخاص بها بحيث تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية»،[viii] في تلاعب لغوي يرفع شعار "القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية" فيما يعاد تعريف فلسطين لتصبح أقل من ثلث الضفة الغربية، وتختزل السيادة على القدس إلى قضية مقدسات، وحرية دينية بعد نزع البعد السياسي الوطني عنها، ولربما على طريق تعريف "القدس الشرقية" بحي من أحيائها؟! هل نتحدث عن القدس التي دعا خبراء الأمن القومي الصهيوني بعد هبة باب الأسباط الى توسيع الوصاية الإسلامية على مسجدها الأقصى لتشمل دولاً إسلامية تساهم في الحفاظ على الأمن في منطقته، وما يشكله هذا كمدخل لعملية المفاوضات هدفها الوصول من خلال التطبيع، الذي بات يُمثل الأداة العملية في بناء التحالف العربي الصهيوني، لتصفية القضية الفلسطينية؟

لا بد أن نؤكد بداية أن المعركة التي تدور اليوم في/على القدس هي ليست معركة بين شعبين وتاريخين وهويتين، كما يروج لها مثقفو نظرية نسبية الحقائق الأخلاقية ومرضى البراغماتية الأخلاقية الذين يدمغون الحقائق بما يلائم ذرائعهم السياسية وتشوهاتهم القيمية؛ بل القضية الأكثر بعداً في مدلولاتها الصراعية؛ فهي التجسيد العملي للنكبة الفلسطينية المستمرة، وساحة الاشتباك المركزية بين جغرافيا استعمارية صهيونية، تهدف إلى تحقيق مشروعها الإحلالي على القدس/فلسطين وسرديته التوراتية عن "المدينة والأرض الموعودة" من جهة؛ وجغرافية ندية قائمة على مشروع فلسطيني عربي تحرري يسعى إلى استعادة الحقيقة والحقوق التاريخية في القدس لمواطن الأصالة الفلسطينية العربية من جهة أخرى.

لأسباب كثيرة يفترض بنا أن نحدد عن أي قدس نتحدث وأن نأخذ المكان على محمل الجد. هنا لا بد من التأكيد على أن الممارسات الصهيونية المشبعة بإرادة التوسع والسيطرة والهيمنة على شرقي القدس هي جزء من جغرافيا تخيلية صهيونية اتكأت على سردية توراتية واستشراقية واستعمارية إحلالية عمدت مما قبل ١٩٤٨ إلى إعادة تشكيل الجغرافيا المدينية، وفرض أمر واقع عززته بالقوانين، وحولته لاحقاً إلى أيقونة سردية تزعم بأن القدس هي "العاصمة التاريخية" لـ "إسرائيل" و"العاصمة الروحية" لليهودية، وتدعم ملكية الكيان الصهيوني لتلك "الأرض الموعودة"؛ وبالتالي، ان تحليل هذه الجغرافيا التخيلية في شرقي القدس هو تحليل لسياقات مركبة، ولكن ضمن مشروع واحد يهدف إلى تهويد القدس/فلسطين التاريخية وتشويه حقيقتها زمانياً ومكانياً.

المنعطف المكاني والجغرافيا التخيلية:

ساهم المنعطف المكاني، Spatial Turn، الذي دشنه ميشيل فوكو وهنري ليفيفر وتم ترسيخه لاحقًا بواسطة إدوارد سوجا، إلى اعتبار المكان كمكون أساسي في العلاقة بين المعرفة والسلطة، أي في نظم إنتاج المكان وصياغته وتمثيله سردياً، وتشكيله مادياً من خلال الممارسات الجيوسياسية، بما فيها الاحتلال العسكري، والآليات القانونية، والتخطيط العمراني، والهندسة الديموغرافية، والتي يتم توظيفها كجزء من عملية اختراع الذات القومية وبما يخدم مصالح السلطة المسيطرة. كان إدوارد سعيد قد أرسى القاعدة النظرية لهذا المنعطف عن طريق مفهوم الجغرافيا التخيلية، Imaginative Geography، والذي ابتدعه كمفهوم مبني على أهمية تأويل وفهم المكان في تفكيك الابتناء الاستعماري لفضاء الآخر المكاني.[ix] والواقع ان الجغرافيا هي توصيف غير مكاني، وان اكتسبت ثبات معناها وكليته من خلال السرديات التخيلية للمكان، أي عبر تمثيله في اللغة والنصوص التي تنتج صور نمطية عنه، واستحداث القوانين والأدوات والممارسات المؤسساتية لتحقيقهم على واقع أرضه، ومن ثم بكل ما هو مستبعد من نظمهم التمثيلية. إذاً، الجغرافيا، كميدان للمعرفة/السلطة، هي وضع «استراتيجي مكتسب ومرسخ تقريباً في مجابهة ذات مدى تاريخي طويل بين خصوم معينين».[x] ولا أدق عن هذا إلا قول المعماري الإسرائيلي رام كارمي: «اننا لا نخطط التضاريس الطبيعية فحسب، بل التضاريس الذهنية في نفوس البشر، أيضاً».[xi] 

والواقع أيضاً إنه لا يمكن فصل المكان عن الزمان، إلا أن الرابط بين المكان والزمان ليس جوهرياً أو تتابعياً أو ظاهرياً، بحيث يكون الماضي سلسلة متصلة من التقدم ومفتاح المكان المتخيل في الحاضر، أو كأن كل ما في التاريخ هو حقيقي ولا يطاله شك، لأنه وقع وانتهى؛ فالتاريخ ليس ما وقع ماضياً، بل ما هو واقع في ماض مستمر في الحاضر ومتجه إلى المستقبل، كما ان التاريخ ليس واحداً، إذ ما زال هناك المغيب والمسكوت عنه في بطون التاريخ. وإن التاريخ الرسمي هو أكثر أنواع التاريخ سيادة، فذاك لأنه اصطنع لأغراض السلطة؛ إنه خطابها حول ذاتها ومجالها المفضل الذي تطور فيه مشروعيتها، أو بوصف والتر بنيامين، وثيقة بربرية ولسان حال الآحاد الذي يصب في خدمة مصالحهم، غير آبه بذكريات وتجارب وسرديات وتضحيات وآلام العموم الكادحة.[xii] التاريخ شبكة معقدة ومركبة من السرديات والعلاقات والعلائق المتداخلة بها، فـ «حيث لا يوجد سرد، لا يوجد تاريخ» بتوصيف بنديتو كروتشه. وبالتالي فان، مفهوم المنعطف المكاني والجغرافيا التخيلية لا يتجاوزان الزمان، بقدر ما هما «تزمين»، بتوصيف بول ريكور، وتأريخ لتاريخ آخر ولذاكرة مغيبة، عودة نقدية للتاريخ وقراءة تفنيديه بـ «انتظار المستقبل وتلقي الماضي وتجربة الحاضر، من دون الإلغاء في كلية يتطابق فيها العقل التاريخي مع واقعه».[xiii] إذاً ليس القصد في الجغرافيا التخيلية التخلص من التاريخانية، بل التداخل بين المكان والزمان والنص، ورفع درجة هذا التداخل للتأكيد على سردية المكان القابضة على تاريخ آخر، ولإنتاج جغرافية ثقافية ندية: تحفر في الثغرات وتفجر مواضع التخلخل فيهم، وتكشف المغيب والمخفي والمهمش، وفي تفكيك لمواقع التلفيق والتزوير والألاعيب الاستراتيجية ومخاتلات النص للمكان والزمان، وفي سعي لتقويض المركزي والأحادي والسلطوي وغيرها من المعطيات التوسعية التي تنطوي عليها السرديات الاستعمارية.

هوامش 

[i] Rotbard, Sharon. White City, Black City: Architecture and War in Tel Aviv and Jaffa. (Cambridge: MIT press, 2015).
[ii] إدوارد سعيد. الثقافة والامبريالية. ترجمة: كمال أبو ديب. (بيروت: دار الآداب، ٢٠١٤)، صـ ٧٨.
[iii] خليل التفكجي. «القدس الكبرى كما تراها إسرائيل». مجلة الدراسات الفلسطينية، ١١٣ (شتاء، ٢٠١٨)، صـ ١٩٨.
[iv] خالد عنبتاوي. «يافا ضحية جمالها»، مجلة فسحة (٢٠٢١)، في الرابط الإلكتروني التالي.
[v] خالد عودة الله. «يافا - القدس: تاريخ موجز لسكة الاستعمار»، صفحة باب الواد (٢٠١٨)، في الرابط الإلكتروني التالي.
[vi] المصدر السابق.
[vii] المصدر السابق.
[viii] «وضع القدس في القانون الدولي». دائرة شؤون المفاوضات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، في الرابط الإلكتروني التالي.
[ix] Said, Edward. The World, the Text, and the Critic. (Cambridge: Harvard University Press, 1983), p. 137-8
[x] أوبير دريفوس وبول رابينوف. ميشيل فوكو: مسيرة فلسفية. ترجمة جورج أبي صالح ومطاع صفدي. (بيروت: مركز الإنماء القومي، ١٩٩٠)، صـ ٢٠١.
[xi] سنان عبد القادر. «العمارة والحيز الثالث وما بينهما».  بناة ـ العمارة والبناء (٢٠١٠)، في الرابط الإلكتروني التالي.
[xii] الاقتباس الكامل هو: «لا توجد وثيقة حضارية ليست في نفس الوقت وثيقة بربرية. ومثل هذه الوثيقة لا تخلو من البربرية، البربرية تصبغ أيضاً الطريقة التي تم بها نقلها من مالك إلى آخر». أنظر: Benjamin, Walter. “Theses on the philosophy of history”, in Illuminations, ed. Harry Zohn (New York: Schocken Books, 1969), p. 256.
[xiii] بول ريكور. الزمان والسرد، الزمان المروي. الجزء الثالث. ترجمة: سعيد الغانمي. (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ٢٠٠٦)، صـ ٣١٣.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (3 - 3)

      من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (3 - 3)

      على مشارف حيفا، يقول سعيد (س) لزوجته صفية، التي كانت منصرمة إلى التحديق نحو الطريق غير مصدقة بأنها ستراها مرة أخرى: «أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك.. لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفورًا، لم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ.. لسواد عينيك وعيني؟ لا.

    • من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (2 - 3)

      من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (2 - 3)

      وقف منصور عباس، زعيم القائمة العربية الموحدة، مبتسمًا بجوار نفتالي بينيت بعد لحظات من تولي الأخير رئاسة الوزراء وتحقيقه أغلبية بسيطة للأحزاب الساعية للإطاحة ببنيامين نتنياهو.

    • من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (1 - 3)

      من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (1 - 3)

      بعد عشرين عامًا يصل سعيد (س) وزوجته صفية إلى بيت كان يومًا لهما في حيفا(1). يصعدان الدرج المؤدي إلى بيتهما في الطابق الثاني. يجاهد سعيد (س) ألا ينظر إلى الأشياء الصغيرة

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬