"هاجروا..
أخذوا المكان وهاجروا
أخذوا الزمان وهاجروا
أخذوا روائحهم عن الفخار والكلأ الشحيح
وهاجروا"
محمود درويش
تتحول روايات اللاجئين الفلسطينيين ما قبل وبعد نكبة 48 من حكاية عن الجنة والأيام الملاح إلى قصص عن الدقيق والعجين والخبز. وفي هذه المقالة نستعرض ذكريات سهام سكاب وهي إحدى النساء الفلسطينيات اللاتي عاصرن النكبة وخبرن خلال حياتهن مرارة غياب البيت والرغيف. وللخبز حضور ملفت في روايات السيدة سهام عن محطات حياتها التي تلت الهجرة. فسهام تركت المدرسة بسبب تأخير اضطرت له لتخبز العجين، وخرقت حظر التجوال لأنها خرجت تبحث عن دقيق، واعتادت يومياً المرور من ثلاثة مقابر فجراً لتصل إلى الفرن وهي ما زالت ابنة ثلاث سنوات كبيسة. تروي سهام ذكرياتها عن نكبة 48 ونكسة 67 وما تبعهما من "خرابيش" على حد وصفها والذي يبدو أنها استنبطته من رحلة الشتات والتشتت التي رافقت مسيرة حياة العائلة، فمن البيت الواقع في أكناف القدس مروراً بالتهجير والأسر ومن ثم إلى بيرزيت فرام الله وأريحا والأردن ومن ثم إلى الكويت وليبيا فالولايات المتحدة، تفرق أبناء العائلة الواحدة سعياً لاستعادة محطة اللقاء الأولى.
سكنت عائلة سهام المكونة من ثمانية أشخاص، نادرة ونجوى ويسرى وجوزيف وإلياس وفؤاد ووالداها في بيتهم الواقع في حي مأمن الله في القدس حتى تهجيرهم منه في نكبة 48. أجرى المقابلة مع سهام حفيدها الصديق يامن حويط والذي زودنا مشكوراً بنسخة مصورة منها، ويأتي هذا العمل ضمن مبادرة "ذكريات فلسطينية مهددة "Endangered Palestinian Memories.
القبو "الخبز على البابور والرصاص على الجدران"
قرر والدا سهام الاحتماء مع أولادهم في القبو إثر اشتداد الهجوم على المدينة. تستذكر الجدة سهام تلك الفترة "يابي شو تعذبوا الناس وقت الهجرة، أمي كانت تبقى ميتة خوف وإحنا بالقبو، أنا بس أتذكر هديك الأيامات بتضايق، قعدنا 15 يوم بناكل تطلي وأمي كانت تطبخ الرز وتخبز العجين بالمقلى عالبابور، وبس هديت الدنيا ووقف الطخ طلعت أمي على الطابق لاقت البيت مرشوم رشم رصاص من الشبابيك، يعني لو ما كناش بالطابق التحتاني كان رحنا". خرجت العائلة من القبو لتجد أن المدينة قد احتُلت وأن العصابات الأوروبية- الصهيونية سيطرت على حي مأمن الله، تجول خطاف المدينة في الحي وهجروا من ظلوا في دورهم وأسروا آخرين، تقول سهام ""تركنا البيت بأواعينا، قالتلهم أمي بس بدي أجيب غيارات لأولادي، ولا خلونا...ولما اعتقلوا أبوي والياس والكبار، صارت أمي زي المجنونة، وين أخدوهم.. وين راحوا فيهم.. أي أنا عارفة".
اعتُقل الأب وأخوة سهام الكبار فؤاد والياس ويسرى. أما الأم والأطفال حينها وهم سهام ونجوى وجوزيف ونادرة فقد جرى ترحيلهم إلى جمعية الشبان المسيحيين الدولية ال ـYMCA في إجراء استثنائي شهدته بضع من عائلات القدس التي اصطيدت من بيوتها.
- يامن: شو صار في داركم بالقدس؟
- الجدة: ولا شفناه، ولا دخلناه، ولا رجعناه،
- يامن: الدار لسه موجود؟
- الجدة: ....
ليس بالخبز وحده يحيا الانسان
افتتح مبنى الYMCA عام ١٩٣٣ ودشن بهذه العبارة: "هنا هو المكان الذي يسود فيه جو من السلام، حيث يمكن نسيان الغيرة السياسية والدينية وتعزيز الوحدة الدولية وتطويرها." لكن سهام وأمها لم ينتبهن لهذه الكلمات حيث أُدخلن للمبنى وقلوبهن تحترق قلقاً على أفراد عائلتهن الذين اعتقلهم الصهاينة. كانت تجربة نصف العائلة التي رُحِّلت إلى مبنى الـYMCA فريدة بالمقارنة مع ما حل بالغالبية العظمى من اللاجئين الفلسطينيين.
تصف سهام مفاجأتها آنذاك "لما كنا بالقبو كنا نخبز العجين بالمقلى عالبابور، وفي الYMCA "هناك شفنا الجنة، فيه برك سباحة وبساتين وأشجار وقرنفل مزروع ومراجيح للعب، وثلاث وجبات يومية، ومرة أجت زوجة الملك فاروق، كانوا الملوك ينزلوا فيه مش حيالله". وبالفعل، فإن الملكة نازلي أم فؤاد ملك مصر والسودان كانت قد زارت القدس في شهر كانون الأول 1942 وطالت زيارتها لدرجة أن ابنها الملك فؤاد اضطر أن يطلب من خصمه زعيم حزب الوفد آنذاك "النحاس باشا" السفر للقدس لإقناع الملكة نازلي بالعودة. وأقامت "نازلي" حينها في فندق الملك داوود، وقد تكون قد زارت مبنى الـYMCA آنذاك. بجميع الأحوال، تعتقد سهام أنها خبرت حياة الملوك في الأشهر الثلاثة التي أمضتها في الـYMCA، دون أن تعلم حينها أن الحال سينتهي بالملكة نازلي مشردة في أحياء لوس أنجلوس الفقيرة.
"كنا مرة نلعب بره وإحنا بالـYMCA، وإلا ما شفنالك إلا هالقنابل يطلعوا، تلف تلف تلف تمرق من فوق روسنا وبعدين تنفجر. يوم سحبنا حالنا إلا هي هالقنبلة، قعدنا أولاد صغار حوليها ننكش ننكش وفصلنا الأسلاك، عاد هلا بقول ما أهبلنا بلكي فيها إشي مش مفجور كيف عملنا هيك"
كانت سهام تبلغ من العمر 13 عاماً حين هُجروا من بيتهم في القدس، وأمضت أقل ما يقارب من ثلاثة أشهر في مبنى الـYMCA، وبعد ذلك أعلِن بالجرائد أنه سيُنقل المقيمون في الـYMCA إلى سوق الدباغة في القدس، وعندئذِ كان العديد من أقارب المقيمين بانتظار وصولهم ليقلوهم إلى وجهتهم الجديدة في النزوح. أما عائلة سهام فلم يكن لها سوى عم كبير في العمر يسكن في بلدة بيرزيت ولم يستطع المجيء. تحدث حينها بعض الناس من المحيطين مع أمها وأعطوها 5 ليرات أردنية استطاعت بها دفع تكلفة النقل للوصول إلى بلدة بيرزيت، حيث بدأت معاناة الهجرة تتسع أكثر فأكثر.
- يامن: إيش كانت أحلى فترة ..؟
- الجدة: إيش هوي؟
- يامن: إيش كانت أحلى فترة بحياتك؟
- الجدة: بحياتي؟
- يامن: آه؟
- الجدة: كله زي بعض.. حروب ومشاكل وخوف.
أعطنا خبزنا كفاف يومنا"
وصلت سهام إلى بيرزيت برفقة عائلتها ليجدوا الناس قد جاءوا من اللد والرملة وبيت نبالا وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية المهجرة. كانت أعداد النازحين أكثر بكثير من قدرة استيعاب القرية وكان من الصعب توفير مكان للمبيت للجميع. رأت سهام عائلات تنام تحت الزيتون وغيره من الشجر، وفي الصباح يبحثون عن غرفة ليسكنوها. كانت بيرزيت المحطة الثانية بعد تهجير العائلة من بيتها. وكانت العائلات التي وصلتها معدمة بعد ما سُلبت كل ما تملك، وفي البدايات كان ينام في الغرفة الواحدة عشرة أشخاص. كانت سهام تذهب إلى عين الحمام في بيرزيت وتصطف بدور من عشرات الأشخاص لتعبئة جرة الماء. وكانت عائلة سهام بعد أن سُلبت كل أملاكها في القدس تعتمد على المؤن التي كانت توزع والمكونة في الغالب من طحين وسكر وعجوة وفاصوليا وغير ذلك، وأحياناً كانت تُذبح البقرة وتٌباع أوقية اللحمة بثلاثة قروش. تقول سهام: "كان يوجد في بيتنا في القدس 10 إلى 15 فرشة كلها مصنوعة من صوف الخرفان، وأصبح رطل الصوف 3 أو 4 دنانير حيث كان الناس يأخذوه ويغزلوه ليصنعوا منه ملابس. لو استطعنا أخذ الفرشات معنا لكنا استطعنا بيعها بمبلغ لا بأس به".
في بيرزيت عمل فؤاد الأخ الأكبر لسهام كـ"كهربجي"، والتحق الياس بكلية بيرزيت[1] بينما وجد والدهم عملاً في مخبز في قلنديا. وكانت الأم تعتمد على سهام في المهام المنزلية. تقول سهام "كانت أمي تستيقظ في الفجر لتعجن على صينية كبيرة، أحملها على رأسي وأذهب إلى الفرن فجراً لخبزها، كنت صغيرة و أضطر للمرور من ثلاثة مقابر، وفي يوم من الأيام، وصلت فجراً وكان الفرانون ما زالوا يشعلون نار الفرن، وبعد ذلك، خبزنا العجين وأسرعت عائدة الى البيت وأعطيت أمي الخبز ثم هرعت مسرعة للمدرسة. وصلت المدرسة وإذ بالمعلمة غاضبة لأني لم ألحق موعد الصلاة، فسجلت اسمي ومن ثم أمرتني بالركوع في منتصف قاعة المدرسة لمعاقبتي، ولكني رفضت! وقلت لها إنني لم أفعل شيئاً وأن سبب تأخُري هو أن أمي أرسلتني لخبز العجين. ولأنني رفضت العقوبة، طردتني المعلمة من الصف، فعدت لأمي وأخبرتها بما حدث. فرافقتني أمي للتحدث مع الراهبات اللواتي رفضن مقابلتها مما أثار غضبها، فصاحت: "يلا بلا هالمدرسة" ورغم أنني سُعدت بذلك حينئذِ، إلا أنني أتمنى لو أن أمي لم تسمح لي بترك المدرسة، هي لم تغضب لأن الراهبات أردن معاقبتي على غير حق، بل لرفضهن استقبالها، "يلا مرقت".
كانت سلطات الاحتلال تعلن بالجرائد عن موعد الإفراج عن الأسرى الذين احتجزتهم، وكان خطيب يسرى (أخت سهام المعتقلة) قد جاء من مأدبا ليحاول عبثاً أن يستعلم عن ظروفها في الأسر. "وهاد خطيبها انجن وييجي ويطلع على هالسور وإلا بده يشوف يسرى، وبس عرف إنه يسرى بدها تطلع أجا تكلل عليها وراح غاد عمادبا"، هكذا وصفت سهام حالة خطيب يُسرى بعد أن علم عن خبر اعتقال خطيبته.
أُفرِجَ عن أفراد العائلة جميعاً بشكل متسلسل، وكان الياس آخرهم حيث أمضى ما يقارب سبعة أشهر حتى وجدت العائلة اسمه في الجريدة ضمن قائمة الأشخاص الذين سيفرج عنهم، تقول سهام "لما طلع اسم إلياس قالوا هي في أسير طالع، ورحنا نستقبله عالمنارة ولحد ما وصل تجمعت الناس وصارت زي المظاهرة، الكل جاي بدهم يشوفوا هالأسير إلي طالع، "واحد يسأل عن ابنه وواحد عن أخوه، وواحد عن مش عارف مين"، وتوضح سهام في المقابلة أن معظم المتجمهرين كانوا من أهالي الأسرى والمفقودين الذين جاءوا ليتقصوا من خلال الأسير المفرج عنه إذا كان قد التقى بأولادهم.
- الجدة: يمكن إمك بتعرفش هالقصص، ما عمرنا حكينا قدامها عن الهجرة..
- يامن: ليش ما حكيتوا؟
- الجدة: ما انفتحش الموضوع.
"لم نكبر ولكننا نجونا"[1]
فيما بعد، وجد فؤاد عملاً في الكويت وجوزيف في ليبيا، وعمل الياس كمعلم في أريحا، أما نادرة، فعملت كممرضة في مستشفى المطلع في القدس. ومع تحسن وضع العائلة مادياً استأجرت العائلة بيتاً في رام الله وانتقلت للعيش فيه. في رام الله، شهدت سهام حرب الـ1967 وتتحدث عن القصص التي سمعتها حول الفلسطينيين الذين قُتلوا في الطريق وقصص النزوح الثاني إلى الشرق، "هالنسوان حاملين عجيناتهم وأكلاتهم وهاربين من دورهم، والناس تنزل عأريحا مشي".
بعد أن تراجع الجيش الأردني واحتل الجيش الإسرائيلي المدينة وفرض حظراً للتجوال، نفذ مخزون الطحين بعد عدة أيام من البيت، فقررت سهام أن تخاطر وخرجت من البيت لإحضار الخبز لتعترض طريقها عصابة من الجنود الصهاينة، صاح أحدهم تجاهها قائلاً: "الزموا بيوتكم" فردت سهام: "بدنا نجيب خبز" ليجيب: "الزموا بيوتكم.. الجيش يعلمكم متى تشترون الخبز".
- الجدة: فنجان القهوة زاكي؟
- يامن: ...
[1] المقولة للكاتب الأردني الفلسطيني محمد طمليه.