إذا كان توقيت الأحداث الأخيرة في إسرائيل والأراضي المحتلة مفاجئًا، فالأحداث نفسها تبدو حتمية. ذلك أن حالة من الصدام المستمر تتخللها مذابح من حين لآخر ظلت كامنة في البصمة الوراثية للعلاقة الإسرائيلية-الفلسطينية طوال الخمسة وسبعين سنة الماضية.
إسرائيل دولة يهودية. معنى هذا على أرض الواقع أن الدولة بمؤسساتها وسياساتها شُكلت لضمان أغلبية يهودية. ولذا فاليهود لديهم حقوق ومزايا تفوق بكثير تلك التي يتمتع بها سكان إسرائيل الفلسطينيين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو دروزًا. ومن أهم هذه السياسات تصنيف الجزء الأكبر من الأراضي داخل إسرائيل – ونسبة صغيرة جدًّا من هذه الأراضي مُصنفة كملكية خاصة، أي كأرض يمكن أن تباع وتشترى – كملكية جماعية يهودية. وحتى لو تغاضينا عن حالات النهب المتكرر لأملاك مواطني إسرائيل الفلسطينيين، فإن الوضع المتفاوت للجماعتين اليهودية والفلسطينية كنتاج لسياسة الدولة المنهجية كافٍ لضمان حالة من العداء المتبادل والدائم بين الفلسطينيين وبين الدولة، إضافة إلى تأجيج العداوة بين الشعبين الذين يشكلان إسرائيل.
منذ ١٩٦٧ دأبت إسرائيل على تطبيق هذا النهج على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في تلك السنة فيما عرف بسياسة "الضم الزاحف". وتهدف هذه السياسة استراتيجيًّا إلى السيطرة على أكبر مساحة من الأرض مع الاحتفاظ بأقل عدد من العرب. وعلى مدار نصف قرن توالت عمليات ضم الأراضي وتوسيع المستوطنات، ودفع الفلسطينيين إلى جيوب مكدسة ومعزولة، الأمر الذي كان من شأنه عمليًّا تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي. ومنذ ١٩٩٣ أعطى وهم عملية السلام غطاءًا دبلوماسيًّا لإسرائيل مكّنها من تسريع هذه السياسات بشكل درامي. وبالتالي لم يعد من الممكن تحقيق السلام أو التعايش، وكانت الانتفاضة الفلسطينية من ٢٠٠٠ إلى ٢٠٠٥ بشكل أو بآخر نتيجة طبيعية لهذه السياسات مثلها في ذلك مثل الانتفاضات العديدة السابقة.
وعلى مدار الأسابيع الماضية كانت سياسة إسرائيل الساعية لتهويد الأرض وتبعات هذه السياسة واضحة للعيان في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية. أما انتقاد إسرائيل لأنها تستفز الفلسطينيين بلا داعي، وأن نظامها القضائي وقوات حفظ الأمن لديها يساعدان ويدعمان المستوطنين المتطرفين – هذا الانتقاد يتغافل عن الحقيقة الدامغة التي تقول إن تهويد الأرض هو الهدف الذي تكرس إسرائيل من أجله احتلالها للمدينة، والذي تنتهج الاستيطان وسيلة لتحقيقه، والذي ترى أن رسالتها الأصلية تكمن في تنفيذه. فالأحداث الأخيرة في الشيخ جراح، التي طبقت فيها إسرائيل قوانينها الداخلية على أراض فلسطينية في مخالفة للقانون الدولي، شهدناها مرارًا وتكرارًا على مدار عشرات السنين. وكل مرة يقاوم الفلسطينيون مستخدمين كل الوسائل المتاحة لديهم، وينتهي بهم الحال مقموعين مرة تلو المرة.
من أوضح النتائج التي أسفرت عنها عملية أوسلو للسلام التي بدأت في منتصف التسعينيات، وهي نتيجة عملت إسرائيل على تشجيعها، كان تفتيت الفلسطينيين، وهو تفتيت يتعدى حالة الانقسام بين فتح وحماس. ببساطة، لا يطمع رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في استعادة السيطرة على قطاع غزة. ومن ناحيتها، لا يبدو أن لحماس أي أهداف سوى السيطرة على قطاع غزة. أما النفوذ السياسي لفلسطينيي المهجر على عملية صنع القرار فيكاد يكون قد تلاشى.
في القدس الشرقية التي عزلتها إسرائيل عمليًّا عن الأراضي المحتلة، لعب المواطنون الفلسطينيون داخل إسرائيل دورًا بارزًا في الدفاع عن الطابع العربي للمدينة وعن الأماكن المقدسة الإسلامية بها. كما ساهموا في قيادة المقاومة الأخيرة ضد توسيع المستوطنة الإسرائيلية داخل الشيخ جراح وضد الاعتداء على الحرم الشريف، تلك الساحة الواسعة فوق المدينة القديمة التي تضم المسجد الأقصى، أحد أهم الأماكن الإسلامية المقدسة. إن الدلالة الرمزية والمتعددة للقدس، التي لا معنى للحديث عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم بدونها، تجعل الدعوات للحفاظ عليها إحدى المسائل القليلة المتبقية التي يمكن أن ينضوي تحتها الفلسطينيون المشتتون حتى في ظل تشرذم حركاتهم الوطنية.
وبالتالي فبالنسبة لمواطني إسرائيل الفلسطينيين لم تكن أحداث الشيخ جراح مجرد مثال آخر على ما تفعله إسرائيل بحق إخوانهم في الأراضي المحتلة، بل مثلت تلك الأحداث لهم كل ما هو شاذ بخصوص وضعهم في إسرائيل. ولذا لم يكن غريبًا ولا مستبعدًا عليهم أن يفدوا على القدس، بل تعدى الأمر إلى تنظيمهم المظاهرات ضد إسرائيل في مدنهم وقراهم بالداخل.
يواجه كل من محمود عباس وحماس تحديات خطيرة لشرعيتهم في الأراضي المحتلة، وكانوا ينوون التعامل مع هذه التحديات عن طريق إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في مايو ويوليو من هذا العام، على التوالي. ولكن عندما واجه عباس تنافسًا انتخابيًّا أقوى مما كان يتوقعه استخدم اعتراض إسرائيل على السماح بإجراء الانتخابات في القدس الشرقية كذريعة ليلغي عملية الاقتراع برمتها، مفضلًا هذا الحل على حشد الجماهير للتمسك بحقوقها.
ونتيجة انزواء السلطة في السنوات الأخيرة، مع عملها الدؤوب وراء الستار لقمع الاحتجاجات في الضفة، رأت حماس أن الفرصة مواتية لإثبات رغبتها في توسيع رقعة سيطرتها. فلأول مرة منذ استيلائها على السلطة في قطاع غزة عام ٢٠٠٧ تتحدى حماس إسرائيل على أمور نابعة من خارج القطاع. ولكن يجب أيضًا الأخذ في الاعتبار الحصار الذي ما تزال إسرائيل تفرضه منذ عقد ونصف على القطاع الساحلي مع ما يعنيه ذلك من التحكم في واردات الغذاء، الأمر الذى أبقى حوالي مليونين من الغزاويين على شفا الجوع.
أما من جانبه، فقد أساء رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تقدير الأمور عندما اعتقد أن سكون الفلسطينيين يعني استسلامهم. فحالما خرجت الأزمة التي أفرزتها سياساته عن السيطرة سعى لاستخدام هذه الأزمة لتعزيز فرصه في البقاء في منصبه وفي التغطية على قضايا الفساد التي قد تودي به إلى السجن. وقد سعى لتحقيق ذلك أولا عن طريق إظهار نفسه كحامي الحمى والمدافع عن أمن إسرائيل، وثانيًا عن طريق تأجيج الاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي لإجهاض أي محاولة من قبل منافسيه لتشكيل تحالف يمكنهم من الوصول لأغلبية في الكنيست.
ولكن في المقام الأخير، فإن توزيع الاتهامات عمن تسبب في الانفجار الأخير والبحث عن أسبابه ودوافعه ليس المقصود. بيت القصيد هو أن العلاقة الإسرائيلية-الفلسطينية لا يمكن إلا أن تكون علاقة تصادمية، فإسرائيل قوية والفلسطينيون ضعفاء لدرجة تجعل تعايشهما معا بشكل سلمي مستحيلًا.
هناك حلٌ لهذه الأزمة يكمن في فرض المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، نهاية للاحتلال والعمل على تيسير الوصول إلى حل الدولتين الذي يدعي كلاهما تبنيهما له. ولكن في ظل مصالحهما الخاصة، وبغض النظر عن بعض الكلام الأجوف، يبدو أن هذا الحل أمر بعيد المنال.
في غياب الإرادة السياسية للمجتمع الدولي (وكل الشواهد تؤكد أن هذا الغياب سيستمر لمدة طويلة) فإن الوضع الراهن المتسم بالصدام المستمر الذي يتخلله تصعيد ومذابح من حين لآخر سيستمر حتى يطرأ تحول جوهري في موازين القوة يؤدي إلى استسلام الفلسطينيين أو إلى تغيير إسرائيل جوهريًّا. ولا يبدو أن أيًّا من هذين الاحتمالين وارد في المستقبل المنظور.
[نشرت في مجلة تايم. ترجمها إلى العربية خالد فهمي]