في كتابه مدينة بيضاء، مدينة سوداء: أسلوب بناء وحرب في تل أبيب ويافا،[i] يستخدم شارون روتبارد توصية لجنة التراث العالمي لليونيسكو في حزيران من عام ٢٠٠٣، بوضع "تل أبيب"، أو كما تسمى بـ "المدينة البيضاء"، على لائحة مواقع التراث العالمي الرسمي كلحظة تحول فيها المكان إلى جائزة في الصراع حول الجغرافيا، الذي بتوصيف إدوارد سعيد «ليس صراعاً حول العسكر والمدافع وحسب بل هو أيضاً صراع حول الأفكار، والأشكال، والصور، والمتصورات»،[ii] وأداة يسعى من خلالها من يفوز في هذا الصراع لأن يرسي ويثبت ذاته وكيانه القومي. يوظف روتبارد التهافت الإسرائيلي للاعتراف بـ "تل أبيب" كمدخل لتفكيك مركزية الهندسة المعمارية في سردية وسياسة العلاقات المكانية الإحلالية، التي تشكل جوهر الكيان الاستعماري، دولة ومجتمعاً، والقائمة على سياسة التهجير والتدمير من جهة، والبناء والتهويد من جهة أخرى. وظفت هذه السردية التخطيط والهندسة المعمارية كأداة حرب واضطهاد وإقصاء للسكان ومحو للمعالم الفلسطينية للمكان، وهكذا تحولت "تل أبيب" إلى مانيفستو مكاني، هدفه إنشاء تاريخ التاريخ للعمارة الإسرائيلية من خلال أسطرة المدينة وتراكيبها كـ "أول مدينة يهودية صافية" أقيمت في العصر الحديث، وكنقطة تدشينيه أو نقطة الصفر ـ اللحظة التي بدأت منها العمارة الإسرائيلية، وكواحدة من آليات تشريع وجودها عن طريق: (١) طمس عملية التطهير العرقي الذي مارسته العصابات الصهيونية على أهل يافا، طردهم ومحاصرتهم وإلقائهم في البحر، حيث قضى الآلاف منهم، ومن ثم تدمير ومحو مدينة يافا الفلسطينية وقراها، وإلغائهم من الوجود، وتحويلهم إلى كثبان من التربة السوداء؛ (٢) بناء المدينة الصهيونية المصطنعة على يافا لم تعد قائمة في الواقع، وتشييدها كـصفحة بيضاء، تابيولارازا، أقيمت عليها مساكن بشعة من الكونكريت، وبلغة معمارية أطلق عليها "العمارة الأممية"، international architecture، لمدرسة الباوهاوس، وما هي إلا تعبير معتمد لربط "تل أبيب" بمركزها الغربي من خلال إضفاء صفة "الحداثة المتمردة" على المحلية "التقليدية" الشرقية "المتخلفة" بحسب زعمهم، وهكذا تداخل في "تل أبيب" الهندسة الحداثية بالعسكرية، والاستعمار الإحلالي، والتوسع الرأسمالي في رزمة واحدة.
كتاب روتبارد يفتح المجال لأخذ لحظة الاعتراف الأميركي بالقدس كـ "عاصمة موحدة وغير قابلة للتجزئة" لـ "إسرائيل"، والتهافت الإسرائيلي لقوننتها من خلال الهرولة نحو التطبيع مع النظام العربي الرجعي كمدخل لتفكيك الخطاب الصهيوني حول القدس، وسياسة الكيان الصهيوني القائمة على إخضاع المكان وامتلاكه وتهويده. وكما تمت عمليات السلب والنهب للبيوت والممتلكات لغربي القدس، وطرد وتهجير سكانها الفلسطينيين، وتسارعت عمليات السيطرة عليها بهدف تهويد المكان ومحو هويته الفلسطينية، تشتد اليوم قبضة الكيان على شرقي القدس عبر عمليات التهجير والطرد، سحب الهويات والإنذارات، هدم البيوت ومصادرة الأراضي والعقارات، والتغلغل الاستيطاني بين وداخل الأحياء الفلسطينية. تسعى هذه الانتهاكات والتعديات اليومية والممنهجة إلى تهجير وإقصاء وطمس الوجود العربي الفلسطيني في شرق المدينة بهدف الوصول إلى الإعلان عن "القدس الكبرى"، التي تجسد جوهر المخطط الإسرائيلي المتمثل بالمد من "القدس الموسعة" (١،٢٪ من مساحة الضفة الغربية) إلى "القدس الكبرى" (١٠٪ من مساحة الضفة)، وتقسيمها عنصرياً على أساس تحويل الفلسطينيين إلى أقلية لا تتجاوز نسبتهم ١٢٪ من المجموع الكلي لسكان المدينة، مقابل أغلبية يهودية يتم إحلالها في المدينة ومحيطها.[iii] الإعلان الأميركي عن صفقة القرن تبنى بشكل رسمي هذا المخطط الإسرائيلي لـ "القدس الكبرى"، وقوننه من خلال التطبيع مع النظام الرجعي العربي لفرض المخطط الصهيوني على مدينة القدس كأمر واقع داعم لـ "شرعية" الكيان، ووجوده، وملكيته للمكان.
تأخذنا هذه المقدمة إلى المسار الدائري المركب في جدلية التهجير/التدمير/المحو والبناء/الاستكتاب/التهويد ـ مسار لا يشكل حدثاً عارضاً أو عابراً في المشروع الصهيوني الإحلالي على أرض فلسطين بقدر ما هو "بنية متجذرة"، وفق تعبير خالد عنبتاوي،[iv] لا تستقيم دونها حلقات الوصل التي تهدف إلى مخاتلة الهوة بين المكان والجغرافيا، الزمان والتاريخ، بين يافا/"تل أبيب"، وبين القدس/"القدس الكبرى". وإذا مثل تكالب الحملات العسكرية على القدس واستعمار فلسطين الحاضن للمشروع الصهيوني، فإن إعلان ترامب حول القدس ما هو إلا حلقة جديدة في سلسة هذه الحملات الاستعمارية لاستملاك القدس/فلسطين للسيادة اليهودية وبعثها صهيونياً.
يذكرنا التاريخ أن إعلان ترامب حول القدس أتى في نفس الشهر لذكرى وصول القنصل الفرنسي على متن القطار التجريبي الأول لمشروع السكة الحديدية بين ميناء يافا وباب يافا (باب الخليل) في القدس عام ١٨٩١. سكة يافا ـ القدس لم تكن لا عثمانية ولا فلسطينية، بل كانت «سكة استعمارية أوروبية في فلسطين العثمانية»، وسابقة في التاريخ للخط الحديدي الحجازي العثماني ما بين دمشق والمدينة المنورة، وغير متصلة به في معظم تاريخها.[v] أنشأت السكة بتمويل فرنسي، أدارت عائداته المالية عائلة تشيولنسي اليهودية لصالح الشركة الفرنسية تحت الإشراف الإداري لمجموعة من المهندسين الفرنسيس، والذين كانوا أعضاء دائمين في المحفل الماسوني المؤسس الثاني في يافا في العام ١٨٧٠، وبقضبان وملاقط حديدية فرنسية وبلجيكية، وقاطرات بخارية من صناعة أمريكية، وقوة عمالة فلسطينية ومصرية وسودانية وجزائرية.[vi] وما إن أمر ترامب ببدء التحضيرات لنقل سفارة بلاده من "تل أبيب" إلى القدس حتى رحب نتانياهو بالقرار معتبره "حدثاً تاريخياً"، تماماً كما تهافت القناصل الأجانب والمسؤولون العثمانيون في ٢٦ أيلول، ١٨٩٢ لتدشين تلك "اللحظة التاريخية" لافتتاح مشروع السكة الفرنسي ـ الأمريكي رسمياً وبدأ انطلاق القطارات بين ميناء يافا والقدس، فيما وقف وزير المواصلات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في ٢٠ أيلول، ٢.١٨ مفاخراً بافتتاح خط القطار السريع، الذي اعتبره "لحظة مجيدة" في تاريخ "إسرائيل"، عنوانها «الحج "علياه" من "تل أبيب" إلى "أورشليم"»، أي من "عاصمة" الكيان الدنيوية الحداثية إلى "عاصمة" الكيان الدينية التوراتية، مستعيداً بهذا خطاب بن غوريون في ٧ آب، ١٩٤٩ في حفل استقبال القطار الأول إلى "القدس الغربية"، والذي بزعمه كان بمثابة «الحج نحو القدس في عصرنا، بعد استئناف كينونتنا القومية في أرضنا».[vii]
بالتوازي مع هذه الخطابات المنتشية، تتكاثر سرديات المؤرخين والشعراء والروائيين والفنانين العرب والفلسطينيين حول القدس، والتي عادة ما تتجلى في صور عاطفية ونمطية وبعيدة عن واقع المدينة اليومي وحمولة ساكنيها الوطنية والوجودية، فيما تنهمك القيادات العربية والإسلامية بتراشق التبجيل والتبرك بالجغرافيا المقدسة للمدينة، والتي توظف الموروثات "الإسرائيلية" والصليبية وتعترف بهما لاهوتياً، في حين تتنصل القيادة والسلطة الفلسطينية من قضية القدس بإرجائها إلى أجل غير مسمى. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا: كيف نستمسك بخيط العلاقة الذي يربط بين يافا و"تل أبيب" وبين القدس و"القدس الكبرى" في قراءة لا تسهم فقط في إضاءة السياسات الصهيونية المكانية تجاه القدس، بل وأيضاً في تفكيك الجغرافيا الصهيونية بهدف تقويض راهنها الاستعماري الإحلالي على أرض فلسطين؟ وفي خضم نكوص المجال السياسي وعقم خياراته، هل ينكشف في ما يُغاير السياسية مورد جغرافية ندية قادرة على الانزلاق واختراق الحدود من أجل انكشافها في السياسة ذاتها؟ وما هي الميادين والمجالات والمحددات التي ينطلق منها هذا المورد؟
عن أي قدس نتحدث؟
لا بد أن نؤكد بداية أن المعركة التي تدور اليوم في/على القدس هي ليست معركة بين شعبين وتاريخين وهويتين، كما يروج لها مثقفو نظرية نسبية الحقائق الأخلاقية ومرضى البراغماتية الأخلاقية الذين يدمغون الحقائق بما يلائم ذرائعهم السياسية وتشوهاتهم القيمية؛ بل القضية الأكثر بعداً في مدلولاتها الصراعية؛ فهي التجسيد العملي للنكبة الفلسطينية المستمرة، وساحة الاشتباك المركزية بين جغرافيا استعمارية صهيونية، تهدف إلى تحقيق مشروعها الإحلالي على القدس/فلسطين وسرديته التوراتية عن "المدينة والأرض الموعودة" من جهة؛ وجغرافية ندية قائمة على مشروع فلسطيني عربي تحرري يسعى إلى استعادة الحقيقة والحقوق التاريخية في القدس لمواطن الأصالة الفلسطينية العربية من جهة أخرى.
ولكن عن أي قدس نتحدث هنا؟ هل عن القدس التي بناها الفلسطينيون القدامى في الألف الرابعة قبل الميلاد، أي قبل ظهور اليهودية بنحو ثلاثة قرون، وهي بذلك مدينة تاريخية ودينية وثقافية طاعنة في عمق حضاري تعاقب عليها الكنعانيون واليبوسيون العرب والفرس والفراعنة والرومان والعثمانيون وغيرهم من الحضارات الإنسانية المدججة بالتنوع الثقافي واللغوي والتاريخي؟ هل نتحدث عن القدس التاريخية، بغربها وشرقها، كأرض محتلة تسري عليها أحكام اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على السلطة المحتلة طرد سكانها، أو استيطان أرضها، أو نزع ملكيتها، أو المساس بوضعها الحضاري والجغرافي والديمغرافي؟ هل نتحدث عن القدس في الشرعية الدولية، اعتباراً من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٨١، الذي ينص أن السيادة على القدس معلقة، واقترح أن تكون القدس ومشارفها كيان مستقل تحت نظام دولي خاص تديره الأمم المتحدة؟ ام هل نتحدث عن القدس في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ٢٤٢، الذي ينص على الانسحاب من "القدس الشرقية" باعتبارها ضمن الأراضي التي احتلت في ١٩٦٧، وليس على الجزء الغربي من المدينة الذي احتله الكيان في ١٩٤٨، وأعلنه بصورة غير مشروعة عاصمة له منذ عام ١٩٥٠، ورسمياً في ٣٠ تموز ١٩٨٠؟ هل نتحدث عن القدس في المادة ٣١ (٥) من اتفاقية أوسلو، التي توضح أن القدس هي إحدى قضايا الوضع الدائم، وما يصاحبه من توضيح من دائرة شؤون المفاوضات بأن «مطالبة الفلسطينيين بأن تكون القدس عاصمة دولة فلسطين لا تعني بالضرورة وجوب أن تكون لفلسطين السيادة على كامل المدينة... وأنه لدى الجانب الفلسطيني في الماضي وربما في المستقبل الاستعداد لقبول حل لمستقبل المدينة لا يشمل السيادة الكاملة مثل التدويل، السيادة المشتركة، أو مدينة مقسمة يكون لكل دولة سيادة على القسم الخاص بها بحيث تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية»،[viii] في تلاعب لغوي يرفع شعار "القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية" فيما يعاد تعريف فلسطين لتصبح أقل من ثلث الضفة الغربية، وتختزل السيادة على القدس إلى قضية مقدسات، وحرية دينية بعد نزع البعد السياسي الوطني عنها، ولربما على طريق تعريف "القدس الشرقية" بحي من أحيائها؟! هل نتحدث عن القدس التي دعا خبراء الأمن القومي الصهيوني بعد هبة باب الأسباط الى توسيع الوصاية الإسلامية على مسجدها الأقصى لتشمل دولاً إسلامية تساهم في الحفاظ على الأمن في منطقته، وما يشكله هذا كمدخل لعملية المفاوضات هدفها الوصول من خلال التطبيع، الذي بات يُمثل الأداة العملية في بناء التحالف العربي الصهيوني، لتصفية القضية الفلسطينية؟
لأسباب كثيرة يفترض بنا أن نحدد عن أي قدس نتحدث وأن نأخذ المكان على محمل الجد. هنا لا بد من التأكيد على أن الممارسات الصهيونية المشبعة بإرادة التوسع والسيطرة والهيمنة على شرقي القدس هي جزء من جغرافيا تخيلية صهيونية اتكأت على سردية توراتية واستشراقية واستعمارية إحلالية عمدت مما قبل ١٩٤٨ إلى إعادة تشكيل الجغرافيا المدينية، وفرض أمر واقع عززته بالقوانين، وحولته لاحقاً إلى أيقونة سردية تزعم بأن القدس هي "العاصمة التاريخية" لـ "إسرائيل" و"العاصمة الروحية" لليهودية، وتدعم ملكية الكيان الصهيوني لتلك "الأرض الموعودة"؛ وبالتالي، ان تحليل هذه الجغرافيا التخيلية في شرقي القدس هو تحليل لسياقات مركبة، ولكن ضمن مشروع واحد يهدف إلى تهويد القدس/فلسطين التاريخية وتشويه حقيقتها زمانياً ومكانياً.
المنعطف المكاني والجغرافيا التخيلية:
ساهم المنعطف المكاني، Spatial Turn، الذي دشنه ميشيل فوكو وهنري ليفيفر وتم ترسيخه لاحقًا بواسطة إدوارد سوجا، إلى اعتبار المكان كمكون أساسي في العلاقة بين المعرفة والسلطة، أي في نظم إنتاج المكان وصياغته وتمثيله سردياً، وتشكيله مادياً من خلال الممارسات الجيوسياسية، بما فيها الاحتلال العسكري، والآليات القانونية، والتخطيط العمراني، والهندسة الديموغرافية، والتي يتم توظيفها كجزء من عملية اختراع الذات القومية وبما يخدم مصالح السلطة المسيطرة. كان إدوارد سعيد قد أرسى القاعدة النظرية لهذا المنعطف عن طريق مفهوم الجغرافيا التخيلية، Imaginative Geography، والذي ابتدعه كمفهوم مبني على أهمية تأويل وفهم المكان في تفكيك الابتناء الاستعماري لفضاء الآخر المكاني.[ix] والواقع ان الجغرافيا هي توصيف غير مكاني، وان اكتسبت ثبات معناها وكليته من خلال السرديات التخيلية للمكان، أي عبر تمثيله في اللغة والنصوص التي تنتج صور نمطية عنه، واستحداث القوانين والأدوات والممارسات المؤسساتية لتحقيقهم على واقع أرضه، ومن ثم بكل ما هو مستبعد من نظمهم التمثيلية. إذاً، الجغرافيا، كميدان للمعرفة/السلطة، هي وضع «استراتيجي مكتسب ومرسخ تقريباً في مجابهة ذات مدى تاريخي طويل بين خصوم معينين».[x] ولا أدق عن هذا إلا قول المعماري الإسرائيلي رام كارمي: «اننا لا نخطط التضاريس الطبيعية فحسب، بل التضاريس الذهنية في نفوس البشر، أيضاً».[xi]
والواقع أيضاً إنه لا يمكن فصل المكان عن الزمان، إلا أن الرابط بين المكان والزمان ليس جوهرياً أو تتابعياً أو ظاهرياً، بحيث يكون الماضي سلسلة متصلة من التقدم ومفتاح المكان المتخيل في الحاضر، أو كأن كل ما في التاريخ هو حقيقي ولا يطاله شك، لأنه وقع وانتهى؛ فالتاريخ ليس ما وقع ماضياً، بل ما هو واقع في ماض مستمر في الحاضر ومتجه إلى المستقبل، كما ان التاريخ ليس واحداً، إذ ما زال هناك المغيب والمسكوت عنه في بطون التاريخ. وإن التاريخ الرسمي هو أكثر أنواع التاريخ سيادة، فذاك لأنه اصطنع لأغراض السلطة؛ إنه خطابها حول ذاتها ومجالها المفضل الذي تطور فيه مشروعيتها، أو بوصف والتر بنيامين، وثيقة بربرية ولسان حال الآحاد الذي يصب في خدمة مصالحهم، غير آبه بذكريات وتجارب وسرديات وتضحيات وآلام العموم الكادحة.[xii] التاريخ شبكة معقدة ومركبة من السرديات والعلاقات والعلائق المتداخلة بها، فـ «حيث لا يوجد سرد، لا يوجد تاريخ» بتوصيف بنديتو كروتشه. وبالتالي فان، مفهوم المنعطف المكاني والجغرافيا التخيلية لا يتجاوزان الزمان، بقدر ما هما «تزمين»، بتوصيف بول ريكور، وتأريخ لتاريخ آخر ولذاكرة مغيبة، عودة نقدية للتاريخ وقراءة تفنيديه بـ «انتظار المستقبل وتلقي الماضي وتجربة الحاضر، من دون الإلغاء في كلية يتطابق فيها العقل التاريخي مع واقعه».[xiii] إذاً ليس القصد في الجغرافيا التخيلية التخلص من التاريخانية، بل التداخل بين المكان والزمان والنص، ورفع درجة هذا التداخل للتأكيد على سردية المكان القابضة على تاريخ آخر، ولإنتاج جغرافية ثقافية ندية: تحفر في الثغرات وتفجر مواضع التخلخل فيهم، وتكشف المغيب والمخفي والمهمش، وفي تفكيك لمواقع التلفيق والتزوير والألاعيب الاستراتيجية ومخاتلات النص للمكان والزمان، وفي سعي لتقويض المركزي والأحادي والسلطوي وغيرها من المعطيات التوسعية التي تنطوي عليها السرديات الاستعمارية.
هوامش
[i] Rotbard, Sharon. White City, Black City: Architecture and War in Tel Aviv and Jaffa. (Cambridge: MIT press, 2015).
[ii] إدوارد سعيد. الثقافة والامبريالية. ترجمة: كمال أبو ديب. (بيروت: دار الآداب، ٢٠١٤)، صـ ٧٨.
[iii] خليل التفكجي. «القدس الكبرى كما تراها إسرائيل». مجلة الدراسات الفلسطينية، ١١٣ (شتاء، ٢٠١٨)، صـ ١٩٨.
[iv] خالد عنبتاوي. «يافا ضحية جمالها»، مجلة فسحة (٢٠٢١)، في الرابط الإلكتروني التالي.
[v] خالد عودة الله. «يافا - القدس: تاريخ موجز لسكة الاستعمار»، صفحة باب الواد (٢٠١٨)، في الرابط الإلكتروني التالي.
[vi] المصدر السابق.
[vii] المصدر السابق.
[viii] «وضع القدس في القانون الدولي». دائرة شؤون المفاوضات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، في الرابط الإلكتروني التالي.
[ix] Said, Edward. The World, the Text, and the Critic. (Cambridge: Harvard University Press, 1983), p. 137-8
[x] أوبير دريفوس وبول رابينوف. ميشيل فوكو: مسيرة فلسفية. ترجمة جورج أبي صالح ومطاع صفدي. (بيروت: مركز الإنماء القومي، ١٩٩٠)، صـ ٢٠١.
[xi] سنان عبد القادر. «العمارة والحيز الثالث وما بينهما». بناة ـ العمارة والبناء (٢٠١٠)، في الرابط الإلكتروني التالي.
[xii] الاقتباس الكامل هو: «لا توجد وثيقة حضارية ليست في نفس الوقت وثيقة بربرية. ومثل هذه الوثيقة لا تخلو من البربرية، البربرية تصبغ أيضاً الطريقة التي تم بها نقلها من مالك إلى آخر». أنظر: Benjamin, Walter. “Theses on the philosophy of history”, in Illuminations, ed. Harry Zohn (New York: Schocken Books, 1969), p. 256.
[xiii] بول ريكور. الزمان والسرد، الزمان المروي. الجزء الثالث. ترجمة: سعيد الغانمي. (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ٢٠٠٦)، صـ ٣١٣.